fbpx

عن التنمّر والكعب العالي

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

كان الجميع يسمّونها “الدبة”. كانت التسمية قاتلة لوحدها. أضف إليها ما كان يُحبَك عن “بشاعتها” وأنفها الكبير ووجهها “الغليظ”. لم يكن التنمّر في أيامي الدراسية محتاجاً إلى “فيسبوك” أو “تويتر”. كان يكفي أن يتم نفي الطفل بعيداً من أترابه، وأن يوضع في علبة كبريت ضيّقة من الاتّهامات المؤذية التي لا ذنب له فيها.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

أتذكّر جيداً كيف كانت تسير ببطء في ملعب مدرستنا الكبير. كانت تجلس على مقعد الدراسة لوحدها، لأنّ أحداً لم يكن يحبّ الجلوس بجانبها، وكان الصبيان يقولون إنّ من يجلس بجانبها يعرّض نفسه للدهس. كان المريول الأزرق ضيقاً عليها. أخبرتني مرّة أن لا مريول بمقاسها. قال لها أحدهم إنّه بإمكانها أن تنسى “كرشها” في البيت. ولم تكن تملك إجابة. رأيناها تبكي في المرحاض لوحدها.

مرةً نظّم صفّنا ترويقة “مناقيش” خلال الاستراحة الأولى في ذاك اليوم، على أن نجمّع مالاً لمساعدة الفقراء. كان ربما عيد الميلاد. أتذكّر منظرها وهي تأكل “منقوشة الصعتر” خلف عمود في الملعب الشتائي. مرّ طفلٌ من هناك وقال لها ما معناه إن عليها أن تكفّ عن الأكل، وإلا فلن يقترب منها أي فتى. كنت أجلس معها وقتها، من دون منقوشة، لأنني نسيت أن أحضر ألف ليرة من البيت، ثمنها. لم أرها تبكِ، لكنّها حزنت بما يكفي، واشترت منقوشةً ثانية “فشة خلق”.

كان الجميع يسمّونها “الدبة”. كانت التسمية قاتلة لوحدها. أضف إليها ما كان يُحبَك عن “بشاعتها” وأنفها الكبير ووجهها “الغليظ”. لم يكن التنمّر في أيامي الدراسية محتاجاً إلى “فيسبوك” أو “تويتر”. كان يكفي أن يتم نفي الطفل بعيداً من أترابه، وأن يوضع في علبة كبريت ضيّقة من الاتّهامات المؤذية التي لا ذنب له فيها.

“نزعت الكندرة المؤلمة على عجل، “لا ضرورة لأبدو أطول” قلت لقلبي، وضعت حذاء الرياضة المريح في قدميّ، وخرجت”

كانت تسير بمفردها في معظم الاستراحات وكانت تتناول سندويشاتها بخوف، كأنّ في الأمر ذنباً ما. أخشى الآن من ذكر اسمها حقاً، لأنني أعلم جيداً ما يعني تذكّر ذلك كلّه. لقد جعلني قصر قامتي منبوذةً وناقصة في أوقاتٍ كثيرة، لكن لسببٍ أجهله لم أفقد ثقتي بنفسي، كانت هذه نعمة من نعم الله. لكنني بقيت أفضّل الأحذية ذات الكعب العالي. وكانت هذه حجّةً إضافيةً لأسمع انتقاداً من هنا وهناك. هناك من يبحثون عن أي سبب للسخرية والتنمّر.

في مرّاتٍ قليلة، مشينا معاً في الملعب وضحكنا. لم نكن صديقتين مقرّبتين، لكنها كانت لطيفةً جداً. لا يمكن نسيان هذا التفصيل.

قبل أيام، تذكّرتها وفتّشت عنها على “فيسبوك”. بدت جميلةً جداً ونحيفة أيضاً. أنحف منّي بصراحة. لم تغيِّر شيئاً في تكاوين وجهها، لا عمليات تجميل ولا “بوتوكس”. ما زال أنفها كبيراً. لكنها ربما تعلّمت أن تحب نفسها وأن تكابر، في وجه عالمٍ لم يستطع أن يحبّها كما يجب.

شعرت بالامتنان، أقفلت “فيسبوك” بابتسامة عريضة. منحتني تلك الفتاة التي أصبحت الآن أمّاً وزوجة، شعوراً بحب الحياة. تذكّرت الفتى الذي أكد أنّ أحداً لن يتقرّب منها. شيءٌ ما اطمأنّ في داخلي، دخلت إلى غرفتي، نظرت إلى المرآة جيداً. غيّرت ملابسي وانتعلت كندرتي ذات الكعب العالي. ثمّ نظرت مليّاً إلى نفسي؛ يحتاج الواحد أن ينظر مرّتين إلى نفسه لا مرّة واحدة. تذكّرت صديقتي، تذكّرت حلقات التنمّر، ثم صورها الجميلة على “فيسبوك”. نزعت الكندرة المؤلمة على عجل، “لا ضرورة لأبدو أطول” قلت لقلبي، وضعت حذاء الرياضة المريح في قدميّ، وخرجت.