“لم أعد أشعر بأنني متزوجة، زوجي يخرج يومياً في السابعة صباحاً، ولا يعود قبل العاشرة مساءً، والحديث الوحيد الذي نحظى به هو الحديث عن الالتزامات، الذي يجمعنا أثناء وجبة العشاء، وحتى أيام الإجازات يخرج الى العمل أيضاً، ليعوّض ساعات العمل”، بهذ العبارات لخصت مريم توفيق حياتها وزوجها والتغييرات التي طرأت على حياتهما بسبب ارتفاع الأسعار.
مريم وزوجها يشكلان حالة لم تعد فريدة في السنوات العشر الأخيرة بسبب موجات ارتفاع الأسعار المتتالية، فأصبح العمل في أكثر من وظيفة ولساعات طويلة هو السائد بدلًا من كونه الاستثناء وسط ملايين المصريين الذين يسرق التضخم أعمارهم.
تزوجت مريم عام 2013، ورزقت بعد عامين بالطفل الأول، وبسبب ضعف ثقافتها بوسائل تنظيم الأسرة، أنجبت ثلاثة أطفال يفصل بين الأول والأخير 5 سنوات فقط. ورغم إلحاقها الطفل الأول بالمدارس التجريبية، إلا أنها اضطرت للتحوّل الى النظام الحكومي بعد قرار رفع مصاريف الدراسة في تلك المدارس الى 3 آلاف جنيه بدلاً من 700 جنيه.
تقول مريم: “لم يكمل زوجي دراسته الجامعية لارتباطه بالعمل مع والده في مهنة السباكة ليؤسس شقة الزوجية في منزل العائلة، بينما حصلت أنا على مؤهل جامعي، وتزوجنا في 2013. وعلى رغم عمل زوجي بمحل والده، لكنه قرر الالتحاق بوظيفة ليلية في أحد مسارح وزارة الثقافة ليكون له معاش. استمر في العملين معاً لمدة 4 سنوات، ولأن المحل إلى جانب المنزل، كانت الساعات التي يمضيها في المنزل جيدة”.
مع إنجاب الأطفال الثلاثة، وانخفاض دخل المحل، حصل الزوج على وظيفة في شركة شحن بسيارته موديل السبعينات، واستمر في عمله حتى أصيب بالتهاب الزائدة الدودية وخضوعه لعملية جراحية، ليخرج من المستشفى على خبر استغناء الشركة عنه مع أزمة كوفيد 19.
على مدار عام، حاول الزوج الحصول على وظائف عدة كان العائق الأساسي فيها كونه مؤمناً عليه، ليضطر الى العمل عبر شركة توظيف في إحدى سلاسل الهايبر ماركت، قبل أن يجد وظيفة في شركة شحن كمندوب. وبسبب احتراق سيارته في حادث، أصبح يعمل كمشرف حركة في الشركة ذاتها، ورغم أن عقده يشترط العمل 9 ساعات فقط، إلا أنه كان يعمل لمدة 12 ساعة. ونظراً الى ارتباطه بالعمل الحكومي، فهو يضطر الى العمل في يوم الإجازة ليغطي فارق الساعات.
بحسب مريم، يحصل زوجها على راتب 7 الاف جنيه من شركة الشحن، و5 آلاف من عمله الحكومي، تُحسم منها 2700 جنيه لقسط قرض بنكي، فلا يتبقى سوى 9300 جنيه، من المفترض أن تغطي جميع مصروفات الأسرة المكوّنة من 5 أفراد، منهم 3 أطفال في صفوف دراسية مختلفة.
تشير مريم” “بحسابات الورق، ارتفع دخلنا بصورة كبيرة، ولكن بحسابات المعيشة فإن دخلنا لا يكفي نفقاتنا العادية، وأقل من العادية، فنحن لا نشتري أي كماليات. حتى التدخين توقف زوجي عنه، أيضاً أصبحت الأسبوعية للأولاد حلماً بعيد المنال، وأضحى شراء اللحم أو الدجاج مرة واحدة أسبوعياً أمراً نتحمله بشق الأنفس. أما سندويتشات المدرسة أو الدروس الخصوصية فأصبحت بالتبادل بينهم، ولولا وجود جمعية خيرية قريبة من المنزل تصرف الأدوية مجاناً وتوفر الطبابة بأسعار رمزية، فلن تكون هناك فرصة للعلاج في حالة مرض أي من أبنائنا”.
بحسب النشرة القياسية الشهرية لأسعار المستهلك الصادرة من الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء الصادرة في أيلول/ سبتمبر الماضي، فقد زادت اللحوم البلدية في أغسطس/ آب 2024 لتصل إلى 398 جنيهاً، بزيادة نحو 70 جنيهاً عن سعرها في آب 2023، الذي سجلت فيه اللحوم البلدية سعر 323 جنيهاً للكيلوغرام الواحد، بينما كان سعرها في كانون الأول/ ديسمبر عام 2021 لا يتجاوز الـ 143 جنيهاً للكيلوغرام.
وإذا كانت مريم لم تعد ترى زوجها، فإن حمادة حسين لم يعد يستطيع السيطرة على مصروفات البيت، الى درجة اضطرت زوجته للمرة الأولى منذ زواجهما الذي دام 24 عاماً، للعمل من المنزل، في محاولة لتوفير مصروفات الدروس الخصوصية للإبن الأصغر في الصف الثالث الثانوي.
يقول حسين: “على مدار 24 عاماً، لم تضطر زوجتي للعمل، فقد كان اتفاقنا من اليوم الأول أنني مسؤول عن توفير النقود للمنزل، وتلبية احتياجاتها كافة، وهي بدورها مسؤولة عن رعاية المنزل. كان هذا التقاسم للأدوار مريحاً لكلينا، ولكن مع استمرار زيادة الأسعار لم يعد بإمكاني تلبية احتياجات الأسرة كافة”.
كانت أسرة حمادة مثالاً للأسرة المتوسطة، التي تستطيع أن تؤمن 3 وجبات يومياً في المنزل، ومصيفاً سنوياً لمدة أسبوع في شواطئ الطبقة المتوسطة. ولكن منذ عام 2021 لم يعد هذا ممكناً، فشُطب المصيف من قاموس الأسرة، واستُبدل برحلة اليوم الواحد للأبناء وأمهم فقط توفيراً للنفقات، وهي الرحلة التي ألغيت عام 2023 أيضاً لعدم القدرة على تحمّلها.
بسبب الضغط المادي، اضطرت الزوجة للحصول على عمل عبارة عن تجهيز بعض أجزاء الأحذية المنزلية بقص الزوائد منها، تحصل من خلاله على 10 جنيهات مقابل الألف وحدة. وتجهز يومياً نحو 10 آلاف قطعة لتسليمها، مقابل الحصول على 100 جنيه، تُستخدم لتغطية تكلفة دروس الإبن الأصغر، بينما الأكبر اكتفى بشهادة متوسطة، وعقب تمضيته فترة التجنيد الإجباري التحق بالعمل في أحد المصانع.
رغم رفض حمادة عمل زوجته لكنه اضطر للموافقة، لا سيما وأن دروس الإبن تجاوزت الـ 2000 جنيه، وما يحصل عليه من عملين الأول حكومي ينتهي عند الثالثة عصراً، والثاني في أحد مغاسل السيارات حتى 12 ليلاً، لا يكفي المنزل لنهاية الشهر، بخاصة مع ارتفاع فواتير الكهرباء والمرافق، وأسعار الطعام.
“لم أعد أشعر بأنني متزوجة، زوجي يخرج يومياً في السابعة صباحاً، ولا يعود قبل العاشرة مساءً، والحديث الوحيد الذي نحظى به هو الحديث عن الالتزامات”
بحسب النشرة القياسية الاسترشادية لأسعار المستهلك السابقة، فإن سعر كيلوغرام دجاج المزارع بلغ في آب/ أغسطس 2024، 83.5 جنيه، بزيادة 10 جنيهات عن الشهر نفسه في 2023، بينما لم يتجاوز سعر الكيلوغرام 27 جنيهاً في كانون الأول الأول/ ديسمبر 2021.
أما أمينة أحمد، فكانت مثالأ للمرأة المعيلة النموذجية، فهي المطلقة بعد عامين فقط من زواجها الذي نتج منه طفل وحيد. ووسط غياب الأب عن الإنفاق، اضطرت أمينة إلى إقامة دعوى النفقة التي لم تحصل بموجبها سوى على حكم بـ750 جنيهاً نفقة للطفل، وسط تأكيدات المحامي أن هذا هو أقصى ما تستطيع الحصول عليه كون طليقها يعمل في القطاع الخاص غير المعني بقرارات زيادة الحد الأدنى للأجور.
قررت أمينة عدم خوض مغامرة محاولة زيادة مبلغ النفقة عبر دعاوى فرعية، والالتحاق بالعمل بأحد شركات توظيف خدمة العملاء أو “الكول سنتر” للعمل 8 ساعات مقابل 6 آلاف جنيه، تترك أمينة خلالها ابنها لوالدتها، الذي أصبح يناديها “ماما” بدلاً من أمينة، التي لم يعد يراها سوى ساعات قليلة فقط.
لم تحصل أمينة على مؤخرها، الذي اضطرت للتنازل عنه مقابل الطلاق، بينما لا يستطيع والدها الإنفاق عليها لكونه من أرباب المعاشات الذين لم يزد راتبهم عن 4 آلاف جنيه، وما يدعمه هو المبالغ المالية التي يقدمها شقيق أمينة للمساعدة في الإنفاق على المنزل، ما جعلها تشعر بضرورة الحصول على عمل.
ترتبط الأسعار في مصر ارتباطاً مباشراً بالدولار الأميركي، لا سيما مع اعتماد مصر على الاستيراد، حتى الصناعات المصرية تعتمد على مكونات يتم استيرادها من الخارج. ومنذ عام 2016 وحتى الآن، شهدت مصر 5 قرارات لتعويم الجنيه مقابل الدولار، إذ ارتفع بالدولار من 8.8 جنيه مقابل الدولار الواحد عام 2016، ليسجل 49 جنيهاً في تشرين الثاني/ نوفمبر الحالي، وقبل كل تعويم يرتفع سعر الدولار في السوق الموازية، وقبل التعويم الأخير في آذار/ مارس 2024، وصل سعر الدولار في السوق الموازية الى 70 جنيه.
في 2015، تزوج محمد ربيع من إحدى زميلاته في الدراسة، آنذاك كانت حياته مستقرة، إذ كان يعمل كمحاسب في إحدى الشركات، يتجاوز راتبه الـ 15 ألف جنيه، أي ما يزيد قليلاً عن ألف دولار بأسعار السوق الموازية، ما أتاح له معيشة جيدة وشراء سيارة، وكذلك الحصول على شهادات جديدة في مجاله تضمن له ترقياً سريعاً وفرص عمل أفضل. لكن بعد عام واحد من زواجه، بدأ الجنيه المصري في رحلة هبوط سريعة، بدأت بالتعويم الأول عام 2016، وعلى مدار العقد الماضي عانى ربيع من ضغط المصروفات التي تزيد بصورة يومية. فيما لم يزد راتبه طوال تلك الفترة إلا بمقدار الربع فقط، الأمر الذي دفعه الى البحث عن عمل إضافي في مكتب محاسبة يستطيع أن يؤمن من خلاله مبلغ عشرة الآف جنيه إضافية، لكن رغم ذلك لم يبلغ إجمالي راتبه ما يعادل الألف دولار.
يلفت ربيع: “كل هذا التفكير والإجهاد تسبب لي في أزمة قلبية نتيجة جلطة مفاجئة كادت أن تكون قاتلة لولا فطنة زوجتي التي استطاعت نقلي الى أقرب مستشفى لإنقاذي.
بحسب تصريحات سابقة لمدير المعهد القومي للقلب د.محمد عبد الهادي، فإن 46 في المئة من الوفيات الحاصلة في مصر عام 2022 ناتجة من الأزمات القلبية الحادة والجلطات.
ويربط خبراء كثر بين الإجهاد والضغوط النفسية وأمراض القلب. وبحسب دراسة أعدتها الجمعية الأوروبية لأمراض القلب عام 2019، تسجل مصر واحدة من أعلى النسب العالمية في أمراض القلب، إذ أشارت الى أن في مصر 9 ملايين مصري يعانون من أمراض القلب. بينما أثبتت دراسة أجرتها منظمة الصحة العالمية عام 2021، أن نسبة الوفيات بأمراض القلب في مصر أعلى من مثيلتها في الدول الخارجية، إذ يموت 500 من كل 100 ألف مصري بأمراض القلب، مقارنة بـ50 وفاة لكل 100 ألف شخص في ألمانيا، و200 وفاة لكل 100 ألف شخص في أميركا.
وبحسب الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء، فإن أعداد الوفيات جراء أمراض القلب في الفئة العمرية بين 15-50 عاماً، ارتفعت من 23500 حالة إلي 44317 حالة في عام 2021.
وفيما تستضيف القنوات التابعة للشركة المتحدة أستاذة في الاقتصاد المنزلي تخبر المواطنين أنهم يستطيعون العيش بـ3000 الآف جنيه، أي نحو 60 دولاراً في الشهر، يعيش كل من مريم وحمادة وأمنية ومحمد حياة يحاربون فيها أمام عدو اسمه التضخم يسرق أعمارهم بعمل مستمر لتأمين الأساسيات، ويسرق صحتهم بالإجهاد والضغط النفسي، لا يأملون سوى بتوقف عجلة السقوط الحر في بحر التضخم.
إقرأوا أيضاً: