“إهانة الأئمة والرموز الدينية” هي آخر ما تفتق عنه خيال “حزب الله” بفعل المأزق الكبير الذي وضعته فيه الانتفاضة اللبنانية. هذه الذريعة هي التي شرع مناصرو الحزب يستعينون بها في غزواتهم لساحات الانتفاضة، في بيروت وصيدا والنبطية، والحزب كان افتتح زمنها قبل أسابيع حين غزت مجموعة من الـ”شيعة شيعة شيعة” منطقة عين الرمانة المسيحية. الأمر لا يتطلب أكثر من الدخول إلى “غوغل سيرش” لتقفز في وجهك أشرطة المتعرضين للأئمة ولأئمة الآخرين بالإهانات. في المرة الأولى استحضر الغزاة شريطاً عمره أكثر من سنتين وانطلقوا إلى عين الرمانة، وفي المرة الثانية استدرجوا معتوهاً يقيم في اليونان وهاجموا خيم المعتصمين في النبطية وصيدا وبيروت.
المشاهد كانت مفتعلة، والأئمة آخر ما يشغل المهاجمين. الأئمة المساكين هم أنفسهم الذين توجه الحزب إلى سوريا لحماية مزاراتهم! هل تذكرون؟ وليتبين بعدها أن المهمة في مكانٍ آخر تماماً. المهمة أيضاً كانت حماية النظام هناك. الأئمة الشيعة أيتام أبديون، لم يبحثوا يوماً عمن يريحهم من ظلامتهم، وشبيبة زقاق البلاط حين ينقضون على خيم المعتصمين في النبطية، إنما يؤدون المهمة التي أداها جيش يزيد حين انقض على خيم العترة الحسينية في كربلاء قبل 400 عام وألف. لكي تكون شيعياً عليك أن تكون الضحية لا الجلاد، ولهذا استبدل الغزاة شيعيتهم بأخرى مخصبة اسمها “شيعة شيعة شيعة”.
الذريعة كشفت ركاكتها في أكثر من محطة. فـ”الفتنة النائمة”، على ما راح يسخر الناشطون على وسائل التواصل الاجتماعي من رجال الدين الذين تبادلوا الزيارات أعقاب غزوات “أهل الغيرة على الدين”، لم تستعن بأشرطة فيديو حين تكررت ليلة الثلاثاء، ومعتصمو النبطية وكفرمان هم من سبط الرسول وأهل البيت، وبعضهم يؤدي أدواراً في عرض المصرع في العاشر من محرم، وهو اليوم الذي تحيي فيه النبطية ذكرى عاشوراء.
المشهد يشكل في النبطية مهزلة فعلية، والحزب حين دفع مناصريه إلى هذا الموقع كشف عن فقر مقلق في مخيلته. أما القول بأن المهاجمين هم “عناصر غير منضبطة”، فهو قد يصح في الغزوة الأولى، لكنه في الثانية والثالثة والرابعة، قرار اتخذ وشرعت العناصر “غير المنضبطة” بتنفيذه.
تكرار الغزوات، على رغم “مناشدات” الحزب وأمينه العام حسن نصرالله لجمهور الحزب الغاضب لـ”عدم الانجرار إلى الفتنة”، يؤشر إلى أن هناك قراراً اتخذ بغزو الساحات وبتأديب المنتفضين. فما علاقة أهل النبطية وأهل كفرمان بـ”فيديو الفتنة” حتى يتوجه إليهم جمهور الحزب والحركة ويحرقون خيمهم ويصرخون في وجههم “شيعة شيعة شيعة”؟ هذا المشهد يشكل في النبطية مهزلة فعلية، والحزب حين دفع مناصريه إلى هذا الموقع كشف عن فقر مقلق في مخيلته. أما القول بأن المهاجمين هم “عناصر غير منضبطة”، فهو قد يصح في الغزوة الأولى، لكنه في الثانية والثالثة والرابعة، قرار اتخذ وشرعت العناصر “غير المنضبطة” بتنفيذه.
والحال أن “الفتنة النائمة” مهزلة انطلت على الطوائف الأخرى أيضاً، وعلى الإعلام الخارج لتوه من جنان الممانعة إلى ساحات الانتفاضة، فتحول معتوه اليونان إلى مؤامرة يجب وأدها، وراح أئمة المساجد يتبادلون الزيارات وتصريحات الحب المتبادل والفارغ والمستهلك، فيما أرسلت التلفزيونات فرقها ومحققيها إلى مناطق من استهدفهم معتوه اليونان بأئمتهم. ولم تسأل وسيلة إعلام واحدة عن أسباب التراجع المفاجئ في قدرة “حزب الله” على ضبط الـ”العناصر غير المنضبطة”!
لا بل أن المهزلة تمددت إلى حدٍ هتفت معه “العناصر غير المنضبطة” خلال غزوها خيمة أهل كفرمان، ومن بينهم شيوعيون، “حرامي حرامي تشي غيفارا حرامي”، رداً على الهتاف الذي شهدته تظاهرات بيروت، أي “حرامي حرامي نبيه بري حرامي”، وهذا ما دفع مراقب إلى ملاحظة أن زمن غازي كنعان في لبنان شهد حرصاً أكبر على احترام ذكاء الناس خلال تولي النظام السوري قمعهم وانتهاك الحريات والقوانين أو تمرير صفقات الفساد الممتدة إلى زمننا هذا.
وبالعودة إلى تبادل شتم الأئمة والرموز الدينية، فهذا دأب الجماعات المذهبية منذ ولادتها إلى اليوم، وهذا ما لم يكن يوماً مصدراً لغضب من النوع الذي شهدته ساحات الانتفاضة في لبنان. فهذيانات السنة عن الشيعة، والشيعة عن السنة، قد تذهلك بتنوعاتها وامتداداتها المناطقية والاجتماعية، واستحضارها اليوم بوصفها موضوعاً لاحتقان راهن سيجد إرثاً هائلاً من النصوص والفيديوات، التي قد تفضي إلى حروب مديدة ستشغل الحزب عن مهمة تحرير فلسطين.