fbpx

عن الثورة المصريّة و”المبتسرون” من جيل Z

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

تنطلق لجين خيري في هذا المقال من سؤال شخصي، من موقعها كباحثة تنتمي الى الجيل “Z”، ولدت في نهاية الألفية الميلادية الثانية، وتسأل: كيف شكلتني الثورة وكيف شكلتني الهزيمة ؟.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

“ولكنه أقسى كثيراً، في ما أظنّ، حظ أجيال لم يتح لها أبداً أن تعرف أحلاماً كبيرة. ومن أجل هذا كتبت عن حلمنا المجهض. لأنه لم يكن سراباً كله كما يلذّ لكثيرين منا الآن أن يصفوه ليذلّوا ماضيهم. إمعاناً في رد الفعل على غرورهم السابق في ما أحسب، ولكنه كان تاريخاً أيضاً. تبقى منه أشياء حقيقة غريب أن نهدرها لأننا هزمنا بسهولة إهانتنا. وبالنسبة لي فقد احتفظت من هذا التاريخ بذكرى زمن شهدت فيها شعبنا ومثقفينا أحياء لا يزالون. رغم المواجع وبيقين: أن هناك أياماً أخرى في التاريخ، غير مظلمة”. 

أثناء قراءتي هذه المقاطع من كتاب “المبتسرون” لأروى صالح، اعتدت التوقف لبضع دقائق للبكاء. أعتبر البكاء والشعور بالذنب منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، أنشطة سياسية بامتياز. ففهم العلاقة بين المشاعر والسياسة أمر ضروري لفهم المجتمعات العربية وتحليلها، إذ يشكل الغضب إثر صورة قتل محمد الدرة جزءاً من الوعي الجمعي السياسي العربي. المشاعر التي استُبعدت بالكامل في المدرسة السلوكية الغربية بإمكانها أن تصير مدخلاً للدراسة السياسية.

 لماذا أبكي منذ بدء المذبحة؟ أبكي لأن لا شارع لي لأصرخ “فلسطين حرة”. أبكي لأن سلالم كلية الاقتصاد والعلوم السياسية لم تعد تتّسع لنقاشات السياسة، بينما يبدأ طلاب العالم أجمع حراكهم. أبكي لأنني أشعر بالهزيمة. وأي هزيمة تلك من معركة لم أخضها؟

أنطلق في هذا البحث من سؤال شخصي للغاية. أنطلق من موقعي كباحثة تنتمي الى الجيل “Z”، ولدت في نهاية الألفية الميلادية الثانية. أتساءل كيف شكلتني الثورة وكيف شكلتني الهزيمة. بدأت هذا البحث باعتقاد مسبق أننا -أبناء الجيل زيد- ولدنا في عصر الأحلام الكبيرة، ولدنا على وعود كثيرة بالحرية والعدالة الاجتماعية. كبرنا بينما نحمل هذه الوعود في جعبتنا، نحتمي بها في كل مرة نفكر بالمستقبل. كبرنا لنجد هذا المستقبل سراباً.

وهنا يجب أن يقف الباحث قليلاً، يفكك معتقداته السابقة ويتخذ من ذاته نقطة للانطلاق وليس عدسة للتحليل. فربما لم نوعد جميعنا بأحلام كبيرة. ربما بعض منا لا يرى الثورة بمظهرها الرومانسي الحالم. بعض منا يتذكر الثورة كغصة في الحلق، حماقة كان يجب وأدها في المهد. بالتالي، يصبح السؤال الأصح “هل شكلتنا نحن -أبناء الجيل زيد- الثورة؟ وهل تأثرنا بالهزيمة من الأساس؟”.

الذاكرة والثورة: كيف تشكَّل وعينا السياسي؟ 

“أول حاجة فاكراها من الثورة مشهد ماما وهي نازلة وأنا مش عارفة هي رايحة فين. هي كانت رايحة التحرير لكن الاتصال اتقطع. المشهد الثاني كانت ماما بتشجعني أنزل معاها، وأنا بلبس الجزمة وكانت الجزيرة جابت مشهد قنص. ماما قالتلي متخافيش المكتوب مكتوب. أول حاجة سمعتها لما نزلت ‘إحنا محتاجين 300 شاب في عبدالمنعم رياض’. فاكرة المحادثات العفوية اللي كانت بتحصل حواليا. كانت نقاشات حالمة”. 

هكذا كانت الذكرى الأولى لإنجي (اسم وهمي) عن الثورة، وذلك عن طريق الانخراط السياسي المباشر. كانت إنجي ابنة الـ13 ربيعاً حينما قامت الثورة. أي أنها كانت في المرحلة الإعدادية. لذا حين سألتها أكانت تدري حقاً ما تعنيه كلمة “ثورة”، أخبرتني “مكنتش فاهمة يعني ايه ثورة بس عارفة يعني ايه يكون حد ضد النظام”. 

تذكرت حينها أنني كنت مثلها تماماً، أتذكر أن المنشور الأول لي على فيسبوك في عمر التاسعة في 2009 كان I hate Hosny Mubarak أو أنا أكره حسني مبارك. رغم أنني كنت في السعودية ظننت أنني يجب أن أكتبه بالإنكليزية حمايةً لنفسي. فهمت الدرس جيداً من أحاديث الكبار. فهناك زوار في آخر الليل يأتون ليأخذونا حيث لا تشرق الشمس. 

لا أتذكر لما كنت أكره النظام الحاكم آنذاك، ربما بسبب أفلام تلك الفترة عن الفقر والعشوائيات، أو بسبب حادثة غرق عبارة السلام في 2006. تأثرت كثيراً إثر غرق العبارة لأنني كغالبية مهاجري مصر في الخليج حينها كنت أعرف جيداً السفر بالعبارات. 

منذ حادثة غرق عبارة السلام وأنا أخطط جيداً لطرق الهرب إن غرقت عبارتنا يوماً ما كذلك. أتذكر أيضاً صديق العائلة الفلسطيني “حسني” وهو يطرق باب بيتنا بقوة في الخليج بينما يصرخ “افتحوا المعبر يا ولاد الكلب” في حرب غزة عام 2008. لذا كنت ما أعرفه عن حسني مبارك هو أنه المسؤول عن غرق المسافرين أمثالنا، يغلق المعبر في وجه أصدقائنا، ويترك سائر البلاد في فقر مدقع. 

كانت الذكريات الأولى التي شكلت الوعي السياسي لابراهيم (اسم وهمي) أيضا فارقة للغاية حيث وصفها قائلاً: “خالد سعيد، مش فاكر يوم موته لكن المظاهرة اللي اتعملت بعرض البحر. كانوا لابسين أسود ومديين ضهرهم للبحر. فاكر كمان كنيسة القديسين. فاكر انتخابات 2010. فاكر عمرو أديب وصياحه على أحمد عز. كنت فاهم خطة التوريث. برده فاكر “حين ميسرة” وكان فيلم صادم بالنسبة لي، كمان “عمارة يعقوبيان “و”بنتين من مصر”. السوداوية دي كانت محسوسة أوي في الشارع”. 

بينما كانت الذكريات الأولى عن الثورة لابراهيم تسير كالآتي “لما حصلت الثورة كنت في آخر أيام امتحانات الترم الأول في الصف السادس الابتدائي. أنا مكنتش مستشعر أوي اللي حصل يوم 25 عشان الامتحانات. يوم 28 خدنا الإجازة. كنا زي أي عيلة مصرية بس قاعدة بتتفرج على الجزيرة. كنت فاهم كل حاجة بتحصل. كنت عايش قلباً وقالباً. فاكر 28 يناير. فاكر السجون، الأقسام، موقعة قصر النيل، وبعدين بيان مبارك. نزلت في بيان مبارك الثاني. أحلى أيام حياتي وأحلى يوم شفت فيه مصر. دايماً المسيرات بتبدأ من القائد ابراهيم لحد سيدي جابر. قعدنا نتمشى من القائد ابراهيم لحد سيدي جابر. نفسي مصر تعيش اليوم ده تاني. كان جو محصلش تاني”. 

لم يكن جميع أطفال الثورة بهذا الانخراط في الواقع السياسي، ولكن كانت حينها حتى أبسط تفاصيل الحياة اليومية سياسية بامتياز. فالذكرى الأولى لليلى (اسم وهمي) على سبيل المثال عن الثورة، أنه حُجب فيسبوك تماماً، وبالتالي لم تستطع لعب المزرعة السعيدة. قالت ليلى “لما جمعة غضب حصلت أهلي مفهمونيش ايه اللي بيحصل. تاني يوم مامتي اللي كانت شخص apolitical (غير سياسي) بقت شخص سياسي. مكنتش فاهمة لإن الناس كانت بس بتطالب بالعيش. مطلب بسيط جداً”. 

لم تكن الذكريات الأولى كافة عن الثورة هي ذكريات حالمة بالضرورة. بعض أفراد الجيل زي كانوا خائفين ومرتعبين أثناء التظاهرات. فكما قالت ماريا (اسم وهمي) “الثورة مكنتش أي حاجة إلا إن إحنا اتحبسنا في البيت”. بينما قالت غادة (اسم وهمي) “خفنا من التظاهرات قبل ما نجرب ننزلها كجيل كبر في الوضع ده”. بينما حين سُئل حسن (اسم وهمي) عن الصورة العالقة في ذهنه من الثورة، قال: “اللجان الشعبية، كان وقتها تجار المخدرات في عين شمس كانوا واخدينها ستار عشان يبطلجوا على الناس، الناس اللي قاعدة بسلاح في الشارع، الخوف، الفوضى”.

نتجت من اختلاف الذكريات تلك اختلافات عدة في كيفية تعاطي المُقابَلين مع الثورة. ماريا على سبيل المثال تأملت في خلال فترة حبسها في المنزل ديناميكيات القوة البطريركية، ما جعلها أكثر نسوية. خاضت على إثرها رحلة طويلة من الملحفة إلى خلع الحجاب وعنونت هذه الرحلة بمكتسبات الثورة. بينما غادة أصبحت أكثر ثورية مع مرور الزمن. أخبرتني غادة بعد ذلك “الثورة لسه فيها. الناس اللي بتوقف الثورة عند حالة معينة. إحنا ثوراتنا كانت حاجة متقطعة بتوصل لحاجة أكبر”. بينما كره حسن تماماً الثورة قائلاً: “بحس بالهزيمة. بحس إن اتضحك علينا دلوقتي (بالنظر) من المؤسسة (التي لا يجب ذكر اسمها). 

انخرطت غادة في ما بعد في العمل السياسي، وصفت أول خيبة أمل شخصية سياسية كالتالي: “نزلت محمد محمود. شفنا مسيرة للأولتراس كانوا بيشتموا الداخلية. شفت ولد بيهتف وأعجبت بيه. كبنت مراهقة ده كان مثل أعلى. واحد واقف مش خايف وبيشتم. بدل ما نكراش على أحمد عز، كنا بنكراش على اللي بيقودوا المسيرات. كانت أول مرة أعجب بحد. اتوفى في بورسعيد. فكرة إن عندك 72 اسم بتدوري فيهم على اسم حد معين من الميتين”. 

تكشف بنية كل مجتمع معين عن أشكال مختلفة من الوعي بالواقع السياسي، والتي تعبر عن الهوية الاجتماعية والثقافية لمجتمعات عرقية ودينية وطبقية اجتماعية محددة لها خصوصيتها. في حالة الجيل زيد، تفاوتت تجاربهم في ما يتعلق بالثورة تبعاً للموقع الجغرافي، نشاط الأسرة السياسي، والوعي السياسي لبيئتهم. لكن ما الذي يعنيه الأمر أن يكون للإنسان وعي سياسي؟ لقد فهم ماركس الوعي السياسي على أنه الوعي بهوية الفرد من حيث الثقافة السياسية، وموقعها في التاريخ والمجتمع، وكل ذلك يحدده الاقتصاد الاجتماعي والسياسي. افترض ماركس أن الاقتصاد السياسي يحدد الوعي السياسي. إن الكيفية التي ينظر بها الشخص إلى نفسه في المجتمع تتحدد من خلال مجموعة من الظروف السياسية والاقتصادية النسبية، بالتالي يصبح أن ليس وعي الناس هو ما يحدد وجودهم، بل على العكس من ذلك، وجودهم الاجتماعي هو ما يحدد وعيهم. 

وبسبب صعوبة البحث عن كثب عن وجود المقابلين الاقتصادي والاجتماعي، يمكن فقط القول إنهم يسكنون بين القاهرة والاسكندرية والمدن الريفية في سائر المحافظات. ينتمي الجميع الى الطبقة المتوسطة مع اختلاف الدرجات. ينقسم المقابلون بين الإناث والذكور، بالتركيز على الإناث. المقابلون جميعاً أيدوا الثورة في البداية، ثم تكوّنت لديهم مشاعر مختلطة بحلول الوقت. 

يتّضح ذلك عن قرب في قصة حسن القاطن في أحد الأحياء الشعبية في القاهرة. ارتاد حسن مدرسة حكومية، وأخبرني أنه بسبب الثورة نال أسوأ تعليم ممكن من بعد 2011، وأن الصف الذي تعلقت به صورة حسني مبارك كان أحلى صفاً ارتاده بحياته. أما بخصوص الماديات، فقد كان ابناً لأسرة مكونة من 7 أفراد. عمل أبوه مدرساً في مدرسة حكومية، وقبل الثورة على حد تعبيره كان يملك القدرة على تغطية المصاريف كافة، الادخار والاستثمار. وحين سألته عن السكن، أخبرني “كنت عايش في بيت بيدخل فيه شمس. (حق طبيعي من حقوق الإنسان) راح بسبب غياب الدولة”. يفسر السياق الذي ترعرع فيه حسن، وعيه السياسي إزاء الثورة الآن.

إحنا مين وهم مين: الفوتوغرافيا والهزيمة والمقاومة 

لماذا تعلق في أذهاننا صور دون صور أخرى؟ أتساءل كثيراً. حاولت نقل تساؤلي لجميع المُقابَلين في البحث. ما هي الصور التي علقت في أذهاننا نحن -أبناء الجيل زيد- من الثورة؟ وكيف نرى أنفسنا في هذه الصور وكيف نرى الآخر؟ هل نحن مهزومون تماماً أم ما زلنا نقاوم؟ وما الذي تعنيه الهزيمة والمقاومة في الأساس؟ 

تختلف الهزيمة والنصر من مُنظِّر الى آخر ومن فلسفة الى أخرى. بدوري، أعتبر الهزيمة انعدام البدائل في الأفق التي تقترح نظاماً آخر ليس ديكتاتوريّاً أو شمولياً، بالتالي فإن الهزيمة هي انعدام الفرصة بتغيير المصير إلى مصير أفضل. في اعتقادي أننا قد هزمنا في 25 كانون الثاني/ يناير لأننا لم نعد نرى بديلاً آخر. لكن تظل الثورة دائماً احتمالاً قائماً يستطيع فرض نفسه، لا يمكننا تغيير التاريخ. لا يمكننا تغيير ما قد وقع بالفعل. لكن يمكننا تغيير كيف نتفاعل أو نتعاطى معه. لكن، كان لكل شخص أثناء إجراء المقابلات تعريفه الخاص للمقاومة والهزيمة. 

سألت ليلى: ما هي الصورة العالقة في ذهنك من أحداث الثورة؟ قالت لي: “المسلمين وهم بيصلوا والمسيحيين بيحرسوهم”. سألتها ما إن كانت تشعر بأننا قد هزمنا عند النظر الى هذه الصورة حالياً. أخبرتني: “أنا مش مقتنعة إن إحنا مهزومين أوي. مش هتلاقي ناس بتتكلم عن المقاطعة والمعبر وفلسطين. مفيش شعب بينهزم الهزيمة المتكاملة. ما احنا موجودين. ما احنا بنحاول ولسه بنحلم. الهزيمة معناها إن مفيش نبض، لكن إحنا علاقتنا بالثورة ازدادت كل ما بنكبر”. 

عندما سألت ماريا (اسم وهمي) ما هي الصورة العالقة في ذهنها من الثورة، قالت: “صورة البرا. أهلي قالوا عليها مدسوسة ومش محترمة. لكن أنا كنت فاهمة البنت. كانت أول مشهد أحس فيه إني مختلفة عن أهلي. إحنا في المشهد ده مهزومين لكن ده مش معنى إن إحنا انهزمنا في مشهد، إن إحنا انهزمنا في كل المعارك”. 

لم يكن رأي ماريا مختلفاً عن رأي إنجي، التي قالت: “الصورة العالقة في ذهني هي صورة واحد داخل الميدان بتويليت “قعدة حمام”. بفكر إن الشخص ده وجوده مُهدِّد. في ناس تانية شايفانا مهدِّدين”. أضافت إنجي أن صورة أخرى عالقة في ذهنها هي صورة “الولد اللي واقف قدام المدرعة”. 

صور عدة علقت في ذهن ابراهيم من الثورة، من أهمها صورة أحمد حرارة حين فقد عينيه، والفيديو الذي يغني فيه شاب حدوتة مصرية أمام الضابط والعساكر. عندما سألت ابراهيم ما إذا كنا مهزومين في هذه الصور أم ما زلنا نقاوم، أخبرني “مهزومين هزيمة شنعاء. بعد 2014 كنت حاسس إني مش مصدق. كنت محايد وبعدين كل ده اتحول لغضب وفقدان أمل. مفيش لمبة منورة ولا على بعد 100 ميل. البنية اللي اتبنت مبنية على حطام الثورة. شرعيته جاية من هزيمتنا”. 

لماذا تعلق في أذهاننا صور دون صور أخرى؟ طرحت مجموعة من الباحثين في ماساتشوستس السؤال ذاته. تعلق الصور في الأذهان بسبب مجموعة من المميزات التقنية وغير التقنية. المميزات التقنية مثل ألوان الصورة، وجود كائنات يمكن التعرف عليها. لكن هناك مميزات غير تقنية عدة تحفظ للصورة مكاناً في الذاكرة. تختلف هذه المميزات لناحية الأهمية السياقية والثقافية، وتميز المحتوى المرئي غير المعتاد الذي ينحرف عن المشاهد الشائعة. السياق الثوري لهذه الصور ميزها عما عهدناه عن الصورة الذهنية الخاصة بالوطن. في لحظة ما، تحولت صورتي الذهنية عن مصر من صورة نساء الطبقة الدنيا اللواتي تنقشن الكعك في العيد إلى نساء أخريات، يجردهن النظام من ملابسهن في الشارع. 

تكرر فيديو وصورة الرجل الذي وقف أمام المدرعة باعتبارها صورة أيقونية من صور الثورة. بتطبيق معايير القابلية للتذكر التي أوجدها الباحثون في ماساتشوستس، يمكننا أن نستنتج أنها صورة أيقونية بسبب مميزات تقنية وغير تقنية عدة. فالمميزات التقنية تتمثل في اللون والتباين، إذ يخلق التباين اللوني بين الماء المتناثر على الخلفية الداكنة والوشاح المميز للمحتج نقطة محورية بصرية. يلفت استخدام درجات الألوان الداكنة مع اندفاع مفاجئ من رذاذ الماء الأبيض، الانتباه إلى الشخصية المركزية. بالإضافة إلى السرد البصري القوي المتمثل في الفصل بين المحتج و”الآخر” الذي يتمثل في المدرعة وقوات الشرطة.

يشير هذا السرد إلى ديناميكيات القوة والاحتجاج، ما يجعل الصورة أكثر قابلية وجدارة بالتذكر. بينما المميزات غير التقنية تتمثل في مركزية المحتج في الصورة. يتردد صدى موقف الشخصية المركزية، في مواجهة مدفع المياه بثقة أو تحدٍّ، عاطفياً. غالباً ما يعزز هذا العنصر الذي يركز على الإنسان، القدرة على التذكر لأنه يرتبط بموضوعات عالمية مثل المقاومة. بينما في ما يخص الأهمية السياقية والثقافية لهذه الصورة، فإنها تلخص لحظة من التوتر والمواجهة، وتستحضر مشاعر الشجاعة والمقاومة والنضال ضد القمع. من المرجح أن تبقى مثل هذه المشاهد المشحونة عاطفياً في الذاكرة.

سألت حسن عن رأيه بخصوص هذه الصورة، فأخبرني: “بتحسسني بحاجة (شيء شاعري مما لا يعني شيئاً) مينفعش تهد دولة عشان مشاعر”. 

تصوّب ذاكرتنا نظرها نحو نقاط ثابتة في الماضي، ولكن هذا الماضي يتبدّل، فلا يحتفظ بنفسه في هذه الذاكرة بالصورة التي وقع بها. الماضي يتجمد في أشخاص وأحداث رمزية تلتصق بها الذكرى. فتصبح ذكرى الثورة متمثلة في اللحظة التي قرر أحدهم الوقوف أمام المدرعة وليس حين نجحنا في استلاب العيش والحرية والعدالة الاجتماعية. كيف سنتذكر نحن الثورة بعد عشرات السنين؟ هل سننقل هذه الذكرى لأبنائنا؟ أم أن ذاكرة الأجيال التي عاشت الثورة ستندثر بموتهم؟ ما جدوى التذكر إن لم ينتج من الذكرى فعل سياسي؟ 

ميلانخوليا الثورة والجيل زيد

هنا يمكننا أن نتساءل عن علاقة الميلانخوليا والسياسة. للوهلة الأولى، تبدو هذه المفاهيم متعارضة: فالسياسة تشير إلى العمل الجماعي، والنضالات الموجهة نحو مستقبل أفضل، والمشاركة المجتمعية، في حين ترتبط الميلانخوليا بالانسحاب الشخصي، والتخاذل أو التقاعس، والتعلق بالماضي. يقدم سيغموند فرويد تحليلاً نفسياً للميلانخوليا في مقاله الميلانخوليا والحداد في 1917، باعتبارها حالة الكآبة والانسحاب الناتجة من فقدان شيء، سواء كان شخصاً أو مثالاً أو مفهوماً مجرداً.  وعلى النقيض من الحداد، حيث يقبل الفرد الخسارة تدريجياً ويمضي قدماً، تحتم الميلانخوليا على الفرد أن يثبت ويعلق مع الشيء المفقود. ويؤدي هذا التثبيت إلى نوع من الانغماس في الذات والصراع الداخلي، حيث يحول الفرد الميلانخولي مشاعر الخسارة إلى الداخل، ما يؤدي إلى تأنيب الذات والشعور بالذنب والاكتئاب. 

على صعيد آخر، تربط جوليا كريستيفا في كتابها “الشمس السوداء: الاكتئاب والميلانخوليا” (1989)، بين الكآبة وأزمة وجودية عميقة، متجذرة في علاقة الشخص باللغة والمعنى. وتصف الميلانخوليا بأنها شكل من أشكال الاكتئاب، إذ يشعر الفرد بالانفصال عن نفسه وعن العالم. وبالنسبة الى كريستيفا، فإن الميلانخوليا ليست مجرد محنة شخصية، بل تعكس أيضاً حالة ثقافية ووجودية أعمق. كما ترى أن الميلانخوليا هي وسيلة لمواجهة غياب المعنى في الحياة والقيود التي تفرضها اللغة على التقاط التجربة الإنسانية بالكامل. وبهذا المعنى، تصبح الميلانخوليا مساحة للتأمل وإعادة تصور التجديد الشخصي والسياسي.

تقول إنجي “بصي، هي ذكرى الواحد مش عارف يخرج منها. حتى مش هقول ذكرى. هي فكرة بتطلع من أقل شرارة. أصل في لقطة ما كنت مالك الكون كله بإيدك وبعدين في لقطة تانية انت بقيت متلجم تلجيمة”. 

تقول ليلى: “صوت الحرية كانت أغنية سعيدة، لكن دلوقتي بتعيطني. في نوع من الأمل في الأغاني بيهزني جداً. بحس حد نتش إحساس الحرية؟ هم ادونا أمل إن في حاجة ممكن تتغير ولما كبرتي بتلاقي إنه لأ. أنا عندي أمل. الأمل ده أوديه فين؟ أنا مش شايفاله مجال أعديله في أي حاجة. أنا كنت بحب فكرة إن الشخص الضعيف يجري ورا حقه. الثورة كانت النموذج الحقيقي لده. ده معناه إن طفلة عندها 10 سنين ممكن في المستقبل تحقق العدالة لما تكبر. فين اللي اتوعدت بيه؟ إن صوت الحرية اللي هو صوتي هيبقى في كل شارع في بلادي”. 

هكذا يعلق بعض أبناء الجيل زيد في أمل الماضي، بينما يظن بعض آخر أن الأمل في مستقبل أفضل يتم انتزاعه بالكامل. فيقول علي (اسم وهمي) “الأمل بيقل، الأمل بيتم اتتزاعه، كل حاجة بتدي أمل شبه انتهت”. 

يقدم سلافوي جيجك نظرة نقدية أكثر تجاه مفهوم الميلانخوليا، بخاصة في ما يتعلق بالسياسة. يستند إلى التمييز الذي وضعه فرويد بين الحداد والميلانخوليا ليقول إن الأخيرة تتعلق بعدم القدرة على التخلي عن موضوع أو مثالية مفقودة، ما يؤدي إلى شعور بخيبة الأمل تجاه كل الواقع الحالي. ينتقد جيجك كيفية تمجيد الميلانخوليا في الدراسات الثقافية على حساب الحداد، مشيراً إلى أنها تمثل نوعاً من الانسحاب السلبي من الفعل السياسي. ومع ذلك، يعترف أيضاً بأن الميلانخوليا يمكن أن تكون نقطة الانطلاق للفلسفة، لأنها تمثل عدم الرضا عن العالم الذي يدفع الأفراد إلى التشكيك وإعادة التفكير في رغباتهم ومعتقداتهم.

بالنسبة إلى جيجك، تكشف الميلانخوليا عن حالة عدم الرضا عن العالم كما هو، لكنها أيضاً تحمل إمكانية للتغيير الجذري إذا تمكن هذا الاستياء من أن يُترجم إلى فعل.

هل يمكن أن يترجَم استياؤنا بعد هذه الهزيمة إلى فعل؟ يختلف مفهوم الفعل عند بعض المنتمين الى الجيل زيد. فبالنسبة الى إنجي التي فقدت الإيمان في فعل راديكالي ضخم يغير النظام كما هو، تقول “أنا مش ناوية أكون دم على الأرض تاني عشان قررنا نسقي النهاردة وبكرة هنعمل خازوق”. بينما وجدت ماريا قدرتها في الفعل السياسي في النشاط النسوي قائلة “لو مش قادرة أحتك بالدولة، يمكن أحتك بالنسوية من غير ما أضحي بنفسي”. 

قال إبراهيم “أنا خايف أتسجن. هو ولد عندي خوف. عندي إدمان أشوف شهادات السجون فبيتنامى عندي شعور الخوف. مش مستعد أخسر كل حاجة”. كنت بقول على جيكا أنا أقل منه في إيه؟ لكن دلوقتي لأ. على الأقل مش هاخد أول خطوتين تلاتة”. 

تظن كل من ليلى وفريدة (اسم وهمي) بأن الفعل السياسي يبدأ من النجاة الفردية. تقول ليلى: “أنا لو أنقذت نفسي هبقى بنقذ غيري (في هذه الأثناء). هل أنا بضحي بنفسي دلوقتي؟ لأ ما أنا خايفة. ليه أموت لو ده مش هيغير حاجة. الشهداء اللي ماتوا في 25 يناير لو شافونا دلوقتي كانوا هيقدموا نفس التضحية؟”. بينما تقول فريدة: “المقاومة الحقيقية في الحياة اليومية. المقاومة الحقيقية هو إني أسعى لحلمي. المقاومة إني أرجع أحب الحاجات اللي خفت منها واتكسرت جوايا بسبب الأوضاع الخارجية”. 

بينما حسن، يرد قائلاً: “لو قامت ثورة مستحيل أشارك فيها أياً كانت ضد مين”. 

تختلف علاقة الجيل زيد بالثورة من فرد الى آخر. تختلف الهزيمة وتختلف نظرتنا إلى المقاومة بين المقاومة اليومية وبين إرث المقاومة الجماعية الراديكالية. لكن يظل السؤال، هل ولدنا نحن قبل مولدنا أو بعده؟ هل شكلتنا الثورة؟ وهل تأثرنا بالهزيمة من الأساس؟ في واقع المقابلات فقد شكلت الثورة غالبية المقابلين. شكلتهم على طرق متباينة . فمنهم من اتجهوا إلى النسوية وأكثرهم من اتجهوا  إلى المقاومة الفردية اليومية. منهم من يحيى على الأمل ومنهم من فقده بالكامل. منهم من يتمنى سراً الثورة ومنهم من يراها خراباً مطلقاً. 

ويبقى سؤال: لماذا نشعر بالفقد والهزيمة حيال معركة لم نخضها؟ أم أن جميع المصريين كانوا جزءاً من هذه المعركة سواء أرادوا ذلك أم لم يريدوا؟.

"درج" | 06.12.2024

سوريا: سباق بين الغبطة واحتمالات الخيبة

جميعنا مأخوذون بالمشهد، نظام بشار الأسد يتداعى تحت أنظارنا، سؤال ما بعد السقوط، أو ما بعد انعقاد الخريطة على واقع مختلف، شرط سياسي لا بد منه، لكنه لا يستوي في بعده العاطفي مع السؤال السياسي. الكلام عن تأجيل السياسة إلى ما بعد انكشاف سير المعركة، يشبه طلب تأجيل نقد حماس إلى ما بعد نهاية الحرب…
30.11.2024
زمن القراءة: 14 minutes

تنطلق لجين خيري في هذا المقال من سؤال شخصي، من موقعها كباحثة تنتمي الى الجيل “Z”، ولدت في نهاية الألفية الميلادية الثانية، وتسأل: كيف شكلتني الثورة وكيف شكلتني الهزيمة ؟.

“ولكنه أقسى كثيراً، في ما أظنّ، حظ أجيال لم يتح لها أبداً أن تعرف أحلاماً كبيرة. ومن أجل هذا كتبت عن حلمنا المجهض. لأنه لم يكن سراباً كله كما يلذّ لكثيرين منا الآن أن يصفوه ليذلّوا ماضيهم. إمعاناً في رد الفعل على غرورهم السابق في ما أحسب، ولكنه كان تاريخاً أيضاً. تبقى منه أشياء حقيقة غريب أن نهدرها لأننا هزمنا بسهولة إهانتنا. وبالنسبة لي فقد احتفظت من هذا التاريخ بذكرى زمن شهدت فيها شعبنا ومثقفينا أحياء لا يزالون. رغم المواجع وبيقين: أن هناك أياماً أخرى في التاريخ، غير مظلمة”. 

أثناء قراءتي هذه المقاطع من كتاب “المبتسرون” لأروى صالح، اعتدت التوقف لبضع دقائق للبكاء. أعتبر البكاء والشعور بالذنب منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، أنشطة سياسية بامتياز. ففهم العلاقة بين المشاعر والسياسة أمر ضروري لفهم المجتمعات العربية وتحليلها، إذ يشكل الغضب إثر صورة قتل محمد الدرة جزءاً من الوعي الجمعي السياسي العربي. المشاعر التي استُبعدت بالكامل في المدرسة السلوكية الغربية بإمكانها أن تصير مدخلاً للدراسة السياسية.

 لماذا أبكي منذ بدء المذبحة؟ أبكي لأن لا شارع لي لأصرخ “فلسطين حرة”. أبكي لأن سلالم كلية الاقتصاد والعلوم السياسية لم تعد تتّسع لنقاشات السياسة، بينما يبدأ طلاب العالم أجمع حراكهم. أبكي لأنني أشعر بالهزيمة. وأي هزيمة تلك من معركة لم أخضها؟

أنطلق في هذا البحث من سؤال شخصي للغاية. أنطلق من موقعي كباحثة تنتمي الى الجيل “Z”، ولدت في نهاية الألفية الميلادية الثانية. أتساءل كيف شكلتني الثورة وكيف شكلتني الهزيمة. بدأت هذا البحث باعتقاد مسبق أننا -أبناء الجيل زيد- ولدنا في عصر الأحلام الكبيرة، ولدنا على وعود كثيرة بالحرية والعدالة الاجتماعية. كبرنا بينما نحمل هذه الوعود في جعبتنا، نحتمي بها في كل مرة نفكر بالمستقبل. كبرنا لنجد هذا المستقبل سراباً.

وهنا يجب أن يقف الباحث قليلاً، يفكك معتقداته السابقة ويتخذ من ذاته نقطة للانطلاق وليس عدسة للتحليل. فربما لم نوعد جميعنا بأحلام كبيرة. ربما بعض منا لا يرى الثورة بمظهرها الرومانسي الحالم. بعض منا يتذكر الثورة كغصة في الحلق، حماقة كان يجب وأدها في المهد. بالتالي، يصبح السؤال الأصح “هل شكلتنا نحن -أبناء الجيل زيد- الثورة؟ وهل تأثرنا بالهزيمة من الأساس؟”.

الذاكرة والثورة: كيف تشكَّل وعينا السياسي؟ 

“أول حاجة فاكراها من الثورة مشهد ماما وهي نازلة وأنا مش عارفة هي رايحة فين. هي كانت رايحة التحرير لكن الاتصال اتقطع. المشهد الثاني كانت ماما بتشجعني أنزل معاها، وأنا بلبس الجزمة وكانت الجزيرة جابت مشهد قنص. ماما قالتلي متخافيش المكتوب مكتوب. أول حاجة سمعتها لما نزلت ‘إحنا محتاجين 300 شاب في عبدالمنعم رياض’. فاكرة المحادثات العفوية اللي كانت بتحصل حواليا. كانت نقاشات حالمة”. 

هكذا كانت الذكرى الأولى لإنجي (اسم وهمي) عن الثورة، وذلك عن طريق الانخراط السياسي المباشر. كانت إنجي ابنة الـ13 ربيعاً حينما قامت الثورة. أي أنها كانت في المرحلة الإعدادية. لذا حين سألتها أكانت تدري حقاً ما تعنيه كلمة “ثورة”، أخبرتني “مكنتش فاهمة يعني ايه ثورة بس عارفة يعني ايه يكون حد ضد النظام”. 

تذكرت حينها أنني كنت مثلها تماماً، أتذكر أن المنشور الأول لي على فيسبوك في عمر التاسعة في 2009 كان I hate Hosny Mubarak أو أنا أكره حسني مبارك. رغم أنني كنت في السعودية ظننت أنني يجب أن أكتبه بالإنكليزية حمايةً لنفسي. فهمت الدرس جيداً من أحاديث الكبار. فهناك زوار في آخر الليل يأتون ليأخذونا حيث لا تشرق الشمس. 

لا أتذكر لما كنت أكره النظام الحاكم آنذاك، ربما بسبب أفلام تلك الفترة عن الفقر والعشوائيات، أو بسبب حادثة غرق عبارة السلام في 2006. تأثرت كثيراً إثر غرق العبارة لأنني كغالبية مهاجري مصر في الخليج حينها كنت أعرف جيداً السفر بالعبارات. 

منذ حادثة غرق عبارة السلام وأنا أخطط جيداً لطرق الهرب إن غرقت عبارتنا يوماً ما كذلك. أتذكر أيضاً صديق العائلة الفلسطيني “حسني” وهو يطرق باب بيتنا بقوة في الخليج بينما يصرخ “افتحوا المعبر يا ولاد الكلب” في حرب غزة عام 2008. لذا كنت ما أعرفه عن حسني مبارك هو أنه المسؤول عن غرق المسافرين أمثالنا، يغلق المعبر في وجه أصدقائنا، ويترك سائر البلاد في فقر مدقع. 

كانت الذكريات الأولى التي شكلت الوعي السياسي لابراهيم (اسم وهمي) أيضا فارقة للغاية حيث وصفها قائلاً: “خالد سعيد، مش فاكر يوم موته لكن المظاهرة اللي اتعملت بعرض البحر. كانوا لابسين أسود ومديين ضهرهم للبحر. فاكر كمان كنيسة القديسين. فاكر انتخابات 2010. فاكر عمرو أديب وصياحه على أحمد عز. كنت فاهم خطة التوريث. برده فاكر “حين ميسرة” وكان فيلم صادم بالنسبة لي، كمان “عمارة يعقوبيان “و”بنتين من مصر”. السوداوية دي كانت محسوسة أوي في الشارع”. 

بينما كانت الذكريات الأولى عن الثورة لابراهيم تسير كالآتي “لما حصلت الثورة كنت في آخر أيام امتحانات الترم الأول في الصف السادس الابتدائي. أنا مكنتش مستشعر أوي اللي حصل يوم 25 عشان الامتحانات. يوم 28 خدنا الإجازة. كنا زي أي عيلة مصرية بس قاعدة بتتفرج على الجزيرة. كنت فاهم كل حاجة بتحصل. كنت عايش قلباً وقالباً. فاكر 28 يناير. فاكر السجون، الأقسام، موقعة قصر النيل، وبعدين بيان مبارك. نزلت في بيان مبارك الثاني. أحلى أيام حياتي وأحلى يوم شفت فيه مصر. دايماً المسيرات بتبدأ من القائد ابراهيم لحد سيدي جابر. قعدنا نتمشى من القائد ابراهيم لحد سيدي جابر. نفسي مصر تعيش اليوم ده تاني. كان جو محصلش تاني”. 

لم يكن جميع أطفال الثورة بهذا الانخراط في الواقع السياسي، ولكن كانت حينها حتى أبسط تفاصيل الحياة اليومية سياسية بامتياز. فالذكرى الأولى لليلى (اسم وهمي) على سبيل المثال عن الثورة، أنه حُجب فيسبوك تماماً، وبالتالي لم تستطع لعب المزرعة السعيدة. قالت ليلى “لما جمعة غضب حصلت أهلي مفهمونيش ايه اللي بيحصل. تاني يوم مامتي اللي كانت شخص apolitical (غير سياسي) بقت شخص سياسي. مكنتش فاهمة لإن الناس كانت بس بتطالب بالعيش. مطلب بسيط جداً”. 

لم تكن الذكريات الأولى كافة عن الثورة هي ذكريات حالمة بالضرورة. بعض أفراد الجيل زي كانوا خائفين ومرتعبين أثناء التظاهرات. فكما قالت ماريا (اسم وهمي) “الثورة مكنتش أي حاجة إلا إن إحنا اتحبسنا في البيت”. بينما قالت غادة (اسم وهمي) “خفنا من التظاهرات قبل ما نجرب ننزلها كجيل كبر في الوضع ده”. بينما حين سُئل حسن (اسم وهمي) عن الصورة العالقة في ذهنه من الثورة، قال: “اللجان الشعبية، كان وقتها تجار المخدرات في عين شمس كانوا واخدينها ستار عشان يبطلجوا على الناس، الناس اللي قاعدة بسلاح في الشارع، الخوف، الفوضى”.

نتجت من اختلاف الذكريات تلك اختلافات عدة في كيفية تعاطي المُقابَلين مع الثورة. ماريا على سبيل المثال تأملت في خلال فترة حبسها في المنزل ديناميكيات القوة البطريركية، ما جعلها أكثر نسوية. خاضت على إثرها رحلة طويلة من الملحفة إلى خلع الحجاب وعنونت هذه الرحلة بمكتسبات الثورة. بينما غادة أصبحت أكثر ثورية مع مرور الزمن. أخبرتني غادة بعد ذلك “الثورة لسه فيها. الناس اللي بتوقف الثورة عند حالة معينة. إحنا ثوراتنا كانت حاجة متقطعة بتوصل لحاجة أكبر”. بينما كره حسن تماماً الثورة قائلاً: “بحس بالهزيمة. بحس إن اتضحك علينا دلوقتي (بالنظر) من المؤسسة (التي لا يجب ذكر اسمها). 

انخرطت غادة في ما بعد في العمل السياسي، وصفت أول خيبة أمل شخصية سياسية كالتالي: “نزلت محمد محمود. شفنا مسيرة للأولتراس كانوا بيشتموا الداخلية. شفت ولد بيهتف وأعجبت بيه. كبنت مراهقة ده كان مثل أعلى. واحد واقف مش خايف وبيشتم. بدل ما نكراش على أحمد عز، كنا بنكراش على اللي بيقودوا المسيرات. كانت أول مرة أعجب بحد. اتوفى في بورسعيد. فكرة إن عندك 72 اسم بتدوري فيهم على اسم حد معين من الميتين”. 

تكشف بنية كل مجتمع معين عن أشكال مختلفة من الوعي بالواقع السياسي، والتي تعبر عن الهوية الاجتماعية والثقافية لمجتمعات عرقية ودينية وطبقية اجتماعية محددة لها خصوصيتها. في حالة الجيل زيد، تفاوتت تجاربهم في ما يتعلق بالثورة تبعاً للموقع الجغرافي، نشاط الأسرة السياسي، والوعي السياسي لبيئتهم. لكن ما الذي يعنيه الأمر أن يكون للإنسان وعي سياسي؟ لقد فهم ماركس الوعي السياسي على أنه الوعي بهوية الفرد من حيث الثقافة السياسية، وموقعها في التاريخ والمجتمع، وكل ذلك يحدده الاقتصاد الاجتماعي والسياسي. افترض ماركس أن الاقتصاد السياسي يحدد الوعي السياسي. إن الكيفية التي ينظر بها الشخص إلى نفسه في المجتمع تتحدد من خلال مجموعة من الظروف السياسية والاقتصادية النسبية، بالتالي يصبح أن ليس وعي الناس هو ما يحدد وجودهم، بل على العكس من ذلك، وجودهم الاجتماعي هو ما يحدد وعيهم. 

وبسبب صعوبة البحث عن كثب عن وجود المقابلين الاقتصادي والاجتماعي، يمكن فقط القول إنهم يسكنون بين القاهرة والاسكندرية والمدن الريفية في سائر المحافظات. ينتمي الجميع الى الطبقة المتوسطة مع اختلاف الدرجات. ينقسم المقابلون بين الإناث والذكور، بالتركيز على الإناث. المقابلون جميعاً أيدوا الثورة في البداية، ثم تكوّنت لديهم مشاعر مختلطة بحلول الوقت. 

يتّضح ذلك عن قرب في قصة حسن القاطن في أحد الأحياء الشعبية في القاهرة. ارتاد حسن مدرسة حكومية، وأخبرني أنه بسبب الثورة نال أسوأ تعليم ممكن من بعد 2011، وأن الصف الذي تعلقت به صورة حسني مبارك كان أحلى صفاً ارتاده بحياته. أما بخصوص الماديات، فقد كان ابناً لأسرة مكونة من 7 أفراد. عمل أبوه مدرساً في مدرسة حكومية، وقبل الثورة على حد تعبيره كان يملك القدرة على تغطية المصاريف كافة، الادخار والاستثمار. وحين سألته عن السكن، أخبرني “كنت عايش في بيت بيدخل فيه شمس. (حق طبيعي من حقوق الإنسان) راح بسبب غياب الدولة”. يفسر السياق الذي ترعرع فيه حسن، وعيه السياسي إزاء الثورة الآن.

إحنا مين وهم مين: الفوتوغرافيا والهزيمة والمقاومة 

لماذا تعلق في أذهاننا صور دون صور أخرى؟ أتساءل كثيراً. حاولت نقل تساؤلي لجميع المُقابَلين في البحث. ما هي الصور التي علقت في أذهاننا نحن -أبناء الجيل زيد- من الثورة؟ وكيف نرى أنفسنا في هذه الصور وكيف نرى الآخر؟ هل نحن مهزومون تماماً أم ما زلنا نقاوم؟ وما الذي تعنيه الهزيمة والمقاومة في الأساس؟ 

تختلف الهزيمة والنصر من مُنظِّر الى آخر ومن فلسفة الى أخرى. بدوري، أعتبر الهزيمة انعدام البدائل في الأفق التي تقترح نظاماً آخر ليس ديكتاتوريّاً أو شمولياً، بالتالي فإن الهزيمة هي انعدام الفرصة بتغيير المصير إلى مصير أفضل. في اعتقادي أننا قد هزمنا في 25 كانون الثاني/ يناير لأننا لم نعد نرى بديلاً آخر. لكن تظل الثورة دائماً احتمالاً قائماً يستطيع فرض نفسه، لا يمكننا تغيير التاريخ. لا يمكننا تغيير ما قد وقع بالفعل. لكن يمكننا تغيير كيف نتفاعل أو نتعاطى معه. لكن، كان لكل شخص أثناء إجراء المقابلات تعريفه الخاص للمقاومة والهزيمة. 

سألت ليلى: ما هي الصورة العالقة في ذهنك من أحداث الثورة؟ قالت لي: “المسلمين وهم بيصلوا والمسيحيين بيحرسوهم”. سألتها ما إن كانت تشعر بأننا قد هزمنا عند النظر الى هذه الصورة حالياً. أخبرتني: “أنا مش مقتنعة إن إحنا مهزومين أوي. مش هتلاقي ناس بتتكلم عن المقاطعة والمعبر وفلسطين. مفيش شعب بينهزم الهزيمة المتكاملة. ما احنا موجودين. ما احنا بنحاول ولسه بنحلم. الهزيمة معناها إن مفيش نبض، لكن إحنا علاقتنا بالثورة ازدادت كل ما بنكبر”. 

عندما سألت ماريا (اسم وهمي) ما هي الصورة العالقة في ذهنها من الثورة، قالت: “صورة البرا. أهلي قالوا عليها مدسوسة ومش محترمة. لكن أنا كنت فاهمة البنت. كانت أول مشهد أحس فيه إني مختلفة عن أهلي. إحنا في المشهد ده مهزومين لكن ده مش معنى إن إحنا انهزمنا في مشهد، إن إحنا انهزمنا في كل المعارك”. 

لم يكن رأي ماريا مختلفاً عن رأي إنجي، التي قالت: “الصورة العالقة في ذهني هي صورة واحد داخل الميدان بتويليت “قعدة حمام”. بفكر إن الشخص ده وجوده مُهدِّد. في ناس تانية شايفانا مهدِّدين”. أضافت إنجي أن صورة أخرى عالقة في ذهنها هي صورة “الولد اللي واقف قدام المدرعة”. 

صور عدة علقت في ذهن ابراهيم من الثورة، من أهمها صورة أحمد حرارة حين فقد عينيه، والفيديو الذي يغني فيه شاب حدوتة مصرية أمام الضابط والعساكر. عندما سألت ابراهيم ما إذا كنا مهزومين في هذه الصور أم ما زلنا نقاوم، أخبرني “مهزومين هزيمة شنعاء. بعد 2014 كنت حاسس إني مش مصدق. كنت محايد وبعدين كل ده اتحول لغضب وفقدان أمل. مفيش لمبة منورة ولا على بعد 100 ميل. البنية اللي اتبنت مبنية على حطام الثورة. شرعيته جاية من هزيمتنا”. 

لماذا تعلق في أذهاننا صور دون صور أخرى؟ طرحت مجموعة من الباحثين في ماساتشوستس السؤال ذاته. تعلق الصور في الأذهان بسبب مجموعة من المميزات التقنية وغير التقنية. المميزات التقنية مثل ألوان الصورة، وجود كائنات يمكن التعرف عليها. لكن هناك مميزات غير تقنية عدة تحفظ للصورة مكاناً في الذاكرة. تختلف هذه المميزات لناحية الأهمية السياقية والثقافية، وتميز المحتوى المرئي غير المعتاد الذي ينحرف عن المشاهد الشائعة. السياق الثوري لهذه الصور ميزها عما عهدناه عن الصورة الذهنية الخاصة بالوطن. في لحظة ما، تحولت صورتي الذهنية عن مصر من صورة نساء الطبقة الدنيا اللواتي تنقشن الكعك في العيد إلى نساء أخريات، يجردهن النظام من ملابسهن في الشارع. 

تكرر فيديو وصورة الرجل الذي وقف أمام المدرعة باعتبارها صورة أيقونية من صور الثورة. بتطبيق معايير القابلية للتذكر التي أوجدها الباحثون في ماساتشوستس، يمكننا أن نستنتج أنها صورة أيقونية بسبب مميزات تقنية وغير تقنية عدة. فالمميزات التقنية تتمثل في اللون والتباين، إذ يخلق التباين اللوني بين الماء المتناثر على الخلفية الداكنة والوشاح المميز للمحتج نقطة محورية بصرية. يلفت استخدام درجات الألوان الداكنة مع اندفاع مفاجئ من رذاذ الماء الأبيض، الانتباه إلى الشخصية المركزية. بالإضافة إلى السرد البصري القوي المتمثل في الفصل بين المحتج و”الآخر” الذي يتمثل في المدرعة وقوات الشرطة.

يشير هذا السرد إلى ديناميكيات القوة والاحتجاج، ما يجعل الصورة أكثر قابلية وجدارة بالتذكر. بينما المميزات غير التقنية تتمثل في مركزية المحتج في الصورة. يتردد صدى موقف الشخصية المركزية، في مواجهة مدفع المياه بثقة أو تحدٍّ، عاطفياً. غالباً ما يعزز هذا العنصر الذي يركز على الإنسان، القدرة على التذكر لأنه يرتبط بموضوعات عالمية مثل المقاومة. بينما في ما يخص الأهمية السياقية والثقافية لهذه الصورة، فإنها تلخص لحظة من التوتر والمواجهة، وتستحضر مشاعر الشجاعة والمقاومة والنضال ضد القمع. من المرجح أن تبقى مثل هذه المشاهد المشحونة عاطفياً في الذاكرة.

سألت حسن عن رأيه بخصوص هذه الصورة، فأخبرني: “بتحسسني بحاجة (شيء شاعري مما لا يعني شيئاً) مينفعش تهد دولة عشان مشاعر”. 

تصوّب ذاكرتنا نظرها نحو نقاط ثابتة في الماضي، ولكن هذا الماضي يتبدّل، فلا يحتفظ بنفسه في هذه الذاكرة بالصورة التي وقع بها. الماضي يتجمد في أشخاص وأحداث رمزية تلتصق بها الذكرى. فتصبح ذكرى الثورة متمثلة في اللحظة التي قرر أحدهم الوقوف أمام المدرعة وليس حين نجحنا في استلاب العيش والحرية والعدالة الاجتماعية. كيف سنتذكر نحن الثورة بعد عشرات السنين؟ هل سننقل هذه الذكرى لأبنائنا؟ أم أن ذاكرة الأجيال التي عاشت الثورة ستندثر بموتهم؟ ما جدوى التذكر إن لم ينتج من الذكرى فعل سياسي؟ 

ميلانخوليا الثورة والجيل زيد

هنا يمكننا أن نتساءل عن علاقة الميلانخوليا والسياسة. للوهلة الأولى، تبدو هذه المفاهيم متعارضة: فالسياسة تشير إلى العمل الجماعي، والنضالات الموجهة نحو مستقبل أفضل، والمشاركة المجتمعية، في حين ترتبط الميلانخوليا بالانسحاب الشخصي، والتخاذل أو التقاعس، والتعلق بالماضي. يقدم سيغموند فرويد تحليلاً نفسياً للميلانخوليا في مقاله الميلانخوليا والحداد في 1917، باعتبارها حالة الكآبة والانسحاب الناتجة من فقدان شيء، سواء كان شخصاً أو مثالاً أو مفهوماً مجرداً.  وعلى النقيض من الحداد، حيث يقبل الفرد الخسارة تدريجياً ويمضي قدماً، تحتم الميلانخوليا على الفرد أن يثبت ويعلق مع الشيء المفقود. ويؤدي هذا التثبيت إلى نوع من الانغماس في الذات والصراع الداخلي، حيث يحول الفرد الميلانخولي مشاعر الخسارة إلى الداخل، ما يؤدي إلى تأنيب الذات والشعور بالذنب والاكتئاب. 

على صعيد آخر، تربط جوليا كريستيفا في كتابها “الشمس السوداء: الاكتئاب والميلانخوليا” (1989)، بين الكآبة وأزمة وجودية عميقة، متجذرة في علاقة الشخص باللغة والمعنى. وتصف الميلانخوليا بأنها شكل من أشكال الاكتئاب، إذ يشعر الفرد بالانفصال عن نفسه وعن العالم. وبالنسبة الى كريستيفا، فإن الميلانخوليا ليست مجرد محنة شخصية، بل تعكس أيضاً حالة ثقافية ووجودية أعمق. كما ترى أن الميلانخوليا هي وسيلة لمواجهة غياب المعنى في الحياة والقيود التي تفرضها اللغة على التقاط التجربة الإنسانية بالكامل. وبهذا المعنى، تصبح الميلانخوليا مساحة للتأمل وإعادة تصور التجديد الشخصي والسياسي.

تقول إنجي “بصي، هي ذكرى الواحد مش عارف يخرج منها. حتى مش هقول ذكرى. هي فكرة بتطلع من أقل شرارة. أصل في لقطة ما كنت مالك الكون كله بإيدك وبعدين في لقطة تانية انت بقيت متلجم تلجيمة”. 

تقول ليلى: “صوت الحرية كانت أغنية سعيدة، لكن دلوقتي بتعيطني. في نوع من الأمل في الأغاني بيهزني جداً. بحس حد نتش إحساس الحرية؟ هم ادونا أمل إن في حاجة ممكن تتغير ولما كبرتي بتلاقي إنه لأ. أنا عندي أمل. الأمل ده أوديه فين؟ أنا مش شايفاله مجال أعديله في أي حاجة. أنا كنت بحب فكرة إن الشخص الضعيف يجري ورا حقه. الثورة كانت النموذج الحقيقي لده. ده معناه إن طفلة عندها 10 سنين ممكن في المستقبل تحقق العدالة لما تكبر. فين اللي اتوعدت بيه؟ إن صوت الحرية اللي هو صوتي هيبقى في كل شارع في بلادي”. 

هكذا يعلق بعض أبناء الجيل زيد في أمل الماضي، بينما يظن بعض آخر أن الأمل في مستقبل أفضل يتم انتزاعه بالكامل. فيقول علي (اسم وهمي) “الأمل بيقل، الأمل بيتم اتتزاعه، كل حاجة بتدي أمل شبه انتهت”. 

يقدم سلافوي جيجك نظرة نقدية أكثر تجاه مفهوم الميلانخوليا، بخاصة في ما يتعلق بالسياسة. يستند إلى التمييز الذي وضعه فرويد بين الحداد والميلانخوليا ليقول إن الأخيرة تتعلق بعدم القدرة على التخلي عن موضوع أو مثالية مفقودة، ما يؤدي إلى شعور بخيبة الأمل تجاه كل الواقع الحالي. ينتقد جيجك كيفية تمجيد الميلانخوليا في الدراسات الثقافية على حساب الحداد، مشيراً إلى أنها تمثل نوعاً من الانسحاب السلبي من الفعل السياسي. ومع ذلك، يعترف أيضاً بأن الميلانخوليا يمكن أن تكون نقطة الانطلاق للفلسفة، لأنها تمثل عدم الرضا عن العالم الذي يدفع الأفراد إلى التشكيك وإعادة التفكير في رغباتهم ومعتقداتهم.

بالنسبة إلى جيجك، تكشف الميلانخوليا عن حالة عدم الرضا عن العالم كما هو، لكنها أيضاً تحمل إمكانية للتغيير الجذري إذا تمكن هذا الاستياء من أن يُترجم إلى فعل.

هل يمكن أن يترجَم استياؤنا بعد هذه الهزيمة إلى فعل؟ يختلف مفهوم الفعل عند بعض المنتمين الى الجيل زيد. فبالنسبة الى إنجي التي فقدت الإيمان في فعل راديكالي ضخم يغير النظام كما هو، تقول “أنا مش ناوية أكون دم على الأرض تاني عشان قررنا نسقي النهاردة وبكرة هنعمل خازوق”. بينما وجدت ماريا قدرتها في الفعل السياسي في النشاط النسوي قائلة “لو مش قادرة أحتك بالدولة، يمكن أحتك بالنسوية من غير ما أضحي بنفسي”. 

قال إبراهيم “أنا خايف أتسجن. هو ولد عندي خوف. عندي إدمان أشوف شهادات السجون فبيتنامى عندي شعور الخوف. مش مستعد أخسر كل حاجة”. كنت بقول على جيكا أنا أقل منه في إيه؟ لكن دلوقتي لأ. على الأقل مش هاخد أول خطوتين تلاتة”. 

تظن كل من ليلى وفريدة (اسم وهمي) بأن الفعل السياسي يبدأ من النجاة الفردية. تقول ليلى: “أنا لو أنقذت نفسي هبقى بنقذ غيري (في هذه الأثناء). هل أنا بضحي بنفسي دلوقتي؟ لأ ما أنا خايفة. ليه أموت لو ده مش هيغير حاجة. الشهداء اللي ماتوا في 25 يناير لو شافونا دلوقتي كانوا هيقدموا نفس التضحية؟”. بينما تقول فريدة: “المقاومة الحقيقية في الحياة اليومية. المقاومة الحقيقية هو إني أسعى لحلمي. المقاومة إني أرجع أحب الحاجات اللي خفت منها واتكسرت جوايا بسبب الأوضاع الخارجية”. 

بينما حسن، يرد قائلاً: “لو قامت ثورة مستحيل أشارك فيها أياً كانت ضد مين”. 

تختلف علاقة الجيل زيد بالثورة من فرد الى آخر. تختلف الهزيمة وتختلف نظرتنا إلى المقاومة بين المقاومة اليومية وبين إرث المقاومة الجماعية الراديكالية. لكن يظل السؤال، هل ولدنا نحن قبل مولدنا أو بعده؟ هل شكلتنا الثورة؟ وهل تأثرنا بالهزيمة من الأساس؟ في واقع المقابلات فقد شكلت الثورة غالبية المقابلين. شكلتهم على طرق متباينة . فمنهم من اتجهوا إلى النسوية وأكثرهم من اتجهوا  إلى المقاومة الفردية اليومية. منهم من يحيى على الأمل ومنهم من فقده بالكامل. منهم من يتمنى سراً الثورة ومنهم من يراها خراباً مطلقاً. 

ويبقى سؤال: لماذا نشعر بالفقد والهزيمة حيال معركة لم نخضها؟ أم أن جميع المصريين كانوا جزءاً من هذه المعركة سواء أرادوا ذلك أم لم يريدوا؟.

30.11.2024
زمن القراءة: 14 minutes

اشترك بنشرتنا البريدية