
انقسم الفلسطينيون وخصوصاً في فلسطين إلى فريقين حيال الصدمة الثانية التي أصابت الشيخ حسن يوسف القيادي في حركة “حماس” في الضفة الغربية، بهروب ابنه الثاني صهيب وانشقاقه عن العائلة وحركة “حماس” والمجتمع الفلسطيني، وإعلانه التخلي عن كل ما يربطه بماضيه الشخصي والعائلي والوطني والديني. وكانت المخابرات الإسرائيلية وجّهت الصدمة الأولى ليوسف و”حماس” والمجتمع الفلسطيني قبل سنوات قليلة، عندما انشق الابن البكر للشيخ، مصعب حسن يوسف وإعلانه التماهي مع إسرائيل مجتمعاً وسياسة وفكراً.
على رغم انقسام الفلسطينيين في الموقف من هذه التراجيديا، إلاّ أن الفريقين وحدتهما فكرة التضامن مع يوسف الذي يحمل له الفلسطينيون بمختلف أطيافهم السياسية والأيديولوجية احتراماً، بصفته قائداً من “حماس” يميل بأفكاره إلى الفكر المعتدل الوطني الفلسطيني، ولا يحمل عصبية دينية إخوانية كغيره من قياديي “حماس” الأصوليين. وفي الوقت نفسه، كان الشيخ حسن قريباً من ياسر عرفات إلى رحيله ومن مروان البرغوثي المسؤول الفتحاوي، إلى ما قبل اعتقاله وسجنه في إسرائيل.
قسم من الفلسطينيين الذين هالهم هذا الحدث، استعانوا بالقرآن والأمثال الشبيهة التي وردت فيه عن الابن “العاق” للنبي نوح أو أبناء النبي يعقوب “العاقين” الذين تآمروا على أخيهم يوسف القريب إلى قلب أبيه ورموه في البئر. وهؤلاء الفلسطينيون لم يجدوا غير هذه الأمثلة لتهدأ من ارتداد الزلزال الصاخب الذي أصاب الشيخ حسن يوسف، والذي يصدع الجبال، إلاّ لدى من كان ثابتاً على دينه وإيمانه.
أما القسم الآخر وهو الطاغي في صفحات التواصل الاجتماعي، فقد تداولوا هاشتاغ “كلنا أولادك” يا شيخ حسن، آملين من خلال هذه الصرخة ذات البعد العائلي العاطفي البسيط، بأن تخفف عن الشيخ مصيبته بالتعويض عن ولديه العميلين “العاقين”، بآلاف الأبناء الافتراضيين. إلا أن الشيخ مجروح بكبريائه الديني والوطني والنفسي والاجتماعي، جرحاً لا تعوضه لا الذرية ولا التضامن الذي نعرف كلنا أنه سيكون سحابة صيف عابرة في وسائل التواصل الاجتماعي، وسيبقى هو أسير روحه المجروحة إلى ذروة التدمير الذي لا براء منه.
على رغم انقسام الفلسطينيين في الموقف من هذه التراجيديا، إلاّ أن الفريقين وحدتهما فكرة التضامن مع يوسف الذي يحمل له الفلسطينيون بمختلف أطيافهم السياسية والأيديولوجية احتراماً
واقتصر التضامن العاطفي على ذلك على ما يبدو، إذ لم نقرأ لأحدٍ من الكتاب والسياسيين والباحثين في الشأن الفلسطيني العام، تحليلاً لتلك الدراما القاسية التي تداولتها وسائل الإعلام الإسرائيلية بإسهاب وسرور بالغين. لم يكن عدم تناول مأساة الشيخ حسن يوسف بالدراسة من قبل المعنيين الفلسطينيين سوى دليل على جوهر المعضلة، فلم تكن الضربة التي وجهت إلى يوسف مجرد ضربة لفرد أو قيادي في حركة إسلامية ترفع لواء الصراع الأبدي مع العدو الإسرائيلي فقط، بل هي ضربة وجهت إلى الضمير الجمعي الفلسطيني في صراعه مع إسرائيل. وطبعاً، أصابت الجميع بصدمة جارحة في الهوية التي تتعرض منذ عقود إلى محاولات تفكيك وتحطيم وصولاً إلى محقها بالكامل.
قلّما انتبه المحللون النفسيون للاضطرابات السيكولوجية للخونة، فنادراً ما أتيحت الفرصة لهؤلاء لعلاج تركيبة الخونة السياسيين أو الجواسيس النفسية، وتحليلها، وإن كانوا على الأغلب خبروا مرضى كثيرين مضطربين ومصابين بمرض الكذب أو الخيانات الشخصية في العلاقات العاطفية.
من خلال السير الذاتية أو المذكرات المنشورة لهؤلاء، قدم بعض علماء النفس تحليلاتهم حول أشكال الانحراف والتعلق المرضي بالأشياء أو الأشخاص والرغبات الغريزية المحبطة أو المعوقة للنمو النفسي واضطرابات الإيغو (الأنا) أو انحرافاته لدى الخونة، وإعادة تركيب اضطرابات الطفولة من خلال مذكراتهم وسيرهم الذاتية. فلطالما كان من شبه المستحيل خضوع هؤلاء للتحليل النفسي الواقعي، وإن كان بعض الروائيين أو السينمائيين قدموا شخصيات متخيلة تستند إلى حكايات حقيقية لجواسيس خانوا بلادهم. ولكن فهم الخيانة عبر تحليلها، لا يقتصر على متابعة التطور السيكولوجي الفردي المضطرب فقط، ذلك أن التحولات النفسية لدى الخائن مرتبطة أيضاً بتاريخ من التحولات الاجتماعية والسياسية في الوقت نفسه.

فالفلسطينيون اليوم يمرون في أقسى مرحلة من الانقسام الحاد في المجتمع والتمثيل السياسي وفشل المشروع الوطني برمته ودخول المشروع الإسلامي في فلسطين في نفق مظلم، وحالة الحصار على المستويات كافة، التي خلقت واقعاً من الفقر والعوز والأمراض. أدى ذلك إلى محق الثقة بالكامل بكل الممثلين السياسيين للشعب، وانعدام وجود أي مشروع سياسي واضح لديهم، يكون للناس فيه دور فاعل وانتشار حالات الانتحار لدى الشباب والتفكك الحاصل في المحيط العربي وغياب الثقافة الكفاحية وتعويضها بصواريخ، ما لا يؤدي إلا إلى المزيد من القتل والتدمير.
هذه التطورات المتعاقبة للجماعة والمعاملات الناشزة مترافقة مع الديناميات الداخلية للجاسوس، كلها تخلق تربة خصبة للخيانة.
إن فهم التطور الفردي للبنية السيكولوجية وصفاتها المميزة للخائن، على رغم ضرورة فهمها وتحليلها، إلاّ أنها لا تكفي لفهم الخيانة، لأن الخونة في فعل خيانتهم يحاولون الهروب من واقع مفكك، يساهم فيه عقلهم الباطني المضطرب، ويكون هروبهم محاولة لتغيير تاريخهم الشخصي وتاريخ بلادهم في الوقت نفسه.

لم يكف الشيخ حسن يوسف إيمانه الديني ولا محبة الناس له وتقديرهم مواقفه ونضاله وإبعاده عام 1992 ولا سجنه لسنوات طويلة في السجون الإسرائيلية، لتشكيل تقية وحصانة له ضد انحراف ولديه، وربما كل هذه الصفات التي ميزته مناضلاً، كانت هدفاً للإيغوات المضطربة لولديه لمحاولة تحطيمه وتحطيم المثل التي حاول إيجادها ضمن العائلة أو في المجتمع.الخيانة هي خيانة للمثال الثقافي والاجتماعي العام الذي ينتمي إليه الخائن وهي في الوقت نفسه خيانة للمثال الشخصي. وأحياناً يلعب الخونة في دهاليز نفوسهم المضطربة دور الحجّاب أو حراس المثل العليا لمجتمعاتهم. وبدلاً من حماية تلك المثل الثقافية والقيم العليا الاجتماعية الموروثة والمبادئ المتفق عليها والمعايير العامة لبيئتهم، يقومون بخيانتها في محاولة لتحطيمها بضربة صاخبة واحدة. ذلك أن اللاوعي المضطرب يحاول تفكيك التماهي المكتسب بالتربية مع كل تلك القيم والمعايير على المستوى الشخصي أولاً، ثم على المستوى الثقافي العام باعتبارها قيماً وضيعة وفاشلة. هي محاولة لتدمير الجسد الشخصي أو السياسي للمثال الفردي، أو محاولة لانتهاك الأب (الشيخ حسن يوسف) أو الزعيم أو الحركة من خلال الانضمام إلى العدو الخارجي أولاً، وفي الوقت نفسه من داخل ما يشكله المثال في أعماق الخائن الذي يتغذى على فتات بقايا المثال الذي يقوم بتدميره أكان مثالاً فردياً أو جمعياً في داخله.
يمكن اعتبار الخيانة في هذه الحالة فعلاً سادياً ضد هدف داخل نفس الخائن، هو نفسه يتغذى عليه ويشعر بأنه بدوافع سياسية وشخصية يرغب في تحطيمه. وبذلك يمكن أن نقول إن الخيانة هي هجوم خارجي للخائن ضد داخله، بكل ما يحمل هذا الداخل من اضطرابات معقدة في إحباطاتها ومرعبة في العيش معها، ومحاولة تحطيم كل شيء أحبه أو يحبه والذهاب بعيداً إلى ما تربى على كراهيته، أي العدو لاكتمال التحطيم الخارجي والداخلي.