عزز الاحتفال الأخير بموكب نقل 22 مومياوات لملوك مصر القديمة وملكاتها، اهتمام الرأي العام المصري بالماضي الفرعوني، و لا يبدو غريباً أن يخرج تصريح على لسان وزير التربية والتعليم “طارق شوقي” نية وزارته البدء في تدريس رموز الكتابة الهيروغليفية لطلبة المدارس.
أثار هذا التصريح جدلاً واسعاً، فالبعض أبدى تأييداً كبيراً للفكرة، بينما سخر منها آخرون، وأثناء ذلك نشرت الصحف إيضاحات من الوزارة حول “تفاصيل تدريس اللغة الهيروغليفية في المدارس“، بدت من هذه التفاصيل جدية الخبر ووجود تصور ما لتنفيذه، ولكن لم يمض أكثر من يوم واحد قبل أن ينفي الوزير في تصريحات له في مداخلة هاتفية مع الإعلامي عمرو أديب الخبر قائلاً: “لن يتم تدريس اللغة الهيروغليفية ولكن نسلط الضوء عليها نوعاً ما، ولا نعمل بسياسة رد الفعل”.
الجدل الذي لم يعش طويلاً فجّر مع ذلك أسئلة تستحق الاهتمام، حول الهوية والتاريخ، وحول اللغة والتعليم، وتتقاطع هذه الأسئلة أيضاً، كما هو حال كل شيء في عصرنا الحاضر، مع الدين. فلم يتردد عدد من الإسلاميين في التعبير عن اعتقادهم بأن هذا الاهتمام الكبير بالتاريخ الفرعوني (الوثني)، يمثل بشكل ما هجوماً على الهوية الإسلامية لمصر. في المقابل، لم يخف آخرون سعادتهم بالقلق الذي أبداه الإسلاميون، وربما كان هذا دافعهم الأكبر للدعوة إلى توثيق صلات الحاضر المصري بالماضي الفرعوني.
الهزال المعرفي الغالب على مداخلات المنخرطين في الجدل عزز أكثر هزليته، ولكنه أيضاً أضاء إشكالية أن صلة المصريين بتاريخهم هي في الواقع ضبابية على أفضل تقدير، ومن ثم فالنقاش حول تعليم الهيروغليفية للصغار أبعد ما يكون مما ينبغي أن يكون موضوعاً للنقاش الجاد. فلا شك في أن المعرفة بالتاريخ هي أحد العناصر الرئيسية في تشكيل هوية الفرد، بخاصة إذا ما نظرنا إلى الهوية على أنها موقع نسبي، بمعنى أنها موقع يتحدد من خلال علاقته بمواقع أخرى قريبة أو بعيدة منه، متداخلة معه أو منفصلة عنه، متوائمة ومتوافقة أو متنافرة ومتعارضة معه.
الهوية كموقع نسبي هي مجموع الأثر الباقي لتراكم تاريخي. غياب المعرفة بهذا التراكم يشبه فقدان الذاكرة، أو بمعنى أدق تزويرها. بصفة خاصة يغيب في هزال التصور السائد بين المصريين لتاريخهم، ذلك التنوع والثراء الذي يميز هذا التاريخ الطويل. فهو تنوع بين الحقب المختلفة وداخل كل منها أيضاً. هذا التنوع محته السردية الرسمية للتاريخ كما تقدمه الكتب المدرسية، وكما تطرحه أشكال الإنتاج الثقافي المختلفة منذ نشأة الدولة الحديثة في مصر وحتى اليوم.
المعرفة الهزيلة بالتاريخ وتنوعه واستمرارية حقبه المختلفة كروافد للثقافة كممارسات اجتماعية متوارثة تحجب عن المصريين المعاصرين حقيقة أن المجتمع كان دائماً ولا يزال متنوعاً أكثر كثيراً مما يظنون. وفي المقابل، تنمي الصورة الأحادية الضيقة للتاريخ شعوراً خادعاً بالوحدة التي تنبذ الاختلاف وتميل إلى الجمود والثبات.
الشخصية القومية لمصر التي تشكلت في ظل دولتها الحديثة تعتمد كثيراً على الانتقائية التي اختارت هذه الدولة أن تكتب بها التاريخ الرسمي. هذه الانتقائية خلقت هوية أسطورية ظلت ثابتة عبر العصور، تستوعب الأغراب ولا تكاد تتأثر بهم، بل إنهم لا يتركون حتى أثراً بالتركيبة الجينية للبشر. الاستثناء الوحيد المقبول، على رغم تناقضه مع هذا التصور يتعلق بالحروب الإسلامية والقومية العربية. فبشكل سحري أصبحت مصر إسلامية وعربية بين عشية وضحاها، وهو بالطبع أمر غير صحيح تاريخياً، ولكنه كان مناسباً لأغراض الدولة المصرية في العهد الناصري. هذه الأغراض نفسها والتي شكلها التصور الضيق للدولة القومية الذي كان سائداً في العالم كله لفترة طويلة، وجهت تشكيل الهوية الوطنية نحو أحادية تنفي التنوع القائم فعلياً، سواء كان ثقافياً أو إثنياً.
هذه الأحادية هي ما يجعل اليوم تصور تعليم رموز كتابة لغة اندثرت فعلياً منذ قرون طويلة أقرب للقبول، في حين أن الحديث عن تعليم الصغار لغة حية مثل النوبية يتم تصنيفه مباشرة على أن الهدف منه هو تغذية نزعة انفصالية لا يكاد يكون لها وجود في الواقع.
عبر التاريخ الطويل للثقافة النوبية كان التأثير المتبادل بينها وبين الثقافة المصرية في مراحلها المختلفة عاملاً أساسياً. هذه الثقافة الثرية تنتج حتى الآن تراثاً فنياً مميزاً وقريباً من قلوب المصريين، وتمتد مجالات الإبداع النوبي بين الفنون الحرفية المختلفة إلى العمارة المنزلية المميزة، وصولاً إلى فنون الرقص والغناء النوبي المميز الذي قدم لمصر لوناً محبوباً أُدمج في فن الغناء المصري، كما قدم عدداً من المغنيين المتميزين أبرزهم بالطبع الفنان محمد منير.
ولكن على جانب آخر، كانت الإدارة السيئة لملف التهجير في أعقاب بناء السد العالي في عهد عبدالناصر سبباً في توتر العلاقة بين الحكومة المركزية المصرية وبين أهالي النوبة الذين أجبروا على مغادرة أراضيهم، التي عاش عليها أجدادهم لآلاف السنين، لإفساح المكان الذي غمرته مياه بحيرة ناصر.
مشروعات إعادة التوطين لم تنجح في معظمها واضطر عدد كبير من أهالي النوبة إلى العيش في المدن المصرية الكبرى مثل القاهرة والإسكندرية في ظروف غير مواتية في معظمها. وربما كان استمرار هذا الملف من دون إغلاقه بشكل نهائي سبباً في القلق المستمر لدى الحكومات المصرية المتعاقبة من شبح النزعة الانفصالية، على رغم أنه لم يترجم في الواقع إلى أي أثر ذو قيمة. ومن ثم فلا يوجد معوق منطقي مفهوم لإبداء اهتمام أكبر بالحفاظ على الثقافة النوبية بخاصة أن انحسار ما تبقى من القرى القديمة للنوبة بشكل كبير منذ التهجير، ينذر بضياع جزء من تراث هذه الثقافة وهو ما يمثل خسارة حقيقية لمصر قبل غيرها.
ربما لا يكون تعميم تعليم اللغة النوبية في المدارس المصرية عملياً أو حتى مرغوباً فيه، ولكن الاهتمام بالحفاظ على هذه اللغة وحفظ تراثها المتداخل بشدة مع مجمل التراث المصري هو من جانب مسؤولية أخلاقية ثقافية تجاهلتها الدولة المصرية بشكل متعمد منذ نشأتها، وهو من جانب آخر مصدر لإثراء الهوية والثقافة المصريين.
ثمة حاجة إلى ملاحظة أن مصر بلد متنوع ثقافياً، وأنه لا يضم ثقافات فرعية عبر الوادي والدلتا وحسب، إنما يضم أيضاً ثقافات لها تاريخ قديم مستقل مثل ثقافة النوبة في الجنوب والثقافة الأمازيغية في واحات الصحراء الغربية. هذا التنوع ليس خفياً وإنما هو مخفي عمداً وهو ليس هامشياً كما يبدو للغالبية من المصريين، لكنه مهمش ومهمل. وفي ذلك الإخفاء والتهميش إفقار للهوية المصرية، فإلى جانب أنه يمحو بعضاً من عناصرها، فهو قبل أي شيء يقتل عمداً فكرة التنوع والتعايش مع الاختلاف، وهي فكرة يمكننا أن نلمس الأثر السلبي لغيابها في المجتمع المصري اليوم.
قد يبدو من السذاجة طرح الحاجة إلى استعادة مفهوم التنوع والوحدة القائمة على التعايش مع الاختلاف وتقبله في لحظة تاريخية قد تكون الأبعد في تاريخ مصر الحديث من قبول هذا المفهوم. يحرص النظام المصري الحالي على تأطير الخصومة السياسية على أنها صراع وجود بحيث يبدو الوطن وكأنه يواجه أزمة وجودية لا سبيل إلى تخطيها إلا بالاستئصال الكامل للمختلف عن تصور شديد الضيق للهوية الوطنية. وعلى الأرض ربما لم يكن المجتمع نفسه أقل تقبلاً للمختلف مما كان عليه في أي وقت سابق من تاريخه. ولكن في المقابل قد يكون طرح حاجة المجتمع المصري ودولته إلى إعادة النظر في تصوراتهما الضيقة للهوية سواء الوطنية أو الدينية، هو أمر ضروري الآن، فتقبل التنوع والاختلاف هو السبيل الوحيد ليس للخروج من حالة الاستقطاب السياسي التي أنتجت قدراً غير مسبوق من القمع، وحسب، ولكنه أيضاً السبيل الوحيد ليستعيد المجتمع حيويته الضرورية لمواجهة تحديات المستقبل التي قد تكون هذه المرة وجودية بحق.
إقرأوا أيضاً: