لم أتخيّل يوماً أني سأشاهد وثائقياً عن المغنية اللبنانية أليسا طوعاً، لا بل لم أتوقع أن أتأثر لدرجة اختلاط مشاعري بين فرح وحزن وصدمة.
لا أهوى أو أهتم بحياة الفنانين والفنانات، أتابع أخبارهم على مواقع التواصل الاجتماعي مصادفة وللترفيه فقط، أكتفي بسماع أغانيهم والاستمتاع بها، ومع ذلك هناك صورة نمطية تتكون لدينا، نحن “غير المشهورين”، عن هؤلاء “المشاهير”.
هذه الصورة النمطية تسكن عقولنا بسبب (صناعة المشاهير)، تكاد تكون ثابتة يبدو فيها أولئك “النجوم” وكأنهم يعيشون حياة لا متناهية من الرفاهية تتخللها مناوشات داخل الوسط الفني تعكر صفو هذه الحياة.
على سبيل المثال، يخيّل إلينا أن إليسا تعيش في منزلها الراقي وسط العاصمة بيروت أو “الداون تاون”، تسافر أين ومتى تشاء بدرجة رجال الأعمال، ترتدي أرقى العلامات التجارية كـ”ديور” و”شانيل” وغيرها، لنسأل بسخرية أن أكبر “مشاكلها” هي الحيرة أمام أي فستان سترتدي في حفلتها التالية؟، حالها كحال غالبية الفنانين والفنانات.
نحن الجمهور لا نطّلع على الكواليس، ربما لأننا لا نهتم أو لأننا نعتبر هذه الكواليس غير موجودة. يهمنا فقط الحصول على المادة الأخيرة التي تعدّل مزاجنا عندما نحتاجها، ونعتبر معظم ما يصدر عن المشاهير من عواطف أو تجارب أو مواقف مزيف، ومفاده استعطاف الناس.
نمنح أنفسنا حق الحكم على حياة الآخرين فقط لأنهم لا يشبهوننا، وبالنسبة لنا يريدون فقط كسب المزيد من الشهرة. طبعا، قد يلجأ البعض إلى اتباع هذه السياسة لتحقيق أهداف معينة، وبناء قاعدة شعبية. ويحق للجمهور الانتقاد، لكننا ننسى أن المشاهير بشر مثلنا يتعرضون لما نتعرّض له.
لا بد من الإشارة إلى أن وثائقي “It’s Okay” الذي بثته شبكة نيتفليكس يخضع بجلاء لإشراف إليسا الشخصي، أي وضعت لمساتها التي تريد تظهر للعلن، فمثلاً لم تركّز على خلافها مع البعض من زملائها الفنانين والفنانات أو الدعاوى القضائية، أو حتى عن مواقفها السياسية التي قد تكون يمينية في بعض الأحيان.
ليس البشر خيراً خالصاً وكذلك هم ليسوا أشرارا مطلقين، هم مزيج من هذا وذاك وكذلك من يعيشون تحت أضواء الشهرة يعيشون تقلبات مختلفة تجعلنا نحبهم في لحظة انكسار، ونكرههم في لحظة تباهي وتفاخر ربما.
كشفت إليسا في الوثائقي المؤلف من ثلاث حلقات عن معاناتها المتواصلة مع التنمر على شكلها (فمها تحديداً) نتيجة عمليات التجميل المتكررة، وصوتها بسبب النشاز، كما أثارت صدمة المشاهدين (على الأقل أنا) بسبب صراحتها بعض الأحيان، والتي لم تنتهِ مع انتصارها على مرض سرطان الثدي.
تسرد أليسا بغصة وندم علاقتها العاطفية “السّامة” بشخص أغرقها بالأكاذيب، وحرمها من الأمومة بعد وعود فارغة، تركتها بعد إصابتها بسرطان الثدي، وتناولها دواءً هرمونياً محرومة من الإنجاب، حلمها الذي لن تستطيع أن تحققه بعد اليوم.
تأخذنا أليسا بجولة في منزلها في بيروت ثم منزلها الآخر في باريس، تتحدث عن معاناتها مع النوم، ما اضطرها إلى اللجوء إلى طبيب نفسي وأخذ أدوية اكتئاب، بالإضافة إلى العودة لطفولة بريئة وبسيطة عاشتها في مدرسة داخلية برفقة شقيقتها بعيدة عن أهلها، لنرى أنفسنا نهايةً أمام قصة نجاح امرأة تحدّت المجتمع الذكوري بكل تفاصيله.
بلمحة تاريخية بسيطة، ندرك أن سلسلة الكآبة والمعاناة والانتحار بعض الأحيان، عنصر مشترك بين الكثير من المشاهير. مارلين مونرو مثلاً التي انتظر عشرات الآلاف من الناس لمشاهدة عروضها وأفلامها السينمائية، اتضح بعد انتحارها أن حياتها كانت مدمّرة، وكذلك الفنانة داليدا التي أنهت حياتها برسالة من جملة واحدة: “الحياة لا تحتمل، سامحوني”.
الحادثة الأخيرة التي تكشف عن معاناة المشاهير كان ضحيتها بطل مسلسل “فرندز” Friends الكوميدي، ماثيو بيري، الذي صرّح قبل وفاته في مقابلة تلفزيونية أنه عانى من الاكتئاب وكان مدمناً على المخدرات والكحول، وحتى اللحظة يرجّح أنه هو من أنهى حياته.
مع ذلك، ما زلنا نُصاب بحالة من الصدمة والدهشة عند سماع معاناة المشاهير أو انتحارهم، فكيف لمن يملك ملايين الدولارات والمعجبين والمعجبات، بالإضافة إلى باقة من النجاحات، أن يكون تعيساً؟!
ببساطة، لأنهم بشر. يمرّون بمشاكل يصعب حلّها، قد يستغلّهم البعض، وقد يحاربون خلف الأضواء كأي شخص يفصل بين العمل والحياة الشخصية، فهذا أمرٌ طبيعي.
المعاناة لا تعفي المشاهير من تساؤلات محقة حول مواقفهم وخياراتهم السياسية والعامة ربما وعن حسن أو سوء تعاملهم مع الناس، سواء كنا نتحدث عن المعجبين، أو أولئك الموجودين في حلقاتهم الضيقة.
نحن “الناس العاديون”، نكاد أن نكون محظوظين؛ لأننا لسنا أمام الأضواء، غير مضطرين لتبرير سلوكنا أو مشاكلنا، لسنا مجبرين على إنتاج وثائقي لنعرّف العالم على ما مررنا به، نعمل في الكواليس وحياتنا تسير بهدوء. نتمتع بشيء من الخصوصية يبدو أن ثمنها باهظ قد لا ندركه بعض الأحيان، ويبدو أن إليسا وغيرها من المشاهير يحسدوننا على هذه الحياة البسيطة البعيدة عن الأضواء.
ابتسمتُ مع نهاية وثائقي إليسا، ولسبب ما شعرت بأنه أصابني، وأن شيئاً حقيقياً فيه لمسني. فرحت لأن اليسا التي تتعرض لأعلى مستويات التنمر وأكثرها عنفاً عبر الفضاء الافتراضي، وقفت على قدميْها لتواصل عملها، وتقول أنها امرأة قادرة على التحدي وخوض مسار الحياة، وإننا كلنا قادرون وقادرات أيضاً.
إليسا اليوم “تتمايل على الـ Beat” بقناعة وبهدوء، بعد ثلاثة أعوام من ركود العمل، وتقول للعالم: تنمروا واستهزؤوا وانتقدوا واشتموا كما شئتم، “It’s ok”!
إقرأوا أيضاً: