fbpx

عن الحقّ في الإجهاض باعتباره استثناءً تونسيّاً”..إلى حدّ ما

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

“ما كنت لأتّخذ قرار الإجهاض بعدما حملت من صديقي الحميم، لو كنت أعيش في مجتمع آخر”.لم تكن الشابّة التونسية قد تخطّت عتبة الـ21 سنة بعد، عندما وجدت نفسها مضطرّة إلى الإجهاض.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

“ما كنت لأتّخذ قرار الإجهاض بعدما حملت من صديقي الحميم، لو كنت أعيش في مجتمع آخر”… مضت بضع سنوات بعدما أجهضت سارة (اسم مستعار) جنينها، لكنّ كلماتها تلك جاءت مريرة مشبعة بالوجع كما لو أنّها ممدّدة حتّى الساعة في عيادة الطّبيب. لم تكن الشابّة التونسية قد تخطّت عتبة الـ21 سنة بعد، عندما وجدت نفسها مضطرّة إلى الإجهاض. “لم يكن الحمل متوقّعاً”، تشرح قائلة “شعرت بالصدمة ولم أعرف ما عليّ فعله”.

حصل صديق سارة الحميم من صديقة له على عنوان طبيب يجري عمليات الإجهاض الجراحي في مصحّة خاصّة وبشكل سرّي. زارت الشابّة وصديقها الطبيب بداية في عيادته الخاصّة، ودفعت له أجرته قبل أن يحوّلها إلى مصحّة في “باب الخضراء” وسط العاصمة. هناك، تخلّص الطبيب من الجنين في نحو 15 دقيقة من دون أيّ استفسار عن وضعية الشابة الصحية أو القيام بتحاليل مسبقة. كانت “سارة” تحت تأثير البنج وعندما عادت إلى وعيها لزمها وقت طويل لتتجاوز شعورها بالاكتئاب. شهران فقط كانا كافيين لتقرّر الانفصال عن صديقها الحميم ومحاولة المضيّ قدماً في حياتها بعيداً من وجع الذّاكرة.

في شهر أيار/ مايو 2017، أعلن الديوان الوطني للأسرة والعمران البشريّ أنّ عدد حالات الإجهاض في تونس بلغ 17 ألف حالة سنويّاً، 13 ألف منها تُجرى بمراكز الصحّة العمومية. أمام هذا الرّقم، قد تبدو قصّة سارة عادية أو مألوفة حتّى، لكنّ شهادتها تحمل في طيّاتها مفارقة عجيبة ربّما تكشف بعض ما يعيشه المجتمع نفسه من مفارقات وتجاذبات. فهذه الشابّة العشرينية التي خاطرت بسلامتها في عملية إجهاض سريّ ومخالف للقانون هي في الواقع ناشطة حقوقية ونسويّة.

“على النقيض ممّا يفترض أن يكون، كثير من نشطاء حقوق الإنسان أنفسهم لن يتقبّلوا وجودي كأمّ عزباء وسيعود عليّ ذلك بالضّرر بل وقد يقضي على مسيرتي الحقوقية”

“على النقيض ممّا يفترض أن يكون، كثير من نشطاء حقوق الإنسان أنفسهم لن يتقبّلوا وجودي كأمّ عزباء وسيعود عليّ ذلك بالضّرر بل وقد يقضي على مسيرتي الحقوقية”، توضح سارة جازمة ” إذ لا ريب بأنّهم سيلقون باللّوم عليّ لأنني لم أحمِ نفسي. ففي النهاية مهما كنت تقدّمياً فإنّ هناك موروثاً ثقافيّاً ودينياً لن تنجح في تجاوزه”، بحسب تعبيرها.

عقبات في طريق التصرّف في الجسد

يسمح القانون التونسي منذ عام 1973 لأي امرأة راشدة بإجراء الإجهاض للحمل غير المرغوب فيه، متزوّجة كانت أم عزباء، ومن دون الحاجة إلى موافقة أي شخص، ولكن مع الحرص على توفير الضمانات الكافية لحماية صحة المرأة عبر منع الإجهاض بطرائق غير قانونية وغير علمية. وبالرجوع إلى الفصل 214 من المجلة الجزائية نتبين أن قطع الحمل عمدا أمر مسموح بشرطين: -ألاّ تتجاوز مدة الحمل الثلاثة أشهر الأولى

– يرخص فيه بعد الثلاثة أشهر إذا يخشى من أن يتسبب تواصل الحمل في انهيار صحة الأم.

وفي الحالتين، اشترط القانون أن يجرى الإجهاض في مؤسسات عمومية صحية أو مصحات خاصة مرخصة وبواسطة طبيب مباشر لمهنته بصفة قانونية تجنباً لأي خطر على صحة الأم. في ما عدا ذلك، يمنع القانون التونسي تولي الإجهاض أو محاولة إسقاط الحمل ولو برضا الحامل نفسها ويعاقب القانون على استعمال جميع الوسائل من أطعمة ومشروبات وأدوية أو وسائل أخرى لإسقاط الحمل ويعاقب بالسجن وبالخطية أو بإحدى العقوبتين الأمّ المعنية بالأمر ومن ساعدها أو أشار عليها بذلك. 

قد يكون ارتفاع معدّلات الإجهاض في تونس مؤشّرا على تجاوز الوعي الجمعيّ لمرحلة مناقشة منع الحمل أو الإجهاض، غير أن الطريق أمام ممارسة النساء حقّهن في اتّخاذ القرارات بشان أجسادهنّ لا يزال طويلاً محفوفاً بالعقبات. فقد شهدت السنوات الأخيرة تراجعاً لسياسة الدولة في مجال الصحة الإنجابية والتنظيم العائلي لعلّ أبرز تمظهراتها أزمة نقص الدّواء التي طاولت حبوب منع الحمل واللّوالب وغيرها من الوسائل.

وفي سياق التحديات دائماً، تأسف جنان الإمام رئيسة الجمعية التونسية للحريات الفردية، لكوننا “شهدنا ونشهد تنامياً للخطاب الديني المعادي للحريات الفردية وللحقوق الجنسية حيث تمارس مجموعات كثيرة ضغوطاً كي تحدّ من هذه الحقوق وهي لا تتوانى عن استغلال المنابر الدينية مثل المساجد وخطب الجمعة والبرامج الدينية في القنوات التلفزية والإذاعية للحشد ضد الحق في الإجهاض والحقوق الجنسية والمساواة بين الجنسين وحقوق الإنسان ككلّ”. وتضيف “ويجد هذا الخطاب للأسف صدى لدى بعض الشرائح الاجتماعية وكذلك ضمن بعض المنتمين للإطار الطبي وشبه الطبي وهو ما يقف عائقاً حقيقياً دون التمتع بالحقوق الإنجابية والوصول إلى الخدمات الصحية خصوصاً بالنسبة إلى الفئات الاجتماعية الأكثر هشاشة وتهميشاً”.

من هنا أصبح لزاماً التصدي لمحاولات تقييد الوصول إلى الخدمات الصحية بناء على تنميط جنساني يعدّ القدرة الإنجابية للمرأة واجباً وليس حقاً، واعتبار ذلك إحدى حالات التمييز ضد النساء. هي إذاً “جولة” ضمن معركة الحريات الفردية في تونس، ديدنها أن يكون الاختيار الحرّ بالنسبة إلى الفرد مضموناً في الواقع كما في القانون.

موصومة أنت… أجهضت أم لم تجهضي…

مؤخراً، دعت الجمعية التّونسية للنّساء الدّيموقراطيات إلى سحب المنشور المؤرخ في 10 آب/ أغسطس 2018 والمتعلق بوجوب الإعلام عن حالات الحمل والولادة خارج إطار الزواج، “فوراً نظراً لتعارضه الصارخ مع مقتضيات الدستور المتعلقة باحترام الحياة الخاصة والمعطيات الشخصية”.

وقالت الجمعية في رسالة مفتوحة وجهتها إلى وزير الصحة، إنّ “التأكيد المتواصل على أن الولادات خارج إطار الزواج تعتبر حالات استثنائية وبضرورة الإشعار والإعلام بهذه الولادات يعد سابقة خطيرة وتهديداً واضحاً لخصوصيات النساء”، واصفة المنشور بـ”محاولة جديدة لضرب حقوق النساء في التمتع بخدمات صحية ذات جودة وفي كنف احترام خصوصياتهن ومقتضيات احترام السر المهني في القطاع الصحي عموماً وفي ما يتعلق بخدمات الصحة الجنسية والإنجابية بصفةٍ خاصة”.

واعتبرت الجمعية أنّ “منشور 2018 يستهدف مباشرة وبصورة واضحة الأمهات العازبات، ما سيزيد من معاناتهن من أشكال الوصم والتمييز داخل المؤسسات الصحية وفي المجتمع، ويعرض الأطفال المولودين خارج إطار الزواج إلى الهشاشة والإقصاء والتهميش”، مستنكرة في رسالتها “التقهقر الواضح والتّضييقات الكثيرة التي تشهدها خدمات الصحة الجنسية والإنجابية منذ فترة إذ تعرف وسائل منع الحمل انقطاعات متكررة ويتم رفض إجراء عمليات الإجهاض في مراكز الصحة الإنجابية بناء على اعتبارات أخلاقية”، وفق نصّ الرسالة.

ودعت السلّطات المعنية والإطارات الطّبية وشبه الطبية كافة، إلى وقفة حازمة لإنقاذ منظومة الصحّة العمومية وتوفير خدمات الصحّة الجنسية والإنجابية لكلّ النّساء من كلّ الجهات والفئات من دون أيّ شكل من أشكال التّمييز

وكانت وزارة الصحة التونسية أصدرت منشوراً بتاريخ 10 آب 2018 يدعو الأطباء والقابلات العاملين بهياكل الصحة العمومية والمؤسسات الخاصة إلى وجوب إعلام ممثلة وزارة الصحة ضمن لجنة إثبات النسب، عن حالات الحمل والولادة خارج إطار الزواج.

جسدي ليس ملكي…

عام 2005، أجهضت نادية، أمّ لثلاثة أطفال، في أواخر الشهر الثاني من الحمل. كان زوجها قد خسر وظيفته للتوّ وخشيت أن يكون الطفل الرابع “عبئاً إضافياً يصعب توفير حاجياته”. تمّ الإجهاض في أحد المراكز الصحية التابعة للديوان الوطني للأسرة والعمران البشريّ بمحافظة “أريانة”. تعود نادية بالذكرى إلى ذلك اليوم مغالبة عبراتها. “كانت الرّوح قد نفخت فيه بالفعل، أشعر بالندم الشديد لأنني قتلت طفلي وأخشى أن يسألني عنه الله يوم القيامة. فجسدي ليس ملكي بل هو ملك ربّي الّذي خلقه”. تدرك “نادية” جيّداً أنّ قرار الإجهاض كان صائباً حينذاك، لكنّها لا تزال بعد كلّ هذه السنوات تشعر بالتمزّق بين خيارين أحلاهما مرّ. تمزّق يجد صداه ضمن جدلية بين “الحق في التصرّف في الجسد” و”الحق في الحياة”.

“شهدنا ونشهد تنامياً للخطاب الديني المعادي للحريات الفردية وللحقوق الجنسية حيث تمارس مجموعات كثيرة ضغوطاً كي تحدّ من هذه الحقوق وهي لا تتوانى عن استغلال المنابر الدينية مثل المساجد وخطب الجمعة والبرامج الدينية في القنوات التلفزية والإذاعية للحشد ضد الحق في الإجهاض والحقوق الجنسية والمساواة بين الجنسين وحقوق الإنسان ككلّ”.

يرى حقوقيّون أنّ مناهضة الحق في الإجهاض بدعوى احترام “الحق في الحياة” هو حجّة دينية بالأساس تستخدمها الأطراف المحافظة لمصادرة حق النساء في التصرّف في أجسادهنّ ضمن “سلّة” كاملة من الضغوطات الممارسة على المرأة: لا تستخدمي وسائل منع الحمل أو تجهضي جنينك فـ”كلّ ما يأتي به الله خير”، و”المولود يأتي ورزقه معه”، و”تكاثروا فإنّي مباه بكم الأمم”…

تذهب الأستاذة الجامعية والناشطة الحقوقية حفيظة شقير بعيداً في تناول الجدلية المذكورة، فهي ترى أنّه “باسم الحق في الحياة يجب الاعتراف بالحق في الإجهاض وتدعيمه، فوحدها امرأة بصحة جسدية ونفسية جيّدة يمكنها أن تمنح الحياة لغيرها”.

القناعات الدينية نفسها جزء لا يتجزّأ من الموروث الثقافي وهوية الأشخاص، لكنّها وفق تعبير شقير يجب أن “تذهب في اتّجاه إثراء الحقوق لا التّضييق عليها”، زد على ذلك فإنّ إقحام الدّين في المسائل الحقوقية “أمر خاطئ” لأنّ هناك قوانين وضعية تنظّمها ويجب الاحتكام إليها وحدها.

يعود اليوم العالمي للإجهاض الآمن إذاً، في سياق يصبح فيه “الاستثناء التونسي” إثباتاً للقاعدة. استثنائية هي المرأة التونسية في تمتّعها بحقوق وحريات تحسدها عليها سائر النساء العربيات، لكنّ جسدها ما زال “القاعدة”… جسد عربيّ محكوم بموروث ثقافي يكبّل فيه حرية التصرّف والاختيار وبعادات مجتمعية تلاحقه بالوصم كيفما كان. جسد تخاض فيه حروب هوّياتيّة وسياسية وأخرى “بالوكالة” إمعاناً في السّيطرة، فكأنّ من يسيطر على الجسد يسيطر على المجتمع.


إقرأ أيضاً

اليوم العالمي للإجهاض الآمن: نُفخت فيه الروح… لم تُنفخ فيه الروح

درية شفيق قائدة نسائية حذّرت من استبداد عبد الناصر فمحاها من التاريخ

سامر المحمود- صحفي سوري | 23.04.2024

“مافيات” الفصائل المسلّحة شمال سوريا… تهريب مخدرات وإتجار بالبشر واغتيال الشهود

بالتزامن مع تجارة المخدرات، تنشط تجارة البشر عبر خطوط التهريب، إذ أكد شهود لـ"درج" رفضوا الكشف عن أسمائهم لأسباب أمنية، أن نقاط التهريب ممتدة من عفرين إلى جرابلس بإشراف فصائل الجيش الوطني، وتبلغ تكلفة الشخص الواحد نحو 800 دولار أميركي، والأشخاص في غالبيتهم خارجون من مناطق سيطرة النظام، متوجهون إلى تركيا ثم أوروبا.