fbpx
ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

عن البطولات والخيانات والهزائم… لمَ لمْ نتعلّم من هزائمنا طيلة عقود؟!

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

النصر لم يأت. تعاقبت الهزائم فوق الهزائم، وبقينا نحن الأبطال المنتظرين “لحظتهم”، ولو مبطوحين على الأرض وبساطير العسكر، ,والطغاة والمحتلين تدوسنا، بينما “لحظتنا” لم تأت أبداً. 

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

هذه السطور لا تحاول الإجابة عن السؤال أعلاه، بقدر ما تحاول تقديم مقاربة عبر محطات عدة من سيرة ذاتية، عساها تساهم في رؤية أكثر وضوحاً، ولو قليلاً، لطبيعة المعوقات التي تجعل كل مشاريع الحياة في منطقتنا حلماً، غالباً ما يقود إلى خراب.

عندما كان أصدقاء لي يكتبون ليلاً على الجدران، في حينا في دمشق، إبان مذبحة تل الزعتر، في منتصف السبعينات، “أسد أسد في لبنان، فأر فأر في الجولان”، كنا، ونحن لا نزال أطفالاً بعد، نظن أن هذا لم يكن عملاً “بطولياً” فحسب، بل وكذلك فيه عين الحقيقة التي يعرفها الجميع، حافظ الأسد أجبن وبكثير من أن يواجه إسرائيل المعتدية. 

هل كنا ندرك آنذاك أن المشكلة لم تكن في كونه جباناً، أو حتى شجاعاً، في أرض المعركة، بقدر ما هو مستبد وظالم في أرض الوطن؟! كان على بعض أصدقائي، ممن تمت الوشاية بهم، أن يخوضوا تلك التجربة السوداء وهم أطفال بعد، أكبرهم لم يتجاوز السادسة عشرة من العمر، إلى آخرها. 

اعتُقلوا وأمضوا في سجون الطاغية سنوات وخرجوا، من دون أن يسعف الوقت بعضهم ليدرك أن السنوات التي سرقها الطاغية من أعمارهم ستترك فراغاً سيرافقهم طيلة ما بقي لهم من عمر، مهما طال. أحدهم قضى بعد خروجه ببضع سنوات فقط، بسبب ما تركه التعذيب من آثار على صحته، وهو لم يصل إلى الثلاثين بعد. 

اجتمعنا عند قبره نتذكر “بطولته”، فقد كان أول من نزل إلى الشارع لكتابة الشعار.

شعارات عظمى

عندما بدأ أول حراك مدني في سوريا، نهاية السبعينات من القرن الماضي، وشاركت فيه النقابات المهنية، المحامون، الأطباء، المهندسون والمعلمون… كنت في نهاية المرحلة الثانوية، وبداية الدراسة الجامعية.

 آنذاك، وكوني وعيت على هذه الدنيا وقد تربع البعث على أنفاس العالمين (كنت بالكاد أبلغ عاماً واحداً عندما استولى البعث على السلطة في البلاد)، لم أكن أفهم من الرطانة المتداولة في الحيز السياسي العام سوى تلك التي غرستها التربية البعثية بإصرار غريب، أتذكره الآن، يكاد يقارب درجة العُصابية فعلاً، حتى من معلمينا أنفسهم. 

تلك الرطانة لم تكن غالباً، ويا لضحالة المخيلة التي نشأنا في ظلها، تتجاوز ثالوث البعث المقدس: الوحدة والحرية والاشتراكية. هكذا بعموميتها المطلقة من دون أية محاولة لكسر حدة الشعاراتية هذه، ولو بأي إشارة إلى أن بعضاً ممن يتبنون تلك الشعارات هم في نهاية المطاف بشر وليسوا حجراً، حتى ولو بدا ذلك اللون البشري نافراً آنذاك! 

خارج المتداول، أي المصرح بتداوله من المرجعية البعثية، لم يكن متاحاً لنا، وكجيل بدأ يتشكل وعيه السياسي في ذلك الوقت، أية فرصة لنفهم أن الحديث في السياسة يمكن، بل يجب، أن يتناول تفاصيل حياتنا كبشر أولاً، وبما يجعلنا أكثر سعادة في الحياة. وبالتالي، لا بد من الحديث عن أشياء، ملونة، متنوعة، بل ومعقدة أحياناً، بحيث تكون سعادتنا هي مرجعيتها جميعاً، والطريقة الوحيدة لفك طلاسم المعقد منها.

 هذا كله لم يكن وارداً، لأنه كان خارج إطار الثالوث المقدس أعلاه، بل وبعيد عنه بُعد السماء عن الأرض.

ضمن حيز التداول العام، لم يكن وارداً أبداً أن نبدأ بتفاصيل حياتنا البسيطة، وما نحتاجه بشكل مباشر وملح، في معزل عن أي “جيوبوليتيك”، كبداية لأي حديث في السياسة. 

كان لا بد من “شعار” ما، يشكل مرجعية كلامنا، حتى بالنسبة الى كثيرين ممن عارضوا النظام القائم. وهم أنفسهم عارضوه ليس على أساس عدم سماحه للآخرين بأن يعيشوا مرتاحين وسعداء في بلادهم، بل لكونه، أي النظام، لم يكن وفياً لتلك الشعارات العظمى التي رفعها، والتي لم تكن إلا ذريعة فقط لإدامة تحكّمه بمقدرات البلاد! 

أي أن المعترضين على النظام القائم، كانوا في غالبيتهم يحاربوه فعلياً على أرضيته نفسها، تلك الأرضية التي لم يكن أي منا أصلاً يعرف أرضية غيرها للوقوف عليها. 

لذلك، تعاملت، كما تعامل كثر غيري، كما أظن، مع مطلب “إلغاء الأحكام العرفية”، كمجرد ديباجة لتكميل المطالب الأساسية لذلك الحراك. بل إن مفهوم الحراك السلمي نفسه، كان صعب التصور في أذهان كثر، بالذات الشبيبة الجديدة، وهم قد نشأوا في ظل محرك واحد للحياة السياسية كما عرفوها طيلة عمرهم: الدبابة ولا شيء سواها. 

حيث ما أُخذ بالقوة، لا يُسترد إلا بالقوة. 

الحل كان ممكناً ولكن!

مع بداية الانتفاضة الثانية في الأراضي الفلسطينية، إثر زيارة شارون للأقصى، كان الخوف يملؤني من أن يتم إجهاض هذه الانتفاضة بأية طريقة ممكنة. مع أني للحقيقة، وكنت قد بلغت آنذاك نهاية الثلاثينيات من عمري، لم أكن أعرف ما هي الأهداف الموضوعية لتلك الانتفاضة، عدا عن الاحتجاج على “تدنيس” المسجد الأقصى من خلال زيارة شارون له! 

كانت “القضية الفلسطينية” برمتها وصلت إلى منعطف، هو ما قبل النهاية بالنسبة إليها، عبر اتفاق أسلو، وكان يفترض بمشروع الدولة أن يقلع، لولا التربص الإسلامي والصهيوني المتطرف بهذا الاتفاق. 

كانت هناك نقاط كثيرة يمكن أن تناقش، ومقاربات سياسية يمكن أن تبدأ للوصول إلى السلام النهائي كهدف أسمى. في حال وجود نخبة سياسية مقتدرة وشجاعة في قول الحقيقة كاملة للجمهور، أي ما لهم وما عليهم فعلاً، عند الطرف الفلسطيني؛ ونخبة سياسية تريد السلام فعلاً، وتقول في المقابل لجمهورها ما لهم وما عليهم فعلاً، عند الطرف الإسرائيلي. كان يمكن الوصول إلى ألف حل، في حال توافر الشرطين أعلاه. 

ولكن فعلياً، وفي ما يبدو، فإن التربص هو الذي انتصر في نهاية المطاف. ليس فقط ذلك الموجود عند البعض من طرفي الاتفاق: فلسطينيو الضفة والقطاع، والإسرائيليون معهم؛ بل أيضاً من جهة أولئك الذين يتابعون ما كان يحصل، وهم على بعد مئات، بل وآلاف الأميال، يعيشون في فلك آخر تماماً مختلف عما يحدث على أرض فلسطين التاريخية، ولكنهم في المقابل خائفون على “قضيتهم” بأن تتم تصفيتها! 

كنت واحداً من أولئك. لم يكن يعنيني وقتها أي شيء يتعلق بأولئك الذين يدفعون ثمن تلك الانتفاضة، فلسطينيو الضفة بالدرجة الأولى، التي دامت خمس سنوات، وتبين إثرها أن ما فعله الإسرائيليون كان مخططاً له منذ لحظة زيارة شارون الى الأقصى، فقط للوصول إلى النتيجة المشتهاة من كل متطرّفيهم: لا يوجد شريك لنا في الطرف الفلسطيني، ومشروع السلام مجرد وهم سندفع نحن وحدنا ثمنه، ولا شيء آخر بإمكان الفلسطينيين الوصول إليه أكثر من مناطق تدار بواسطتهم، وتحت إشرافنا المباشر. 

مع أن الأمر كان واضحاً منذ البداية، بل إن وقاحة شارون كانت أبلغ بكثير من أن تتم التعمية على أهدافها المعلنة، إلا أننا، جميعاً، كنا مأخوذين بالبطولية التي استعادت رونقها مع عودة الحجر إلى يد الفلسطيني مرة أخرى، ناسين أن الحجر الأول قاد إلى بداية الطريق، إلى دولة، بينما الثاني، لا نعلم، ولم نتفق، ولا حتى أعلنا فعلياً، إلى أين يريد أن يقودنا. كانت مجرد أفكار، في أحسنها، وأكثرها واقعية: دعونا ننهي القضايا المعلقة، وتحديداً بما يتعلق بالقدس، عبر هذا الطريق. عليهم أن يفهموا أننا نملك أوراقاً للضغط، خصوصاً أمام رأي عام عالمي متعاطف معنا، لن يلبثوا أن يعيدوا حساباتهم بسرعة قبل أن يخسروه نهائياً… إلى آخر تلك الديباجات.

لم يكن هناك أي برنامج سياسي حقيقي وواقعي، له أهداف محددة يمكن الوصول إليها في مواجهة خصم محدد. كان الأمر أشبه بعراضة لا أكثر، وهي ككل العراضات، كانت تريد أن تحيي تراثاً قد اندثر. تراثنا هنا كان “قضيتنا” وعودة الروح إليها، تلك التي سلبها اتفاق أوسلو. انتهى المشهد بموت عرفات قتلاً بالسم. 

من أجل ماذا نثور؟!

عندما حلّت كارثة السابع من تشرين الأول/ أكتوبر فوق رؤوس الجميع، وأولهم الغزاويون، لم يحتج الأمر مني أكثر من دقائق، لأدرك حجم تلك الكارثة. 

لم أكن وحدي بالتأكيد، ولكني آنذاك كنت بلغت الواحدة والستين. 61 عاماً، تخللتها ثورتان ضد نظام طغيان مفترس في سوريا، الثانية منهما احتاجت إلى ثلاثين عاماً لتنطلق مجدداً، مصمّمة على المضي إلى النهاية، التي اختارها النظام بنفسه فأحرق البلد بمن بقي فيها. 

احتجت إلى هذا العمر كله، لأدرك أمراً في غاية البساطة: إن لم نثر من أجل أن نحيا، فمن أجل ماذا نثور؟! وإن كنا عاجزين عن تحديد معنى إنساني واضح لقيمة “البطولة”، وبصفتها طلباً للحياة، وليست مقارعة للموت، وبقينا نربطها بتلك المعاني المنفوخة نفسها التي أوجدها نظام الطغيان والتغول ذاته، وأخذها عنه كل الطغاة اللاحقين، فلتذهب تلك “البطولة” إلى الجحيم. وإن كان الأسد أسداً في قلب القدس نفسها، فسيبقى بالنسبة إلينا مستبداً ظالماً مجرماً، مكانه الطبيعي السجن أو مستشفى المجانين.  

المشكلة أن الكارثة التي حلّت فوق رؤوسنا بغتة في تشرين الأول الماضي، كانت في نظر الغالبية الكاسحة، ممن يعيشون، كالعادة، بعيدين جداً عن أرض المعركة، وعن أولئك الذين يتوجب عليهم دفع الثمن الأكبر لتلك المعركة، كانت أفقاً جديداً منعشاً لتلك “البطولة”.

أنظر إلى أولئك، كلهم في مثل عمر أولادي، وأشعر بأسف. أود أن أنقل إليهم ما عشت. “ولكن، وماذا عن الذي يجب أن يعيشوه هم بأنفسهم؟! هذا إن اقتنعوا بحرف مما تقول، واكتفوا بالإعراض ولم يتهموك بالخيانة كما حصل فعلاً معك، ومن جهة أقرب الناس إليك، بعيد الكارثة بأسابيع فقط.” أقول لنفسي. 

لا يمكن إنكار الحق بالحياة على الفلسطينيين، والغزاويين منهم قبل الجميع. والحياة في قطاع غزة لم تكن حياة أبداً. الحصار الإسرائيلي هو المعيق الرئيسي من دون أي شك، ولكن هل كان هو الوحيد؟! 

حماس لم تقصر أبداً في جعل تلك الحياة أكثر صعوبة، مما هي عليه أصلاً في ظل الحصار الظالم. بل إن الأصوات الغزاوية، وبعدما وقعت الواقعة، بدأت بالارتفاع مندّدة بممارسات، سبقت “الطوفان” الكارثي، بسنوات، ودامت منذ سيطرة حماس على القطاع. تقول تلك الأصوات بوضوح إن الحصار الحقيقي، والمحكم، حول رقاب أهل غزة أجمعين، كان من جهة التنظيم الجهادي هذا، على قدم المساواة مع الحصار الإسرائيلي، إن لم يكن أكثر.

ومع ذلك، وعلى الرغم منه، ألم تكن تكفينا مشاهد الدمار الهائل الذي لحق بغزة، وأهلها، الذين تُركوا على قارعة الطريق من دون حتى ملجأ يحميهم، بينما اختفت حماس ومقاتليها وقادتها وعائلاتهم، في أنفاق صرفت عليها الملايين، بينما لا توجد في القطاع كله شبكة تصريف صحي واحدة يمكن التعويل عليها لخدمة هذا العدد المهول من السكان، المحصورين في أضيق مكان يمكن تخيّله لهم، وطيلة 16 عاماً من حكم حماس للمكان؟ 

“البطل” لا ينظر إلى أين يجب أن يقضي البشر حاجاتهم. هو أصلاً، وكبطل، لا يشعر بحاجة، حتى لقضاء الحاجة. هذا ليس تهكماً من حماس، هذا ما كنا عليه طيلة عقود كاملة من فهمنا معاني الحياة كلها بصفتها تدور في فلك قيمة واحدة: البطولة. 

أثمان باهظة قبضها سماسرة

في كل حكايات العالم الجذابة، دائماً ما يقع البطل، ولكنه لا يلبث أن يقوم، ما إن تحين “لحظته”، ويرد الصاع صاعين لمن هزموه، غالباً غدراً، وأذلّوه. لا تكتسب الحكاية معناها من دون هذه المعاناة، وهذا الصبر، والتمسك بـ “الثوابت” الواضحة، والتي لا تحتاج إلى تبرير أو تأويل أو حتى شرح. إنها هكذا، منذ خلقت الخليقة: الأبيض أبيض، والأسود أسود. ونحن، نحن المظلومين الأزليين، قدرنا من صخر وسنمضي في قدرنا إلى آخره، حتى النصر. هكذا كنا نختم خطاباتنا إبان فترة التنظيم الفتحاوي: “وإنها لثورة حتى النصر”.

ولكن النصر لم يأت. تعاقبت الهزائم فوق الهزائم، وبقينا نحن الأبطال المنتظرين “لحظتهم”، ولو مبطوحين على الأرض وبساطير العسكر، طغاة ومحتلين، تدوسنا، بينما “لحظتنا” لم تأت أبداً. 

أفهم أن هناك من يستثمر في هذا الشعور بالذل والرغبة الصادقة والحارقة فعلاً عند ملايين، في ردّه بأي ثمن. بل إن الأثمان دفعت فعلاً، وقبضها سماسرة البطولة من نجوم الإعلام الممول، بينما بقينا نحن نقتات مخيلات مضى عليها الزمن، وبليت، وأبلتنا معها، ولم نيأس من لحظة نصبح فيها كما “الكونت ديمونت كريستو”!

لكن “الكونت ديمونت كريستو” مجرد حكاية، وهي على ورق فعلاً! عندما أعارني نسخة منها صديقي الذي قضى قبل أن يبلغ الثلاثين، وكنا لا نزال أطفالاً بعد، نبهني إلى “حقيقة” عشتها سنين طويلة من عمري: هذه حكاية لن تنساها أبداً، قال لي. 

بقي الكتاب معي بعيد اعتقال صديقي. إثر خروجه، بعد سنين من المعتقل، نسي أن يسألني أن أرد الكتاب، وأنا احتفظت به، ليس فقط لأنه ذكرى لسنوات صداقة طويلة، على رغم أننا كنا لا نزال شباباً بعد، بل أيضاً لأنني أحببت الحكاية. بعد وفاته، وكان حرياً بي أن أتمسك بالكتاب أكثر، أضعته، لا أدري أين. كل ما حصل أنني اضطررت إلى بيع مكتبتي مرتين متتاليتين، خلال بضع سنين فقط، لأشتري خبزاً. 

ليلاس حتاحت- صحافيّةسوريّة | 09.05.2025

سوريات في السجن اللبناني (2): الزنزانة التي أيقظت تروما الاغتصاب الأول

هذه الحلقة الثانية من ثلاث حلقات، تروي فيها الصحافية السورية ليلاس حتاحت، شهادة عن تجربة مؤلمة عاشتها في سجن لبناني، أمضت فيه سبعة أيّام بلياليها، بعد اكتشافها تلفيق تهمة لها حين كانت في أوروبا، باستخدام اسمها وجواز سفرها السوري.
07.06.2024
زمن القراءة: 9 minutes

النصر لم يأت. تعاقبت الهزائم فوق الهزائم، وبقينا نحن الأبطال المنتظرين “لحظتهم”، ولو مبطوحين على الأرض وبساطير العسكر، ,والطغاة والمحتلين تدوسنا، بينما “لحظتنا” لم تأت أبداً. 

هذه السطور لا تحاول الإجابة عن السؤال أعلاه، بقدر ما تحاول تقديم مقاربة عبر محطات عدة من سيرة ذاتية، عساها تساهم في رؤية أكثر وضوحاً، ولو قليلاً، لطبيعة المعوقات التي تجعل كل مشاريع الحياة في منطقتنا حلماً، غالباً ما يقود إلى خراب.

عندما كان أصدقاء لي يكتبون ليلاً على الجدران، في حينا في دمشق، إبان مذبحة تل الزعتر، في منتصف السبعينات، “أسد أسد في لبنان، فأر فأر في الجولان”، كنا، ونحن لا نزال أطفالاً بعد، نظن أن هذا لم يكن عملاً “بطولياً” فحسب، بل وكذلك فيه عين الحقيقة التي يعرفها الجميع، حافظ الأسد أجبن وبكثير من أن يواجه إسرائيل المعتدية. 

هل كنا ندرك آنذاك أن المشكلة لم تكن في كونه جباناً، أو حتى شجاعاً، في أرض المعركة، بقدر ما هو مستبد وظالم في أرض الوطن؟! كان على بعض أصدقائي، ممن تمت الوشاية بهم، أن يخوضوا تلك التجربة السوداء وهم أطفال بعد، أكبرهم لم يتجاوز السادسة عشرة من العمر، إلى آخرها. 

اعتُقلوا وأمضوا في سجون الطاغية سنوات وخرجوا، من دون أن يسعف الوقت بعضهم ليدرك أن السنوات التي سرقها الطاغية من أعمارهم ستترك فراغاً سيرافقهم طيلة ما بقي لهم من عمر، مهما طال. أحدهم قضى بعد خروجه ببضع سنوات فقط، بسبب ما تركه التعذيب من آثار على صحته، وهو لم يصل إلى الثلاثين بعد. 

اجتمعنا عند قبره نتذكر “بطولته”، فقد كان أول من نزل إلى الشارع لكتابة الشعار.

شعارات عظمى

عندما بدأ أول حراك مدني في سوريا، نهاية السبعينات من القرن الماضي، وشاركت فيه النقابات المهنية، المحامون، الأطباء، المهندسون والمعلمون… كنت في نهاية المرحلة الثانوية، وبداية الدراسة الجامعية.

 آنذاك، وكوني وعيت على هذه الدنيا وقد تربع البعث على أنفاس العالمين (كنت بالكاد أبلغ عاماً واحداً عندما استولى البعث على السلطة في البلاد)، لم أكن أفهم من الرطانة المتداولة في الحيز السياسي العام سوى تلك التي غرستها التربية البعثية بإصرار غريب، أتذكره الآن، يكاد يقارب درجة العُصابية فعلاً، حتى من معلمينا أنفسهم. 

تلك الرطانة لم تكن غالباً، ويا لضحالة المخيلة التي نشأنا في ظلها، تتجاوز ثالوث البعث المقدس: الوحدة والحرية والاشتراكية. هكذا بعموميتها المطلقة من دون أية محاولة لكسر حدة الشعاراتية هذه، ولو بأي إشارة إلى أن بعضاً ممن يتبنون تلك الشعارات هم في نهاية المطاف بشر وليسوا حجراً، حتى ولو بدا ذلك اللون البشري نافراً آنذاك! 

خارج المتداول، أي المصرح بتداوله من المرجعية البعثية، لم يكن متاحاً لنا، وكجيل بدأ يتشكل وعيه السياسي في ذلك الوقت، أية فرصة لنفهم أن الحديث في السياسة يمكن، بل يجب، أن يتناول تفاصيل حياتنا كبشر أولاً، وبما يجعلنا أكثر سعادة في الحياة. وبالتالي، لا بد من الحديث عن أشياء، ملونة، متنوعة، بل ومعقدة أحياناً، بحيث تكون سعادتنا هي مرجعيتها جميعاً، والطريقة الوحيدة لفك طلاسم المعقد منها.

 هذا كله لم يكن وارداً، لأنه كان خارج إطار الثالوث المقدس أعلاه، بل وبعيد عنه بُعد السماء عن الأرض.

ضمن حيز التداول العام، لم يكن وارداً أبداً أن نبدأ بتفاصيل حياتنا البسيطة، وما نحتاجه بشكل مباشر وملح، في معزل عن أي “جيوبوليتيك”، كبداية لأي حديث في السياسة. 

كان لا بد من “شعار” ما، يشكل مرجعية كلامنا، حتى بالنسبة الى كثيرين ممن عارضوا النظام القائم. وهم أنفسهم عارضوه ليس على أساس عدم سماحه للآخرين بأن يعيشوا مرتاحين وسعداء في بلادهم، بل لكونه، أي النظام، لم يكن وفياً لتلك الشعارات العظمى التي رفعها، والتي لم تكن إلا ذريعة فقط لإدامة تحكّمه بمقدرات البلاد! 

أي أن المعترضين على النظام القائم، كانوا في غالبيتهم يحاربوه فعلياً على أرضيته نفسها، تلك الأرضية التي لم يكن أي منا أصلاً يعرف أرضية غيرها للوقوف عليها. 

لذلك، تعاملت، كما تعامل كثر غيري، كما أظن، مع مطلب “إلغاء الأحكام العرفية”، كمجرد ديباجة لتكميل المطالب الأساسية لذلك الحراك. بل إن مفهوم الحراك السلمي نفسه، كان صعب التصور في أذهان كثر، بالذات الشبيبة الجديدة، وهم قد نشأوا في ظل محرك واحد للحياة السياسية كما عرفوها طيلة عمرهم: الدبابة ولا شيء سواها. 

حيث ما أُخذ بالقوة، لا يُسترد إلا بالقوة. 

الحل كان ممكناً ولكن!

مع بداية الانتفاضة الثانية في الأراضي الفلسطينية، إثر زيارة شارون للأقصى، كان الخوف يملؤني من أن يتم إجهاض هذه الانتفاضة بأية طريقة ممكنة. مع أني للحقيقة، وكنت قد بلغت آنذاك نهاية الثلاثينيات من عمري، لم أكن أعرف ما هي الأهداف الموضوعية لتلك الانتفاضة، عدا عن الاحتجاج على “تدنيس” المسجد الأقصى من خلال زيارة شارون له! 

كانت “القضية الفلسطينية” برمتها وصلت إلى منعطف، هو ما قبل النهاية بالنسبة إليها، عبر اتفاق أسلو، وكان يفترض بمشروع الدولة أن يقلع، لولا التربص الإسلامي والصهيوني المتطرف بهذا الاتفاق. 

كانت هناك نقاط كثيرة يمكن أن تناقش، ومقاربات سياسية يمكن أن تبدأ للوصول إلى السلام النهائي كهدف أسمى. في حال وجود نخبة سياسية مقتدرة وشجاعة في قول الحقيقة كاملة للجمهور، أي ما لهم وما عليهم فعلاً، عند الطرف الفلسطيني؛ ونخبة سياسية تريد السلام فعلاً، وتقول في المقابل لجمهورها ما لهم وما عليهم فعلاً، عند الطرف الإسرائيلي. كان يمكن الوصول إلى ألف حل، في حال توافر الشرطين أعلاه. 

ولكن فعلياً، وفي ما يبدو، فإن التربص هو الذي انتصر في نهاية المطاف. ليس فقط ذلك الموجود عند البعض من طرفي الاتفاق: فلسطينيو الضفة والقطاع، والإسرائيليون معهم؛ بل أيضاً من جهة أولئك الذين يتابعون ما كان يحصل، وهم على بعد مئات، بل وآلاف الأميال، يعيشون في فلك آخر تماماً مختلف عما يحدث على أرض فلسطين التاريخية، ولكنهم في المقابل خائفون على “قضيتهم” بأن تتم تصفيتها! 

كنت واحداً من أولئك. لم يكن يعنيني وقتها أي شيء يتعلق بأولئك الذين يدفعون ثمن تلك الانتفاضة، فلسطينيو الضفة بالدرجة الأولى، التي دامت خمس سنوات، وتبين إثرها أن ما فعله الإسرائيليون كان مخططاً له منذ لحظة زيارة شارون الى الأقصى، فقط للوصول إلى النتيجة المشتهاة من كل متطرّفيهم: لا يوجد شريك لنا في الطرف الفلسطيني، ومشروع السلام مجرد وهم سندفع نحن وحدنا ثمنه، ولا شيء آخر بإمكان الفلسطينيين الوصول إليه أكثر من مناطق تدار بواسطتهم، وتحت إشرافنا المباشر. 

مع أن الأمر كان واضحاً منذ البداية، بل إن وقاحة شارون كانت أبلغ بكثير من أن تتم التعمية على أهدافها المعلنة، إلا أننا، جميعاً، كنا مأخوذين بالبطولية التي استعادت رونقها مع عودة الحجر إلى يد الفلسطيني مرة أخرى، ناسين أن الحجر الأول قاد إلى بداية الطريق، إلى دولة، بينما الثاني، لا نعلم، ولم نتفق، ولا حتى أعلنا فعلياً، إلى أين يريد أن يقودنا. كانت مجرد أفكار، في أحسنها، وأكثرها واقعية: دعونا ننهي القضايا المعلقة، وتحديداً بما يتعلق بالقدس، عبر هذا الطريق. عليهم أن يفهموا أننا نملك أوراقاً للضغط، خصوصاً أمام رأي عام عالمي متعاطف معنا، لن يلبثوا أن يعيدوا حساباتهم بسرعة قبل أن يخسروه نهائياً… إلى آخر تلك الديباجات.

لم يكن هناك أي برنامج سياسي حقيقي وواقعي، له أهداف محددة يمكن الوصول إليها في مواجهة خصم محدد. كان الأمر أشبه بعراضة لا أكثر، وهي ككل العراضات، كانت تريد أن تحيي تراثاً قد اندثر. تراثنا هنا كان “قضيتنا” وعودة الروح إليها، تلك التي سلبها اتفاق أوسلو. انتهى المشهد بموت عرفات قتلاً بالسم. 

من أجل ماذا نثور؟!

عندما حلّت كارثة السابع من تشرين الأول/ أكتوبر فوق رؤوس الجميع، وأولهم الغزاويون، لم يحتج الأمر مني أكثر من دقائق، لأدرك حجم تلك الكارثة. 

لم أكن وحدي بالتأكيد، ولكني آنذاك كنت بلغت الواحدة والستين. 61 عاماً، تخللتها ثورتان ضد نظام طغيان مفترس في سوريا، الثانية منهما احتاجت إلى ثلاثين عاماً لتنطلق مجدداً، مصمّمة على المضي إلى النهاية، التي اختارها النظام بنفسه فأحرق البلد بمن بقي فيها. 

احتجت إلى هذا العمر كله، لأدرك أمراً في غاية البساطة: إن لم نثر من أجل أن نحيا، فمن أجل ماذا نثور؟! وإن كنا عاجزين عن تحديد معنى إنساني واضح لقيمة “البطولة”، وبصفتها طلباً للحياة، وليست مقارعة للموت، وبقينا نربطها بتلك المعاني المنفوخة نفسها التي أوجدها نظام الطغيان والتغول ذاته، وأخذها عنه كل الطغاة اللاحقين، فلتذهب تلك “البطولة” إلى الجحيم. وإن كان الأسد أسداً في قلب القدس نفسها، فسيبقى بالنسبة إلينا مستبداً ظالماً مجرماً، مكانه الطبيعي السجن أو مستشفى المجانين.  

المشكلة أن الكارثة التي حلّت فوق رؤوسنا بغتة في تشرين الأول الماضي، كانت في نظر الغالبية الكاسحة، ممن يعيشون، كالعادة، بعيدين جداً عن أرض المعركة، وعن أولئك الذين يتوجب عليهم دفع الثمن الأكبر لتلك المعركة، كانت أفقاً جديداً منعشاً لتلك “البطولة”.

أنظر إلى أولئك، كلهم في مثل عمر أولادي، وأشعر بأسف. أود أن أنقل إليهم ما عشت. “ولكن، وماذا عن الذي يجب أن يعيشوه هم بأنفسهم؟! هذا إن اقتنعوا بحرف مما تقول، واكتفوا بالإعراض ولم يتهموك بالخيانة كما حصل فعلاً معك، ومن جهة أقرب الناس إليك، بعيد الكارثة بأسابيع فقط.” أقول لنفسي. 

لا يمكن إنكار الحق بالحياة على الفلسطينيين، والغزاويين منهم قبل الجميع. والحياة في قطاع غزة لم تكن حياة أبداً. الحصار الإسرائيلي هو المعيق الرئيسي من دون أي شك، ولكن هل كان هو الوحيد؟! 

حماس لم تقصر أبداً في جعل تلك الحياة أكثر صعوبة، مما هي عليه أصلاً في ظل الحصار الظالم. بل إن الأصوات الغزاوية، وبعدما وقعت الواقعة، بدأت بالارتفاع مندّدة بممارسات، سبقت “الطوفان” الكارثي، بسنوات، ودامت منذ سيطرة حماس على القطاع. تقول تلك الأصوات بوضوح إن الحصار الحقيقي، والمحكم، حول رقاب أهل غزة أجمعين، كان من جهة التنظيم الجهادي هذا، على قدم المساواة مع الحصار الإسرائيلي، إن لم يكن أكثر.

ومع ذلك، وعلى الرغم منه، ألم تكن تكفينا مشاهد الدمار الهائل الذي لحق بغزة، وأهلها، الذين تُركوا على قارعة الطريق من دون حتى ملجأ يحميهم، بينما اختفت حماس ومقاتليها وقادتها وعائلاتهم، في أنفاق صرفت عليها الملايين، بينما لا توجد في القطاع كله شبكة تصريف صحي واحدة يمكن التعويل عليها لخدمة هذا العدد المهول من السكان، المحصورين في أضيق مكان يمكن تخيّله لهم، وطيلة 16 عاماً من حكم حماس للمكان؟ 

“البطل” لا ينظر إلى أين يجب أن يقضي البشر حاجاتهم. هو أصلاً، وكبطل، لا يشعر بحاجة، حتى لقضاء الحاجة. هذا ليس تهكماً من حماس، هذا ما كنا عليه طيلة عقود كاملة من فهمنا معاني الحياة كلها بصفتها تدور في فلك قيمة واحدة: البطولة. 

أثمان باهظة قبضها سماسرة

في كل حكايات العالم الجذابة، دائماً ما يقع البطل، ولكنه لا يلبث أن يقوم، ما إن تحين “لحظته”، ويرد الصاع صاعين لمن هزموه، غالباً غدراً، وأذلّوه. لا تكتسب الحكاية معناها من دون هذه المعاناة، وهذا الصبر، والتمسك بـ “الثوابت” الواضحة، والتي لا تحتاج إلى تبرير أو تأويل أو حتى شرح. إنها هكذا، منذ خلقت الخليقة: الأبيض أبيض، والأسود أسود. ونحن، نحن المظلومين الأزليين، قدرنا من صخر وسنمضي في قدرنا إلى آخره، حتى النصر. هكذا كنا نختم خطاباتنا إبان فترة التنظيم الفتحاوي: “وإنها لثورة حتى النصر”.

ولكن النصر لم يأت. تعاقبت الهزائم فوق الهزائم، وبقينا نحن الأبطال المنتظرين “لحظتهم”، ولو مبطوحين على الأرض وبساطير العسكر، طغاة ومحتلين، تدوسنا، بينما “لحظتنا” لم تأت أبداً. 

أفهم أن هناك من يستثمر في هذا الشعور بالذل والرغبة الصادقة والحارقة فعلاً عند ملايين، في ردّه بأي ثمن. بل إن الأثمان دفعت فعلاً، وقبضها سماسرة البطولة من نجوم الإعلام الممول، بينما بقينا نحن نقتات مخيلات مضى عليها الزمن، وبليت، وأبلتنا معها، ولم نيأس من لحظة نصبح فيها كما “الكونت ديمونت كريستو”!

لكن “الكونت ديمونت كريستو” مجرد حكاية، وهي على ورق فعلاً! عندما أعارني نسخة منها صديقي الذي قضى قبل أن يبلغ الثلاثين، وكنا لا نزال أطفالاً بعد، نبهني إلى “حقيقة” عشتها سنين طويلة من عمري: هذه حكاية لن تنساها أبداً، قال لي. 

بقي الكتاب معي بعيد اعتقال صديقي. إثر خروجه، بعد سنين من المعتقل، نسي أن يسألني أن أرد الكتاب، وأنا احتفظت به، ليس فقط لأنه ذكرى لسنوات صداقة طويلة، على رغم أننا كنا لا نزال شباباً بعد، بل أيضاً لأنني أحببت الحكاية. بعد وفاته، وكان حرياً بي أن أتمسك بالكتاب أكثر، أضعته، لا أدري أين. كل ما حصل أنني اضطررت إلى بيع مكتبتي مرتين متتاليتين، خلال بضع سنين فقط، لأشتري خبزاً. 

07.06.2024
زمن القراءة: 9 minutes

اشترك بنشرتنا البريدية