الهدنة المقتطعة من الحرب على غزة شملت الأردن أيضاً، ذاك أن عمان تعيش على ضغط ما يتعرض له القطاع ساعة بساعة، وما إن أُعلنت الهدنة حتى استعادت العاصمة الأردنية بعضاً من إيقاع حياتها العادي، بعد 48 يوماً من الأوقات المشحونة بمشاهد المجازر، وانتظار تصريحات أبو عبيدة، وتحليلات فايز الدويري على قناة الجزيرة!.
عمان ليست هي نفسها في ظل الحرب على غزة. لا الناس هم أنفسهم، ولا الشوارع والحارات والأزقة هي نفسها. الدولة أيضاً هذه المرة تبدو في موقع مختلف عما عهدناه فيها من حذر وواقعية. أينما وليت وجهك ستلوح لك شاشة الجزيرة وقد تحلق حولها رجال وفتية ينصتون لما يخبرهم به الجنرال الأردني المتقاعد فايز الدويري.
إنه بحسب وصف غير ساخر لسائق الأوبر نسخة من “محمد سعيد الصحاف”، وهو أيضا من راح يزود الكثير من الأردنيين بعبارات راحوا يسوقونها في كلامهم اليومي. سائق الأوبر الذي تنتظر وصوله إلى مدخل الفندق يرسل إليك على الـ”واتس آب” حين يصل رسالة يقول فيها: “أنا على المسافة صفر من الفندق”، مستعيداً عبارة الدويري “القتال على المسافة صفر”، أما الحرفيون في منطقة اللويبدة وسط عمان، فقد استعاضوا عن المقتنيات التراثية بأخرى غزاوية وفلسطينية، لعل أبرزها دف عليه صورة أبو عبيدة شاهراً أصبعه.
لاستيقاظ فلسطين في العاصمة الأردنية أوجه كثيرة لطالما انطوت على توترات ضمنية، إلا أنها هذه المرة أثقل من أن تترافق مع الأسئلة “الوطنية” في المملكة. فنحن أمام تظاهرات رُفعت فيها صور الناطق باسم “حماس”، أبو عبيدة، مع ما يحمله هذا الفعل من حساسيات لطالما حفل فيها الأردن.
لكن أبو عبيدة ليس وحده من يشغل قلوب أهل عمان هذه المرة، فوزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي له اليوم حصة وفيرة من مشاعر الأردنيين بسبب حمله الموقف الرسمي الأكثر انحيازاً بين المواقف العربية للضحية الفلسطينية.
إسرائيل هي العقبة الوحيدة أمام أي فعل سياسي مرافق للحرب على غزة بحسب الأردنيين. الحرب هي لغتها الوحيدة الآن، وإلى أمد طويل، والغريب أن هذه الحقيقة الجلية والواضحة لم تُمل على الداعمين الغربيين أي خطوة لمراجعة انحيازهم الكامل لإسرائيل.
في عمان ستكون عرضة لمواقف غريبة عجيبة، كأن يبدي سائق التاكسي عتبه عليك أنت اللبناني بسبب عدم التحاق حزب الله بالحرب، أو أن يسألك أردني آخر عن شخصية لبنانية “جديدة” اكتشفها على “يو تيوب” تفوق قدرتها الخطابية قدرة أبو عبيدة، لتكتشف أنه ناصر قنديل، أما عزمي بشارة فقد خصصت إذاعة تبث في الأردن أوقاتاً طويلة لتحليلاته ومقابلاته التي تنقلها عن التلفزيون العربي الذي يشرف عليه.
لكن لحظة الانسجام بين خطي المشاعر الأردنيين حمالة أوجه، فالأردن الرسمي يخوض معركة موازية مع إسرائيل موضوعها احتمالات الـ”ترانسفير” الذي صارت المملكة على يقين بأنه الخطوة الاسرائيلية التي ستعقب الحرب على غزة.
الاستماع إلى أصوات النخب الأردنية على اختلافها، يترك شعوراً بأن المملكة على شفير انعطافة كبيرة في موقعها هذه المرة. مروان المعشر، السفير الأول للمملكة في تل أبيب، ووزير الخارجية السابق، والمبتعد عن الشأن العام اليومي إلى المجال البحثي والأكاديمي في مؤسسة كارنيغي، يمثل عينة عن اليأس الأردني من عملية السلام، وهو إذ ضعفت قناعته من هذا السلام منذ زمن طويل، إلا أن الحرب على غزة جاءت لتطيح بالقليل الذي تبقى لديه من احتمالات السلام.
أما رئيس الحكومة الأردني الأسبق طاهر المصري، وهو من أصول فلسطينية، فيرى أن إحكام إقفال الحدود مع الضفة الغربية خطوة ضرورية لمنع الـ”ترانسفير” من الضفة الغربية، وهو وإن كان يعتقد بأن الموقف الغربي لن يساعد إسرائيل في قرارها، إلا أنه يرى أن ثمة قراراً اسرائيلياً يجب الاستعداد له.
لكن في الأردن أيضاً أصوات “محافظة” تشعر بضرورة التروي في الذهاب بالمواجهة إلى مستويات سبق أن خبرتها المملكة و”دفعت أثمانها”، في إشارة إلى مواقف الأردن خلال حرب الخليج الأولى حين ابتعدت المملكة عن الموقف الدولي العام من غزو صدام حسين للكويت. لكن الأمر هذه المرة مرتبط بالتركيبة الديموغرافية للأردن، وما ستجره احتمالات الـ”ترانسفير” من مخاطر على وجود المملكة وعلى طبيعة الحكم فيها.
الأصوات الأردنية المحافظة محكومة هذه المرة بحسابات الديموغرافيا، التي لطالما رفعتها هي نفسها بوصفها عنصراً ضرورياً للتوازن الاجتماعي والسياسي.
تُجمع النخب الأردنية، وبعضها قريب من النظام، على أن قصة “الوطن البديل” عادت واستيقظت في الوعي الإسرائيلي، وثمة مؤشرات لها بدأت تلوح بوصفها وقائع ممهدة لخطوات عملية، لا تقتصر على عدوانية المستوطنين في الضفة الغربية، وعلى قرار مضاعفة تسليحهم، إنما تشمل أيضاً مواقف من حلفاء عرب ضمنيين لهذا الخيار، وما الانكفاء الخليجي عن الدعم المالي للأردن إلا أحد وجوهه. فغير المعلن من طبيعة العلاقات المتوترة التي تربط الأردن بالخليج، هو أكثر بكثير من المعلن.
لكن في مقابل ذلك، لا يتخلى أهل الحكم في الأردن عن قدر من الواقعية يجنبهم الكثير من الأوهام التي تشوب المواجهة كما تنقلها قناة الجزيرة القطرية. ففي عمان الكثير مما يُعمل عليه لصياغة واقع فلسطيني لـ”اليوم التالي للحرب”، وحركة حماس ليست نموذجاً يمكن الذهاب به إلى طاولة البحث في مستقبل السلطة الفلسطينية في أعقاب الحرب، مع الإبقاء على القناة المفاوضة القطرية بوصفها صلة وصل بين الحركة وبين المفاوض الفلسطيني.
للأردن مصلحة كبيرة في انعقاد نصاب فلسطيني، على رأسه منظمة التحرير الفلسطينية، يتولى مفاوضات حل الدولتين، وهذه المصلحة تصطدم بانعدام الرغبة الإسرائيلية بذلك. وإذا كانت حركة فتح هي أفق هذا الخيار، فإن الشخصية الأكثر قدرة على لعب هذا الدور هو القيادي المعتقل في إسرائيل مروان البرغوثي، وهو خيار تعيقه تل أبيب عبر رفضها القاطع إطلاق سراحه.
إسرائيل هي العقبة الوحيدة أمام أي فعل سياسي مرافق للحرب على غزة بحسب الأردنيين. الحرب هي لغتها الوحيدة الآن، وإلى أمد طويل، والغريب أن هذه الحقيقة الجلية والواضحة لم تمل على الداعمين الغربيين أي خطوة لمراجعة انحيازهم الكامل لإسرائيل.
في عمان ليست هذه المعادلة جزءاً من خطاب شعبوي، إنما هي وقائع تختبرها السلطة والنخب على حد سواء. أما الناس، فلهم أبو عبيدة الذي يوقظهم كل صباح على فيديواته، ويقلقهم غيابه ليوم أو يومين. أما أمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله فقد خيبهم في خطابه الأول، وما عادوا انتظروه في الموعد الثاني لظهوره. وحين تقول لهم أن للذهاب إلى الحرب في لبنان أثمان ليس للبنانيين قدرة على تحملها، يوافقونك القول من دون أن يضعف ذلك عتبهم على نصرالله!.
إقرأوا أيضاً: