أُنجز هذا التقرير بدعم من برنامج “قريب” الذي تنفذه الوكالة الفرنسية للتنمية الإعلامية CFI وتموله الوكالة الفرنسية للتنمية AFD.
حزينة هي انفعالاتنا على ما شهدناه من استغلال للأطفال في برنامج يشبه البرامج الحواريّة، تستضيف مقدمته نماذج لأطفال مثيرين للاهتمام. وبغض النظر عن الرأي بالـ “فورما” الأصلي للبرنامج، إلا أن “ميني مافيا” جاء ليكرس مبدأ أن نسبة المشاهدة والمنافسة على ما يُعرف بالـ rating تتيح كل المحظورات، وأن إثارة الجدل حول البرنامج هو أفضل ترويج له، وإن جاء على حساب طفل ما زال تحت وطأة وفاة أبيه وخمسة أفراد من عائلته. هكذا عرّينا الطفل وجرّدناه حتى من إمكانية أن نتعاطف معه. لقد انزلقنا جميعاً إلى جلده علناً!
أقول إننا انزلقنا إلى تلك الهوة بعدما حمّلنا الطفل عبء فشلنا كأهل، وأحزاب، ومدارس، ونظام اجتماعي، ودولة، في أن نتيح له خياراً ما “خارج الصندوق” كما تقول مقدمة “ميني مافيا” في التنويهات الترويجية للبرنامج، الذي يبدو مستمراً في نهجه ومقاربته للأطفال.
والحقيقة أننا كلنا وإلى حد بعيد، حفرنا للأطفال عبر مجتبى وشربل قعراً على قياسنا وشبكنا خيوطاً لاستدراجهما، وشهدنا على انزلاقهما، وحين وقعا لمناهما على السقطة، وضحكنا! وها نحن كمحطة التلفزيون، والمقدمة، والجمهور، ننتج كلاماً وتعليقات وكتابات نحصل عبرها لايكات وحتى مقالات مدفوعة.
هي دائرة إنتاج متكاملة نستثمرها كلنا وفقاً لمصالحنا، واتجاهاتنا، وخياراتنا، وحاجاتنا. وننسى أن الطفل فقد والده للتو، وتهجّر من بيته وقريته ومدرسته. إلا أن المناخ الحالي أدى إلى تحرك القاضية المنفردة في بعبدا، جويل أبو حيدر، بناء على شكوى قُدِّمت بتاريخ 2025/1/5 بشأن عرض محطة “الجديد” حلقة “Mini Mafia” بتاريخ 2025/1/4، والتي تضمنت استضافة أطفال ناقشوا مواضيع سياسية وطائفية بشكل غير ملائم لأعمارهم.
كما دفعت الحلقة بوزارة الإعلام إلى إصدار بيان يدعو الى ضمان معالجة تبعات الحلقة وحماية الأطفال. حتى أن وزارة الشؤون الاجتماعية استفاقت من كبوتها فاستنكرت استغلال الأطفال في برامج إعلامية لا تراعي خصوصيتهم أو أعمارهم، ودعت الى تطبيق سياسات حماية الطفل.
وفي بيان لها، أوضحت القناة أن الهدف من البرنامج هو إبراز مواهب الأطفال، وأن حواراً غير ملائم بُثّ بالخطأ نتيجة إهمال وظيفي، وقد حُذف وأُجري تحقيق داخلي، مؤكدة احترامها لخصوصية الأطفال وتقديم اعتذار عن هذا الخطأ. جاء اعتذار المحطة هزيلاً معللاً بأن الحلقة “كانت محاولة لتظهير أثر توريث أفكارنا وعقائدنا على الأطفال”.
والحقيقة أن ما شهدنا عليه في إحدى حلقات برنامج “ميني مافيا” هو استدراج الأطفال الى أداء أدوار الكبار وتبني خطابات سياسية أو عقائدية على قياس الكبار. بلغ ذلك حداً دفع المذيعة إلى تعمّد تصيّد الطفل في إفصاحه عن خضوعه المزعوم لتدريب عسكري وحمله السلاح، بينما ارتدى كل طفل زياً تقليدياً يعكس انتماءً حزبياً. حتى أن المذيعة طلبت من الطفل مراراً ارتداء وشاح حزب أبيه الذي مات للتو.
هل حصل ذلك كله مصادفة؟ ألم يتنبه أحد الى كل ما يحصل؟ كيف لنا أن ننصب فخاً لطفل ليقول إنه تدرب على حمل السلاح؟ وكيف يمكن أن يتم استغلال الأطفال لتبني مواقف مذهبية أو دينية أو عقائدية فيما لم تتح لهم فرصة التفكير النقدي أو بناء خطاب مسؤول ومستقل؟ كيف لهم أن يفكروا “خارج الصندوق” ونحن نتصيدهم في صناديقنا. وها نحن وفي كل مرة، نسقط في وحول الأخطاء الأخلاقية ونجد لها تبريرات وأعذار تعمّق الإساءة لا بل تكرّسها.
يحمّل تعريض الأطفال لهذه المواقف، وسائل الإعلام مسؤولية أخلاقية كبيرة. فإذا كان الهدف من البرنامج توجيه رسالة الى الأهل بأن هذه السلوكيات خطأ، فلا يمكن تحقيق ذلك بتعريض الأطفال لمخاطر أكبر من الأخطاء التي ارتكبها الأهالي بحقهم. من يحمي هؤلاء الأطفال من التنمر؟ من يحميهم من العواقب الاجتماعية أو القانونية التي قد تترتب على تصريحاتهم؟ من يحميهم من نقدنا وسخريتنا!
ليست المرة الأولى التي يرتكب فيها التلفزيون انتهاكات شبيهة. حتى أن النقاش عينه والمقاربة نفسها قام بهما مالك مكتبي منذ سنتين أو أكثر. كما أن جو معلوف، وفي فقرة عُرضت خلال استضافته في برنامج “صار الوقت” خلال الحرب على لبنان، لم يتوانَ عن تصوير طفل يهدد بالانتقام والقتل. حينها قال جو إن هدفه من عرض الفيديو هو إدانة الحزب المسؤول عن تشريب الطفل هذه الأفكار. كما أن المقدم نفسه، المستهجن لحلقة “ميني مافيا”، لم يستجب لطلب أخت عبير رحال، التي قتلها زوجها بعد عرض فيديو يروي فيه تبريرات مقيتة عن أسباب جريمته، بعدم استعادة عرض الفيديو. قالت له “لا، بليز، لا، ما تعرض، طيب بس مش كلو”…
لكن جو، المنتصر للنساء والأطفال على حد زعمه، لم يستجب لطلب ضيفته، فعرض الفيديو وتصيّدت الكاميرا دموع الأخت والأم.
وكأن المواقف الأخلاقية تأتي حسب الطلب، وكأننا نحشر أنفسنا والأطفال معنا في صناديق تطبق على آمالنا في أحلام ممكنة!
إقرأوا أيضاً: