مشاهد الفرح الآتية من غزّة بعد إعلان اتّفاق وقف إطلاق النار ليست لحظة نصر، بل تنفّس يائس بعد جحيم. هو فرح مشوب بالوجع، لأن الناس يحتفلون بوقف القتل لا بتحقيق العدالة، يحتفلون بالعودة الى مناطقهم، لكنّ فجيعة فقدان كلّ شيء تضعهم أمام صعوبة السؤال عن الآتي.
الفرح مستحقّ لأن كلّ لحظة بلا قصف هي مكسب، لكنّها فرحة ممزوجة بالعار الجماعي تجاه العالم الذي شاهد المجزرة على مدى عامين ولم يتحرّك بل تواطأ، وبالمرارة تجاه كلّ من استثمر في دماء الغزّيين كوقود لخطابه السياسي.
لا نحترم دماء أهل غزّة وآلامهم بأن نتعامل مع أرواح من قضوا في آلة الرعب الإسرائيلية، وما سبّبته من ذلّ وفقر وتشرّد في العامين الماضيين بوصفها صفحة وانتهت… لن ينقضي الأمر بأن نواصل هجاء نتانياهو والغرب المتخاذل ونشيح بوجهنا عن أنفسنا…
من هم خارج غزّة من محلّلين، ناشطين، منظّرين للمقاومة الدائمة، مارسوا ترهيباً فرض نوعاً من الصمت مخافة التخوين، حرّضوا على استمرار الحرب باسم الكرامة، وشيطنوا كلّ من دعا إلى وقفها بوصفه “انهزامياً” أو “مطبّعاً”. لكنّ التجربة أظهرت أن هذا الخطاب لم يكن مقاومة، بل تغطية للكارثة.
لا يمكن بناء مشروع وطني أو تحرّري على الركام أو فوق أنقاض المدن، ولا يمكن تحويل مجتمع محاصر إلى ساحة اختبار دائمة لشعارات الخارج.
هل يفترض أن نطوي الصفحة دون أي مراجعة؟ لا أتحدّث فقط عن الخذلان العالمي، بل الأخطر هو عن التشرذم داخل مجتمعاتنا.
إقرأوا أيضاً:
هل من مراجعة لخطابنا؟ لإعلامنا؟ للناشطين من بيننا؟ هل من مراجعة لـ”حلّل يا دويري” وجماعة “تحريرها كلّها ممكن” و”القتال من مسافة صفر” و”ما بعد حيفا” ودعوات كلّ الخطباء والمحلّلين الذي ملأوا الفضاءات للاستمرار في القتال بوصف النصر بات قيد أنملة؟
ماذا نفعل ببائعي الوهم الذي كلّف دماً وأروحاً غالية، وبمروّجي الانتصارات الوهمية؟
التحليل السياسي الرصين اليوم يبدأ من الإقرار بأن الحرب انتهت إلى هزيمة أخلاقية وإنسانية شاملة، وأن من يواصل إنكار ذلك يشارك في إدامة دوّامة الخراب.
ليس الأمر مسألة هفوة بل مسألة أثر: الخطابات التي روّجت لضرورة “الاستمرار” جعلت من الخسارة البشرية ثمناً مقبولاً من أجل بقاء الحلم السياسي، وهذا ما يستدعي مساءلة أخلاقية وسياسية. يجب أن نطرح السؤال علناً: من دفع ثمن هذه الخطابات؟ ومن ربح سياسياً من تسويقها؟ ومن خسر حياتياً ومؤسّساتياً ومادّياً؟ وهل تحقّق التحرير؟
حرّية التعبير التي وُظّفت لقمع الأصوات الداعية إلى الحياة تحوّلت إلى أداة تخوين ومصادرة، خصوصاً في لبنان حيث استُنسخ المشهد ذاته: التحريض على استمرار القتال على الحدود، والتشهير بكلّ صوت يحذّر من الانزلاق إلى حرب شاملة.
لا يمكن تجاهل أن الخذلان الدولي والازدواجية في المعايير شجّعا على تداول خطاب القتال حتى آخر روح كخيار وحيد، لكنّ هذه الحقيقة لا تُعفي من المساءلة المحلّية. كما أن نهاية القتال فرضت واقعاً جديداً: موسم المراجعة ينبغي أن يشمل تقييماً إستراتيجياً وفتحاً لنقاش حول كيف تُقاس الأهداف السياسية، وما إذا كانت الوسائل تضمن الغاية الإنسانية والقانونية.
على القنوات والصحافيين والمحلّلين أن يتحمّلوا مسؤولية نقدية عند تحويل حدث ميداني إلى “نصر”، قبل أن يمرّ عبر مؤشّرات إنسانية وسياسية واضحة. مؤسّسات الإعلام يجب أن تُعيد تقييم أدوارها: هل كانت منبراً لشرح النتائج أم لسوق رموز النصر؟ وهل تمّ نشر تقديرات الخسائر والأثر الإنساني بصورة دقيقة أم كُوِّنت رواية بديلة؟
علينا أن نرفض تحويل الحرب إلى مادّة شعورية تُباع على شاشات التحليل، وأن نطالب بصوت مدني بمنطق يُقدّم حساباً عن الدم أوّلاً، ثم عن الخطاب. ففي نهاية المطاف، لا يمكن إعادة بناء المدن واستعادة النضال من أجل الحقّ فيما القلوب مشدودة نحو أسطورة نصر وهمي.
لا بدّ أن تبدأ المراجعة الآن.
من هذا المنظور، المحاسبة واجب أخلاقي لكلّ من جعل من الحرب خياراً رومانسياً عن بُعد، ولكلّ من أقام بطولات وهمية على أنقاض الناس الحقيقيين. المساءلة لا تعني الانتقام، بل الاعتراف بأن خطاب الموت المجّاني يجب أن يُهزم كما تُهزم آلة القتل.
إقرأوا أيضاً:











