fbpx
ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

عن ذكرى المحرقة النازيّة وغزة 

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

 منذ اليوم الأول، كانت الصهيونية قضية ضعيفة لكنها تمتعت بأفضل المحامين، أما أصحاب الأرض والحق، فنعرف كيف هم محاموهم إلى يومنا هذا على رغم قوة قضيتهم. اليوم فضاء جديد متاح، واقع يتيح للمرة الأولى هزيمة إسرائيل إعلامياً وصولاً الى التأثير السياسي، فهل نتعلم مما مضى؟ هل نستطيع إنتاج المحامين الأفضل؟ ولو بعد حين؟ 

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

صادف يوم السابع والعشرين من شهر كانون الثاني/ يناير هذا العام الذكرى الثمانين لتحرير أكبر معسكرات الاعتقال النازية، أوشفيتز-بيركاناو في بولندا، حيث قضى حوالي مليون معتقل، كانت الغالبية الكاسحة منهم من اليهود، في عملية إبادة ممنهجة.

 في المعسكر نفسه، ووسط ما يعجّ به من آثارٍ لما شهد؛ أقيمت احتفالية مهيبة حضرها ملوكٌ ورؤساء، منهم ملك بريطانيا وملك أسبانيا وملكتها ورئيس أوكرانيا وغيرهم، تقدّمهم رئيس بولندا، حيث معسكر الاعتقال الشهير.

 ركّز الإعلام على عشرات من الناجين من المحرقة، الذي تخطوا التسعين من العمر، إذ ألقى بعض من هؤلاء كلماتٍ تضمنت وصفاً مؤلماً صوّرَ ما مروا به من عذابات. على شاشات الأخبار عبر العالم؛ تزامنت هذه الاحتفالية المهيبة مع مشاهد عودة مئات الآلاف من أهل غزة إلى بيوتهم، التي نرى على الشاشات أن معظمها أمسى تُراباً، كما المستشفيات والمدراس والجامعات وكل أساسٍ للحياة في القطاع المنكوب، بخاصة في شماله حيث، في ما يبدو، كانت “خطة الجنرالات” التي تقضي بالإخلاء الكامل تُجرى على قدمٍ وساق. 

ربما المصادفة وحدها هي ما جمع ذكرى تحرير أكبر معسكرات الاعتقال النازية الثمانين، مع ما يحصل هذه الأيام في فلسطين (حيث، عدا غزة ونكبتها، هجمة إسرائيلية دموية شرسة أخرى جارية في الضفة الغربية)، لكن التوظيف “الصهيوني” لذكرى المحرقة ليس جديداً وإن اختلف اليوم سياقه. 

التفسير الجديد-القديم جاء في “اشتباك” دبلوماسي بين إسرائيل وأيرلندا. ففي الذكرى الثمانين هذه، في عاصمة بلاده دَبلين، ألقى رئيس جمهورية أيرلندا، مايكل هيغينز، كلمةً دان فيها بشاعات المحرقة النازية، وكرر الرثاء للضحايا وما عانوه، لكنه أيضاً ذكر معاناة الفلسطينيين كما معاناة المخطوفين الإسرائيليين وأسرهم، وفي إشارة -دبلوماسية لكن واضحة الى إسرائيل- دان الرغبة في الانتقام وما تفعله بالبشر. 

رد الفعل الإسرائيلي كان هجوماً حاداً على هيغينز، وكان من جملة ما قالته السفيرة الإسرائيلية لأيرلندا، دانا إيرليتش، حسبما أورده موقع شبكة “بي بي سي” البريطانية، أن الرئيس الأيرلندي تجاهل “العلاقة الواضحة بين المحرقة النازية ودولة إسرائيل وكيف أصبح بلدنا ملجأً للناجين من أسوء إبادةٍ جماعيةٍ في التاريخ”. علماً أن السفيرة الأيرلندية لم تجد غضاضة في أن “تقترح” على الرئيس الأيرلندي ألا يلقي كلمة في الذكرى الثمانين للمحرقة لمعرفتها بمواقفه. أما الحكومة الإسرائيلية في القدس فاتهمت رئيس الدولة العضو في الاتحاد الأوروبي بـ”تسييس” الذكرى. 

في كلام السفيرة الغاضبة (الذي جاء كله “تسييساً” لذكرى المحرقة وضحاياها)  تكرارٌ لما رأينا وسمعنا عبر عقود، لكن  بعد 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023. في الأمم المتحدة، وتحديداً في مجلس الأمن، ارتدى ممثلو إسرائيل نجمة داوود صفراء على ستراتهم، في إشارة الى إجبار ضحايا المحرقة النازية من اليهود على ارتداء العلامة نفسها. ومراراً، في مقارنة لا علاقة لها بالمنطق لكنها تستجدي مأساوية ذكرى المحرقة، رد ممثلو إسرائيل في  مجلس الأمن على من انتقد بشاعة ما يجري في غزة بأن أحداً لم يعترض حين كانت  قوات الحلفاء تدكّ مدن ألمانيا النازية.

 أما صور الأطفال الذين زعمت مصادر إسرائيلية أن حماس أحرقتهم، وثبت لاحقاً أنها مفبركة، فدلالتها من حيث العلاقة بالمحرقة النازية لا تحتاج إيضاحاً. أيضاً هاجم دبلوماسيون إسرائيليون الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش بعنف فقط لأنه قال إن ما وقع يوم 7 تشرين الأول 2023 لم يأتِ “من فراغ”، علماً أن الرجل دان بشدة ما حصل ذلك اليوم. 

ساحة الصراع، وعي الغرب وضميره، أدواته الذاكرة والتاريخ، والهدف الإسرائيلي ذو منطق بسيطٍ قدر ما هو مُغالط: المحرقةٌ كانت شراً مطلقاً استهدف الإبادة العرقية الكاملة، من ثم نقيض المحرقة، أي الخير المُطلق حُكماً، هو وطن لليهود، دولتهم اليهودية حيث يأمنون تكرار ما حصل في الحرب العالمية الثانية، هذا الفصل الأخير من الاضطهاد (المسيحي الأوروبي حصراً) الذي شهد إبادة منهجية،  مُميكنة كما في أي عملية إنتاجٍ صناعي. بناء على هذا، تتهم إسرائيل وداعموها كل ناقد لها في العموم، ولقدسية حقها (المزعومة) في الوجود بالخصوص، بالعداء للسامية (المقصود طبعاً العداء لليهود)، أي بالعنصرية، وإن كان المعادي للصهيونية، أو حتى الناقد لإسرائيل، يهودياً فالتهمة الجاهزة هي “اليهودي الكاره-لنفسه”. إذاً؛ إن عاديت أو حتى انتقدت إسرائيل فأنت إما عنصري أو ذو عقلٍ مريض.

في القلب هنا فكرة اليهودي الضحية، المحاصر من أعدائه، المهدد وجوده دوماً، من ثم المحرقة استثمارٌ ثمين، فلا ذكرى تخلق صورة أقوى لهذه الدعوى من المحرقة. في أكثر الصور درامية، كان هذا الربط بين المحرقة و”قداسة” إسرائيل حاضراً بشكل متكرر في الاحتفال بيوم ضحايا المحرقة يوم 27 كانون ثاني/ يناير الماضي.

 واحدة من المتحدّثين، توفا فريدمان، ناجية تسعينية من المحرقة، أسهبت في الحديث عن جلبها الى معسكر الاعتقال، وهي في الخامسة والنصف من العمر، عن فقدها أمها، عن صرخات المعاناة لأباء وأمهات يشهدون إبادة نسلهم أمام أعينهم، ثم عن تساؤلها بعد قتل عشرات الأطفال في المعسكر، “هل أنا اليهودية الوحيدة الباقية”؟ ثم أردفت بإنكليزية ممتازة بلكنة أميركية يشوبها القليل من لهجة آتية من شرق أوروبا: “اليوم نرى إسرائيل، الدولة اليهودية الوحيدة، والديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، تكافح من أجل البقاء”.

متحدث آخر أشار إلى الدور الذي لعبه رونالد لودر، رجل الأعمال فاحش الثراء، ابن مؤِسِّسة  مجموعة Estee Lauder   المعروفة في مجال مستحضرات التجميل، والذي تقدر ثروة عائلته بعشرات البلايين من الدولارات. 

أوضح المتحدث أن لودر (الأميركي المولد والجنسية واليهودي-المجري الأصل)، دعم الحزب الجمهوري بملايين الدولارات ورأس المجلس اليهودي العالمي وقدم دعماً لا محدوداً، لا لإسرائيل فحسب، بل للاستيطان في الضفة الغربية الذي دافع عنه بشراسة. تحدث لودر في هذه الاحتفالية بصفته رئيس مؤسسة “أعمدة الذكرى” (Pillars of Remembrance)  التي ترعى معسكر الاعتقال كمتحف، والتي أشرفت على هذه الاحتفالية. 

خطبة “لودر” لم تتوقف عند الدفاع عن إسرائيل، بل قدمتها كمؤشرٍ الى صحة الحضارة الغربية، إن لم تكن تعبيراً عن روحها. جلّ كلامه كان “تحذيراً” من أن ما سبق وأدى إلى المحرقة النازية في القرن الماضي، يعيشه العالم مجدداً اليوم، وأن تكرار المأساة الذي بدا مستحيلاً عاد وأصبح، حسب زعمه، ممكناً مرة أخرى. والدليل؟ “الاستفراد [الجاري] بالدولة اليهودية” (“singling out the Jewish state”) . ولأن لودر ليس ممن عانوا من جرائم النازية، استعان بكلمات ناجٍ راحل توفي قبل بضع سنوات، وهو الكاتب البولندي رومان كينت (1929-2021)، الذي اشتهر بما كتبه عن المحرقة وأهوالها، والذي قال (حسب لودر): “لا نريد لماضينا أن يكون مستقبل أطفالنا”، ثم أردف أن كينت لو كان حياً لبكى من هول ما يشهده العالم اليوم، حيث قتلت حماس من قتلت في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023 “فقط لأنهم ولدوا  يهوداً” (الخطبة التي استمرت عشرين دقيقة لم تذكر الاحتلال مرةً واحدة). 

ثم استطرد الصهيوني العتيد، “اليهود كطائر الكناري في منجم الفحم، فإن مات الكناري فذلك يعني أن من في المنجم مهددون بالموت”. لكن “الكناري “، حسب كلامه، قُتل قبل خمسة عشر شهراً يوم السابع من تشرين الأول” ، وهؤلاء (أي من قضوا يومها)، حسب نص كلامه، مكرراً مرة أخرى، “قُتلوا فقط لأنهم يهود” (منطق يذكرنا بالهجوم الإسرائيلي الحاد على الأمين العام للأمم المتحدة فقط لأنه قال إن ما حدث يومها لم يكن “من فراغ”). 

وبمنطق “الطائر الضعيف” نفسه لكن شديد الأهمية للغرب، دان لودر ما وصفه بالهجوم على “المعتقدات اليهودية-المسيحية” (لاحظ ما ومن يستثني هذا المصطلح الذي شاع استخدامه بعد الحرب العالمية الثانية)، مُديناً، بالاسم، “الانتفاضة العالمية” (The Global Intifada) وشعار “الموت لإسرائيل” الذي وصفه بأنه “موتٌ للحضارة”. 

لكن ربما أهم ما أشار إليه لودر، وأكثره إزعاجاً له، وقيمةً لكل مناصر للعدالة في الوقت نفسه، هو الأثر القوي للإعلام البديل،  فبسبب هذا، حسب كلامه، تؤشر استطلاعات رأي في الولايات المتحدة، الى أنه بين الأميركيين ممن هم فوق الثلاثين، 87 في المئة يدعمون حق إسرائيل في الوجود، أما ممن هم تحت الثلاثين فـ 40 في المئة منهم فقط يدعمون هذا الحق. أرفق لودر هذه المعلومة بإدانة حادة للأكاديميين والناشطين الذين، حسب كلامه، ساهموا في هذا الواقع الجديد (مرة أخرى لا ذكر لا للاحتلال ولا لما حصل ويحصل في  فلسطين). 

المغالطات هنا أكثر من أن تُحصى، لكن رغم ذلك فالنجاح في توظيف هذا المنطق عبر عشرات السنين خدم إسرائيل بفعالية. أبدى لودر انزعاجه الشديد من واقع إعلامي جديد لم تعد الصهيونية فيه محصنةً كما كانت في السابق، ناهيك بسلوك إسرائيل. بفضل طبيعة الإعلام اليوم، هذا الفضاء المفتوح الذي صب عليه لودر جام غضبه، ليس لمجازر كـ”صبرا وشاتيلا” (1982) و”قانا” (1996) أن تمر كما في السابق، فما بالك بغزة؟ فالمأساة تُبث مباشرةً والأثر واضح حتى وإن جهدت إسرائيل لخنق المعلومات (الصحافيون حتى اليوم ممنوعون من دخول غزة) أو سعت الى قلب السردية لصالحها باستخدام ذكرى المحرقة ومساواة كل عدو بألمانيا النازية وشرّها. 

الصهيونية تسبق المحرقة بعشرات السنين، فالأولى تعود الى النصف الثاني من القرن التاسع عشر كما هو معروف، لكن المأساة خدمت مشروع الدولة اليهودية أكثر من كل ما حصل لليهود عبر تاريخهم، ليس لشدة الإجرام والتوحش النازيين (اللذين لا ينكرهما عاقل) وإنما بسبب نجاح التوظيف. 

في ما يبدو، كانت ذكرى المحرقة مهمّشة نسبياً حتى ألقي القبض على أحد أهم سفاحي النازية ممن أشرفوا على عمليات الإبادة الجماعية: أدولف أيخمان، الذي سيق للمحاكمة في أوائل ستينيات القرن الماضي في القدس المُحتلة (لاحظ كيف احتكرت إسرائيل تمثيل كل اليهود واليهودية رغم معارضة بعض اليهود، حتى وإن كانوا أقلية، إلى اليوم الفكرة الصهيونية).

 أذيعت محاكمة أيخمان على التلفاز، ورآها العالم وسطرت عنها الكتب والدراسات، لكن الدرس المستفاد كان قيمة المحرقة كاستثمارٍ صهيوني، لا كمجرد مأساة إنسانية وجريمة كبرى تستحق التذكر فقط لصفاتها هذه.

من وجهة نظر إسرائيل وأنصارها، التاريخ هنا انتقائي، يذكّر بما يشاء ويعمل على نسيان آخرين، والمحور هو التركيز على معاناة جماعة واحدة فقط، تبريراً، أو ربما حتى تعميةً على ما يرتكب باسم هذه الجماعة، حتى وإن عارضه أبناء لها. من ثم جر النازية إلى مناقشات مجلس الأمن، وتجاهل أثر الصهيونية ونتيجتها (إسرائيل) على فلسطين وجوارها. الرسالة أن اليهودي المحاصر ليس من حق أحدٍ إطلاقاً أن يسائله إن دافع عن “وطنه”، فهو دوماً قيد الفناء، لذلك، مثلاً لا حصراً، حرص الإسرائيليون على إخبار العالم أنهم وجدوا نسخاً من كتاب أدولف هتلر “كفاحي” في غزة.

 لكن التاريخ حتى عهد قريب، لمن أراد الدقة، يرينا صورةً أخرى، وهنا فشلنا نحن قبل نجاحهم هم. ما يعرف اصطلاحاً بالعداء للسامية مشكلة مسيحية، كان يهرب اليهود منها إلى بلاد المسلمين، من ثم كان يهود الأندلس يهربون من “إعادة الفتح” الكاثوليكية إلى بلاد المسلمين (طبيب السلطان صلاح الدين الأيوبي الشخصي كان أشهر مفكري اليهودية على الإطلاق: موسى ابن ميمون).  

علماً أن الوجود اليهودي استمر قوياً وآمناً إلى حد كبير حتى بعد الحرب العالمية الثانية، وحتى بعدما بدأت الصدامات بين المستوطنين الصهاينة وأهل فلسطين، قبل إعلان دولة إسرائيل    (الوجود اليهودي البارز في مصر قبل الحرب العالمية الثانية، بل وحتى الخمسينات معروف، والمجتمع اليهودي في العراق أيضاً، راجع، مثلاً، كتاب البروفيسور آفي شلايم الصادر قبل عام واحد: “ثلاثة عوالم: ذكريات يهودي-عربي” Three Worlds Memoirs of an Arab-Jew، حيث يسهب الأكاديمي البارز المعروف بنقده لإسرائيل، حيث ترعرع، في الحديث عن محبة أهله اليهود لوطنهم الأصلي، العراق، حياتهم الرغدة فيه وحنقهم على الاضطرار للخروج منه). ناهيك بما هو معروف عن هجماتٍ على مصالح  يهودية وأفراد يهود في دولٍ عربية في الخمسينات، تبين لاحقاً تورط إسرائيل فيها لدفع اليهود العرب الى الهجرة لإسرائيل (في هذا الصدد راجع كتاب آفي شليم الذي ذكرنا بالإضافة الى ما هو معروف، بـ”فضيحة لافون” في مصر). 

لكن هل ننجح اليوم، مستغلين الواقع الجديد الذي أثار حنق لودر ومن معه، ولو فقط في إيصال الحقائق وتوضيحها؟ خطب السابع والعشرين من كانون الثاني تجاهد لتؤكد ضعف إسرائيل ومظلومية اليهود، وليس كون إسرائيل أقوى من كل أعدائها مجتمعين (كما هي الحقيقة). الصراع (إعلامياً على الأقل) هنا على مكان الضحية لا المنتصر، حقيقة تبدو غائبة تماماً عنا، بخاصة بين من ينسبون أنفسهم إلى “المقاومة”.

 البداهة تدعو الى التساؤل، كيف تبرر جريمة، كالمحرقة، جريمة ظلم الفلسطيني؟ لو استطعنا تصوير القضية فقط في هذه الصيغة لأنجزنا الكثير. لكن أنى نحن من ذلك؟ ما أنجزه المشروع الصهيوني دعائياً ثم على أرض الواقع قد يبدو مُعجزاً، لكنه عمل مضنٍ برعوا فيه عبر قرنٍ ونصف القرن.

 منذ اليوم الأول، كانت الصهيونية قضية ضعيفة لكنها تمتعت بأفضل المحامين، أما أصحاب الأرض والحق، فنعرف كيف هم محاموهم إلى يومنا هذا على رغم قوة قضيتهم. اليوم فضاء جديد متاح، واقع يتيح للمرة الأولى هزيمة إسرائيل إعلامياً وصولاً الى التأثير السياسي، فهل نتعلم مما مضى؟ هل نستطيع إنتاج المحامين الأفضل؟ ولو بعد حين؟ 

عمّار المأمون - فراس دالاتي | 15.02.2025

“هيئة تحرير الشام” بعيون المخابرات السوريّة: “التوك توك” الذي تحوّل إلى حوّامة!

التنوع في التقارير و"المصادر" الاستخباراتيّة يكشف أن أعداء النظام السوري كثر، ماسونيون، إرهابيون، شتّامو الأسد، لكن نظرياً أبرز "الأعداء" هم " هيئة تحرير الشام" ، التي أحاطت بها من وجهة نظر المخابرات الكثير من الفرضيات التي يصل بعضها إلى مستوى نظريات المؤامرة !
04.02.2025
زمن القراءة: 9 minutes

 منذ اليوم الأول، كانت الصهيونية قضية ضعيفة لكنها تمتعت بأفضل المحامين، أما أصحاب الأرض والحق، فنعرف كيف هم محاموهم إلى يومنا هذا على رغم قوة قضيتهم. اليوم فضاء جديد متاح، واقع يتيح للمرة الأولى هزيمة إسرائيل إعلامياً وصولاً الى التأثير السياسي، فهل نتعلم مما مضى؟ هل نستطيع إنتاج المحامين الأفضل؟ ولو بعد حين؟ 

صادف يوم السابع والعشرين من شهر كانون الثاني/ يناير هذا العام الذكرى الثمانين لتحرير أكبر معسكرات الاعتقال النازية، أوشفيتز-بيركاناو في بولندا، حيث قضى حوالي مليون معتقل، كانت الغالبية الكاسحة منهم من اليهود، في عملية إبادة ممنهجة.

 في المعسكر نفسه، ووسط ما يعجّ به من آثارٍ لما شهد؛ أقيمت احتفالية مهيبة حضرها ملوكٌ ورؤساء، منهم ملك بريطانيا وملك أسبانيا وملكتها ورئيس أوكرانيا وغيرهم، تقدّمهم رئيس بولندا، حيث معسكر الاعتقال الشهير.

 ركّز الإعلام على عشرات من الناجين من المحرقة، الذي تخطوا التسعين من العمر، إذ ألقى بعض من هؤلاء كلماتٍ تضمنت وصفاً مؤلماً صوّرَ ما مروا به من عذابات. على شاشات الأخبار عبر العالم؛ تزامنت هذه الاحتفالية المهيبة مع مشاهد عودة مئات الآلاف من أهل غزة إلى بيوتهم، التي نرى على الشاشات أن معظمها أمسى تُراباً، كما المستشفيات والمدراس والجامعات وكل أساسٍ للحياة في القطاع المنكوب، بخاصة في شماله حيث، في ما يبدو، كانت “خطة الجنرالات” التي تقضي بالإخلاء الكامل تُجرى على قدمٍ وساق. 

ربما المصادفة وحدها هي ما جمع ذكرى تحرير أكبر معسكرات الاعتقال النازية الثمانين، مع ما يحصل هذه الأيام في فلسطين (حيث، عدا غزة ونكبتها، هجمة إسرائيلية دموية شرسة أخرى جارية في الضفة الغربية)، لكن التوظيف “الصهيوني” لذكرى المحرقة ليس جديداً وإن اختلف اليوم سياقه. 

التفسير الجديد-القديم جاء في “اشتباك” دبلوماسي بين إسرائيل وأيرلندا. ففي الذكرى الثمانين هذه، في عاصمة بلاده دَبلين، ألقى رئيس جمهورية أيرلندا، مايكل هيغينز، كلمةً دان فيها بشاعات المحرقة النازية، وكرر الرثاء للضحايا وما عانوه، لكنه أيضاً ذكر معاناة الفلسطينيين كما معاناة المخطوفين الإسرائيليين وأسرهم، وفي إشارة -دبلوماسية لكن واضحة الى إسرائيل- دان الرغبة في الانتقام وما تفعله بالبشر. 

رد الفعل الإسرائيلي كان هجوماً حاداً على هيغينز، وكان من جملة ما قالته السفيرة الإسرائيلية لأيرلندا، دانا إيرليتش، حسبما أورده موقع شبكة “بي بي سي” البريطانية، أن الرئيس الأيرلندي تجاهل “العلاقة الواضحة بين المحرقة النازية ودولة إسرائيل وكيف أصبح بلدنا ملجأً للناجين من أسوء إبادةٍ جماعيةٍ في التاريخ”. علماً أن السفيرة الأيرلندية لم تجد غضاضة في أن “تقترح” على الرئيس الأيرلندي ألا يلقي كلمة في الذكرى الثمانين للمحرقة لمعرفتها بمواقفه. أما الحكومة الإسرائيلية في القدس فاتهمت رئيس الدولة العضو في الاتحاد الأوروبي بـ”تسييس” الذكرى. 

في كلام السفيرة الغاضبة (الذي جاء كله “تسييساً” لذكرى المحرقة وضحاياها)  تكرارٌ لما رأينا وسمعنا عبر عقود، لكن  بعد 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023. في الأمم المتحدة، وتحديداً في مجلس الأمن، ارتدى ممثلو إسرائيل نجمة داوود صفراء على ستراتهم، في إشارة الى إجبار ضحايا المحرقة النازية من اليهود على ارتداء العلامة نفسها. ومراراً، في مقارنة لا علاقة لها بالمنطق لكنها تستجدي مأساوية ذكرى المحرقة، رد ممثلو إسرائيل في  مجلس الأمن على من انتقد بشاعة ما يجري في غزة بأن أحداً لم يعترض حين كانت  قوات الحلفاء تدكّ مدن ألمانيا النازية.

 أما صور الأطفال الذين زعمت مصادر إسرائيلية أن حماس أحرقتهم، وثبت لاحقاً أنها مفبركة، فدلالتها من حيث العلاقة بالمحرقة النازية لا تحتاج إيضاحاً. أيضاً هاجم دبلوماسيون إسرائيليون الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش بعنف فقط لأنه قال إن ما وقع يوم 7 تشرين الأول 2023 لم يأتِ “من فراغ”، علماً أن الرجل دان بشدة ما حصل ذلك اليوم. 

ساحة الصراع، وعي الغرب وضميره، أدواته الذاكرة والتاريخ، والهدف الإسرائيلي ذو منطق بسيطٍ قدر ما هو مُغالط: المحرقةٌ كانت شراً مطلقاً استهدف الإبادة العرقية الكاملة، من ثم نقيض المحرقة، أي الخير المُطلق حُكماً، هو وطن لليهود، دولتهم اليهودية حيث يأمنون تكرار ما حصل في الحرب العالمية الثانية، هذا الفصل الأخير من الاضطهاد (المسيحي الأوروبي حصراً) الذي شهد إبادة منهجية،  مُميكنة كما في أي عملية إنتاجٍ صناعي. بناء على هذا، تتهم إسرائيل وداعموها كل ناقد لها في العموم، ولقدسية حقها (المزعومة) في الوجود بالخصوص، بالعداء للسامية (المقصود طبعاً العداء لليهود)، أي بالعنصرية، وإن كان المعادي للصهيونية، أو حتى الناقد لإسرائيل، يهودياً فالتهمة الجاهزة هي “اليهودي الكاره-لنفسه”. إذاً؛ إن عاديت أو حتى انتقدت إسرائيل فأنت إما عنصري أو ذو عقلٍ مريض.

في القلب هنا فكرة اليهودي الضحية، المحاصر من أعدائه، المهدد وجوده دوماً، من ثم المحرقة استثمارٌ ثمين، فلا ذكرى تخلق صورة أقوى لهذه الدعوى من المحرقة. في أكثر الصور درامية، كان هذا الربط بين المحرقة و”قداسة” إسرائيل حاضراً بشكل متكرر في الاحتفال بيوم ضحايا المحرقة يوم 27 كانون ثاني/ يناير الماضي.

 واحدة من المتحدّثين، توفا فريدمان، ناجية تسعينية من المحرقة، أسهبت في الحديث عن جلبها الى معسكر الاعتقال، وهي في الخامسة والنصف من العمر، عن فقدها أمها، عن صرخات المعاناة لأباء وأمهات يشهدون إبادة نسلهم أمام أعينهم، ثم عن تساؤلها بعد قتل عشرات الأطفال في المعسكر، “هل أنا اليهودية الوحيدة الباقية”؟ ثم أردفت بإنكليزية ممتازة بلكنة أميركية يشوبها القليل من لهجة آتية من شرق أوروبا: “اليوم نرى إسرائيل، الدولة اليهودية الوحيدة، والديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، تكافح من أجل البقاء”.

متحدث آخر أشار إلى الدور الذي لعبه رونالد لودر، رجل الأعمال فاحش الثراء، ابن مؤِسِّسة  مجموعة Estee Lauder   المعروفة في مجال مستحضرات التجميل، والذي تقدر ثروة عائلته بعشرات البلايين من الدولارات. 

أوضح المتحدث أن لودر (الأميركي المولد والجنسية واليهودي-المجري الأصل)، دعم الحزب الجمهوري بملايين الدولارات ورأس المجلس اليهودي العالمي وقدم دعماً لا محدوداً، لا لإسرائيل فحسب، بل للاستيطان في الضفة الغربية الذي دافع عنه بشراسة. تحدث لودر في هذه الاحتفالية بصفته رئيس مؤسسة “أعمدة الذكرى” (Pillars of Remembrance)  التي ترعى معسكر الاعتقال كمتحف، والتي أشرفت على هذه الاحتفالية. 

خطبة “لودر” لم تتوقف عند الدفاع عن إسرائيل، بل قدمتها كمؤشرٍ الى صحة الحضارة الغربية، إن لم تكن تعبيراً عن روحها. جلّ كلامه كان “تحذيراً” من أن ما سبق وأدى إلى المحرقة النازية في القرن الماضي، يعيشه العالم مجدداً اليوم، وأن تكرار المأساة الذي بدا مستحيلاً عاد وأصبح، حسب زعمه، ممكناً مرة أخرى. والدليل؟ “الاستفراد [الجاري] بالدولة اليهودية” (“singling out the Jewish state”) . ولأن لودر ليس ممن عانوا من جرائم النازية، استعان بكلمات ناجٍ راحل توفي قبل بضع سنوات، وهو الكاتب البولندي رومان كينت (1929-2021)، الذي اشتهر بما كتبه عن المحرقة وأهوالها، والذي قال (حسب لودر): “لا نريد لماضينا أن يكون مستقبل أطفالنا”، ثم أردف أن كينت لو كان حياً لبكى من هول ما يشهده العالم اليوم، حيث قتلت حماس من قتلت في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023 “فقط لأنهم ولدوا  يهوداً” (الخطبة التي استمرت عشرين دقيقة لم تذكر الاحتلال مرةً واحدة). 

ثم استطرد الصهيوني العتيد، “اليهود كطائر الكناري في منجم الفحم، فإن مات الكناري فذلك يعني أن من في المنجم مهددون بالموت”. لكن “الكناري “، حسب كلامه، قُتل قبل خمسة عشر شهراً يوم السابع من تشرين الأول” ، وهؤلاء (أي من قضوا يومها)، حسب نص كلامه، مكرراً مرة أخرى، “قُتلوا فقط لأنهم يهود” (منطق يذكرنا بالهجوم الإسرائيلي الحاد على الأمين العام للأمم المتحدة فقط لأنه قال إن ما حدث يومها لم يكن “من فراغ”). 

وبمنطق “الطائر الضعيف” نفسه لكن شديد الأهمية للغرب، دان لودر ما وصفه بالهجوم على “المعتقدات اليهودية-المسيحية” (لاحظ ما ومن يستثني هذا المصطلح الذي شاع استخدامه بعد الحرب العالمية الثانية)، مُديناً، بالاسم، “الانتفاضة العالمية” (The Global Intifada) وشعار “الموت لإسرائيل” الذي وصفه بأنه “موتٌ للحضارة”. 

لكن ربما أهم ما أشار إليه لودر، وأكثره إزعاجاً له، وقيمةً لكل مناصر للعدالة في الوقت نفسه، هو الأثر القوي للإعلام البديل،  فبسبب هذا، حسب كلامه، تؤشر استطلاعات رأي في الولايات المتحدة، الى أنه بين الأميركيين ممن هم فوق الثلاثين، 87 في المئة يدعمون حق إسرائيل في الوجود، أما ممن هم تحت الثلاثين فـ 40 في المئة منهم فقط يدعمون هذا الحق. أرفق لودر هذه المعلومة بإدانة حادة للأكاديميين والناشطين الذين، حسب كلامه، ساهموا في هذا الواقع الجديد (مرة أخرى لا ذكر لا للاحتلال ولا لما حصل ويحصل في  فلسطين). 

المغالطات هنا أكثر من أن تُحصى، لكن رغم ذلك فالنجاح في توظيف هذا المنطق عبر عشرات السنين خدم إسرائيل بفعالية. أبدى لودر انزعاجه الشديد من واقع إعلامي جديد لم تعد الصهيونية فيه محصنةً كما كانت في السابق، ناهيك بسلوك إسرائيل. بفضل طبيعة الإعلام اليوم، هذا الفضاء المفتوح الذي صب عليه لودر جام غضبه، ليس لمجازر كـ”صبرا وشاتيلا” (1982) و”قانا” (1996) أن تمر كما في السابق، فما بالك بغزة؟ فالمأساة تُبث مباشرةً والأثر واضح حتى وإن جهدت إسرائيل لخنق المعلومات (الصحافيون حتى اليوم ممنوعون من دخول غزة) أو سعت الى قلب السردية لصالحها باستخدام ذكرى المحرقة ومساواة كل عدو بألمانيا النازية وشرّها. 

الصهيونية تسبق المحرقة بعشرات السنين، فالأولى تعود الى النصف الثاني من القرن التاسع عشر كما هو معروف، لكن المأساة خدمت مشروع الدولة اليهودية أكثر من كل ما حصل لليهود عبر تاريخهم، ليس لشدة الإجرام والتوحش النازيين (اللذين لا ينكرهما عاقل) وإنما بسبب نجاح التوظيف. 

في ما يبدو، كانت ذكرى المحرقة مهمّشة نسبياً حتى ألقي القبض على أحد أهم سفاحي النازية ممن أشرفوا على عمليات الإبادة الجماعية: أدولف أيخمان، الذي سيق للمحاكمة في أوائل ستينيات القرن الماضي في القدس المُحتلة (لاحظ كيف احتكرت إسرائيل تمثيل كل اليهود واليهودية رغم معارضة بعض اليهود، حتى وإن كانوا أقلية، إلى اليوم الفكرة الصهيونية).

 أذيعت محاكمة أيخمان على التلفاز، ورآها العالم وسطرت عنها الكتب والدراسات، لكن الدرس المستفاد كان قيمة المحرقة كاستثمارٍ صهيوني، لا كمجرد مأساة إنسانية وجريمة كبرى تستحق التذكر فقط لصفاتها هذه.

من وجهة نظر إسرائيل وأنصارها، التاريخ هنا انتقائي، يذكّر بما يشاء ويعمل على نسيان آخرين، والمحور هو التركيز على معاناة جماعة واحدة فقط، تبريراً، أو ربما حتى تعميةً على ما يرتكب باسم هذه الجماعة، حتى وإن عارضه أبناء لها. من ثم جر النازية إلى مناقشات مجلس الأمن، وتجاهل أثر الصهيونية ونتيجتها (إسرائيل) على فلسطين وجوارها. الرسالة أن اليهودي المحاصر ليس من حق أحدٍ إطلاقاً أن يسائله إن دافع عن “وطنه”، فهو دوماً قيد الفناء، لذلك، مثلاً لا حصراً، حرص الإسرائيليون على إخبار العالم أنهم وجدوا نسخاً من كتاب أدولف هتلر “كفاحي” في غزة.

 لكن التاريخ حتى عهد قريب، لمن أراد الدقة، يرينا صورةً أخرى، وهنا فشلنا نحن قبل نجاحهم هم. ما يعرف اصطلاحاً بالعداء للسامية مشكلة مسيحية، كان يهرب اليهود منها إلى بلاد المسلمين، من ثم كان يهود الأندلس يهربون من “إعادة الفتح” الكاثوليكية إلى بلاد المسلمين (طبيب السلطان صلاح الدين الأيوبي الشخصي كان أشهر مفكري اليهودية على الإطلاق: موسى ابن ميمون).  

علماً أن الوجود اليهودي استمر قوياً وآمناً إلى حد كبير حتى بعد الحرب العالمية الثانية، وحتى بعدما بدأت الصدامات بين المستوطنين الصهاينة وأهل فلسطين، قبل إعلان دولة إسرائيل    (الوجود اليهودي البارز في مصر قبل الحرب العالمية الثانية، بل وحتى الخمسينات معروف، والمجتمع اليهودي في العراق أيضاً، راجع، مثلاً، كتاب البروفيسور آفي شلايم الصادر قبل عام واحد: “ثلاثة عوالم: ذكريات يهودي-عربي” Three Worlds Memoirs of an Arab-Jew، حيث يسهب الأكاديمي البارز المعروف بنقده لإسرائيل، حيث ترعرع، في الحديث عن محبة أهله اليهود لوطنهم الأصلي، العراق، حياتهم الرغدة فيه وحنقهم على الاضطرار للخروج منه). ناهيك بما هو معروف عن هجماتٍ على مصالح  يهودية وأفراد يهود في دولٍ عربية في الخمسينات، تبين لاحقاً تورط إسرائيل فيها لدفع اليهود العرب الى الهجرة لإسرائيل (في هذا الصدد راجع كتاب آفي شليم الذي ذكرنا بالإضافة الى ما هو معروف، بـ”فضيحة لافون” في مصر). 

لكن هل ننجح اليوم، مستغلين الواقع الجديد الذي أثار حنق لودر ومن معه، ولو فقط في إيصال الحقائق وتوضيحها؟ خطب السابع والعشرين من كانون الثاني تجاهد لتؤكد ضعف إسرائيل ومظلومية اليهود، وليس كون إسرائيل أقوى من كل أعدائها مجتمعين (كما هي الحقيقة). الصراع (إعلامياً على الأقل) هنا على مكان الضحية لا المنتصر، حقيقة تبدو غائبة تماماً عنا، بخاصة بين من ينسبون أنفسهم إلى “المقاومة”.

 البداهة تدعو الى التساؤل، كيف تبرر جريمة، كالمحرقة، جريمة ظلم الفلسطيني؟ لو استطعنا تصوير القضية فقط في هذه الصيغة لأنجزنا الكثير. لكن أنى نحن من ذلك؟ ما أنجزه المشروع الصهيوني دعائياً ثم على أرض الواقع قد يبدو مُعجزاً، لكنه عمل مضنٍ برعوا فيه عبر قرنٍ ونصف القرن.

 منذ اليوم الأول، كانت الصهيونية قضية ضعيفة لكنها تمتعت بأفضل المحامين، أما أصحاب الأرض والحق، فنعرف كيف هم محاموهم إلى يومنا هذا على رغم قوة قضيتهم. اليوم فضاء جديد متاح، واقع يتيح للمرة الأولى هزيمة إسرائيل إعلامياً وصولاً الى التأثير السياسي، فهل نتعلم مما مضى؟ هل نستطيع إنتاج المحامين الأفضل؟ ولو بعد حين؟