fbpx

عن راتب أخي الدركي وعن خيباته الكثيرة

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

أخبرت أخي منذ يومين أن هناك اتجاه لمضاعفة رواتب العسكريين، فأجاب بأسلوبه الساخر أيضاً: “آه يا نيالي! قصدك هيدي الـ50$ عم تسميها راتب؟”. لذت بالصمت مجدداً. راتب العسكري يساوى 50 دولاراً. 

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

تبدل كل شيء. 

ما قبل العام 2019 في لبنان ليس كما بعده. حتى أخي الدركي، تبدّل أيضاً. بات يردد بمناسبة أو من دونها: “سأقدّم طلب تسريحي”. جملة كفيلة بأن تجعل أمي تستشيط غضباً ويبدأ العراك بينهما، لينتهي على قاعدة “لا غالب ولا مغلوب”. 

تضاعفت رغبة أخي في ترك السلك العسكري، كما في مغادرة البلد. هو نموذج لشباب سُحقت أحلامهم هنا. درَس الفندقية وأتقنها. عمل كطاهٍ في عدّة مطاعم شمال لبنان براتب زهيد. كابد واجتهد ولكن الراتب بقي محدوداً من دون أي ضمانات وظيفية، فشجّعه من حوله للتطوّع في السلك العسكري. كان الجميع يردد حينها: “وظيفة الدولة أضمن شي”، “الشباب يلي معهم دكتوراه قاعدين بلا شغل وعم يقدموا على الدولة”. 

مفهوم “الدولة” في الذهنية اللبنانية لطالما كان مغلوطاً. وكأنها شركة خاصة يجب أن ينتفع منها الجميع. لم يقل لأخي أحد في حينه، أن المشكلة قائمة أساساً في الدولة نفسها. عدم حصوله على وظيفة لائقة ضمن مجال اختصاصه هو نتيجة لفشل هذه “الدولة” في إدارة البلاد وتمتين اقتصادها. رفض في البداية، لكنه رضخ مرغماً. لطالما قال لي “حلمي يكون عندي مطعم. اخترع اكلات جديدة. ما بدي كون دركي”. 

يُشبهني أخي في انضباطه وتوقه لدولة قانون فعلية، بحث عنها داخل أروقة “السلك” ولم يجدها. أذكر عندما روى لي باكياً يوم كان واقفاً لتنظيم السير على إشارة المئتين المرورية في طرابلس وتهجمت عليه امرأة. قال لي: “مسؤوليتي أن أنظّم السيّر لأسهّل مرور الناس بانتظام ولكنهم لا يريدون الانتظام. هم يفضلون الفوضى. أشرت بيدي لسائقي السيارات المقابلة لي بالتوقف، ليمرّ من هم في الجهة الأخرى، إلا أن واحداً منهم، وهو للمفارقة يقود سيارة على المازوت بنمرة سوداء لا شكّ أنها مزوّرة، وفيها من العيوب ما لا يعد ولا يحصى، قرر المضي قدماً غير أبه بي. نهرت به. “يا عمّ يا عمّ”. لكنه لم يتوقف. فأخرجت من جيبي الدفتر لأحرر به محضر مخالفة. فما كان إلا أن توقف وترجلت امرأته راكضةً نحوي. انهالت علي بالضرب بينما لم أحرك ساكناً”. هو يسرد القصة وأنا أغوص بصمت يأكلني. كيف سأهوّن عليه؟ ثم تابع: “رفعت حجراً وحاولت رشقي به. الرجل بقي في السيارة. أنا لبست متجمداً في مكاني والجمهور يتفرج. على الفور ركض عسكريون في الجيش اللبناني من ثكنة المئتين وأبعدوها عني. شعرت بإهانة كبيرة يا أختي، فلا هيّبة ولا قيمة ولا احترام في هذه البلاد”. منذ ذلك الحين لم يُخرج أخي محضر تسطير “الضبوطة” من جيبه. أما السيّر في طرابلس، فكلمة فوضى لم تعد توفيه حقه.  

بدايته في السلك العسكري لم تكن يسيرة أيضاً. عند التحاقه بدورة “التخشين” التي يغيب فيها عن البيت ثلاثة أشهر متواصلة كان يتصل بنا ليُطمئننا أن كل شيء على ما يرام، لكن نبرات صوته كانت تشي أن الأمر ليس كذلك. في لقائنا عند عودته قال: “هذا ليس مكاني”. اختصر الأشهر الثلاثة وصمت. ومضت الأيام بتذمر مستمر يقابله أهلي بعبارات من قبيل “إنت أحسن من كتير ناس على القليلة إنت موظف”. ليجيب متهكماً: “آه يا نيالي”. اليوم لم تعد تلك العبارات نافعة للردّ على تذمره وشكواه، فمعظم من في السلك العسكري يتوقون إلى مغادرته. الفرق أن بعضهم يتمتعون بالسلطة الممنوحة لهم كعسكريين أو ضباطاً، إلا أن البعض الآخر دخل مرغماً، ورغبتهم بالخروج ربما تكون أصدق ما يشعرون به الآن رغم معرفتهم باستحالتها.  

إقرأوا أيضاً:

“ما هذا السجن الذي نعيش به؟” يسأل، لترد أمي: “على أساس شركات أبوك برا ناطرينك”. بالنسبة لها إن الوضع لن يبقى على حاله، وعليه بالانتظار “وطولة البال” شأنه شأن زملائه. ضاق الأفق بهؤلاء أكثر وأكثر مع اشتداد الأزمة. قبلها، كان أخي ورفاقه يلتقون أسبوعياً في أحد مقاهي طرابلس للعب ورق الشدّة. بعدها، تحوّلوا إلى اللقاء على سطح منزلنا. قبلها، كانوا يرتادون أحد النوادي الرياضية في المدينة. بعدها، بحث بعضهم عن أماكن أقل كلفة في محيط قراهم، وبعضهم الآخر تخلى عن الأمر كلياً ليوفر اشتراك النادي الرياضي لشراء الخبز. قبلها، كانوا يخططون للزواج ويبحثون عن منازل للتقدم بطلبات الحصول على قروض الإسكان. بعدها، ها هم يتآلفون أكثر وأكثر مع الوحدة، أما شراء منزل فتحوّل أكثر نكتة تضحكهم. 

أخبرت أخي منذ يومين أن هناك اتجاه لمضاعفة رواتب العسكريين، فأجاب بأسلوبه الساخر أيضاً: “آه يا نيالي! قصدك هيدي الـ50$ عم تسميها راتب؟”. لذت بالصمت مجدداً. راتب العسكري يساوى 50 دولاراً. 

إمكانية التسريح شبه معدومة، أما الفرار فحدّث ولا حرج. ربما، يكون أذكى ما ينص عليه قانون الأسلاك العسكرية في لبنان حجز باسبورات العسكريين. فعلاً يا له من سجن يا أخي. 

إقرأوا أيضاً:

12.08.2022
زمن القراءة: 4 minutes

أخبرت أخي منذ يومين أن هناك اتجاه لمضاعفة رواتب العسكريين، فأجاب بأسلوبه الساخر أيضاً: “آه يا نيالي! قصدك هيدي الـ50$ عم تسميها راتب؟”. لذت بالصمت مجدداً. راتب العسكري يساوى 50 دولاراً. 

تبدل كل شيء. 

ما قبل العام 2019 في لبنان ليس كما بعده. حتى أخي الدركي، تبدّل أيضاً. بات يردد بمناسبة أو من دونها: “سأقدّم طلب تسريحي”. جملة كفيلة بأن تجعل أمي تستشيط غضباً ويبدأ العراك بينهما، لينتهي على قاعدة “لا غالب ولا مغلوب”. 

تضاعفت رغبة أخي في ترك السلك العسكري، كما في مغادرة البلد. هو نموذج لشباب سُحقت أحلامهم هنا. درَس الفندقية وأتقنها. عمل كطاهٍ في عدّة مطاعم شمال لبنان براتب زهيد. كابد واجتهد ولكن الراتب بقي محدوداً من دون أي ضمانات وظيفية، فشجّعه من حوله للتطوّع في السلك العسكري. كان الجميع يردد حينها: “وظيفة الدولة أضمن شي”، “الشباب يلي معهم دكتوراه قاعدين بلا شغل وعم يقدموا على الدولة”. 

مفهوم “الدولة” في الذهنية اللبنانية لطالما كان مغلوطاً. وكأنها شركة خاصة يجب أن ينتفع منها الجميع. لم يقل لأخي أحد في حينه، أن المشكلة قائمة أساساً في الدولة نفسها. عدم حصوله على وظيفة لائقة ضمن مجال اختصاصه هو نتيجة لفشل هذه “الدولة” في إدارة البلاد وتمتين اقتصادها. رفض في البداية، لكنه رضخ مرغماً. لطالما قال لي “حلمي يكون عندي مطعم. اخترع اكلات جديدة. ما بدي كون دركي”. 

يُشبهني أخي في انضباطه وتوقه لدولة قانون فعلية، بحث عنها داخل أروقة “السلك” ولم يجدها. أذكر عندما روى لي باكياً يوم كان واقفاً لتنظيم السير على إشارة المئتين المرورية في طرابلس وتهجمت عليه امرأة. قال لي: “مسؤوليتي أن أنظّم السيّر لأسهّل مرور الناس بانتظام ولكنهم لا يريدون الانتظام. هم يفضلون الفوضى. أشرت بيدي لسائقي السيارات المقابلة لي بالتوقف، ليمرّ من هم في الجهة الأخرى، إلا أن واحداً منهم، وهو للمفارقة يقود سيارة على المازوت بنمرة سوداء لا شكّ أنها مزوّرة، وفيها من العيوب ما لا يعد ولا يحصى، قرر المضي قدماً غير أبه بي. نهرت به. “يا عمّ يا عمّ”. لكنه لم يتوقف. فأخرجت من جيبي الدفتر لأحرر به محضر مخالفة. فما كان إلا أن توقف وترجلت امرأته راكضةً نحوي. انهالت علي بالضرب بينما لم أحرك ساكناً”. هو يسرد القصة وأنا أغوص بصمت يأكلني. كيف سأهوّن عليه؟ ثم تابع: “رفعت حجراً وحاولت رشقي به. الرجل بقي في السيارة. أنا لبست متجمداً في مكاني والجمهور يتفرج. على الفور ركض عسكريون في الجيش اللبناني من ثكنة المئتين وأبعدوها عني. شعرت بإهانة كبيرة يا أختي، فلا هيّبة ولا قيمة ولا احترام في هذه البلاد”. منذ ذلك الحين لم يُخرج أخي محضر تسطير “الضبوطة” من جيبه. أما السيّر في طرابلس، فكلمة فوضى لم تعد توفيه حقه.  

بدايته في السلك العسكري لم تكن يسيرة أيضاً. عند التحاقه بدورة “التخشين” التي يغيب فيها عن البيت ثلاثة أشهر متواصلة كان يتصل بنا ليُطمئننا أن كل شيء على ما يرام، لكن نبرات صوته كانت تشي أن الأمر ليس كذلك. في لقائنا عند عودته قال: “هذا ليس مكاني”. اختصر الأشهر الثلاثة وصمت. ومضت الأيام بتذمر مستمر يقابله أهلي بعبارات من قبيل “إنت أحسن من كتير ناس على القليلة إنت موظف”. ليجيب متهكماً: “آه يا نيالي”. اليوم لم تعد تلك العبارات نافعة للردّ على تذمره وشكواه، فمعظم من في السلك العسكري يتوقون إلى مغادرته. الفرق أن بعضهم يتمتعون بالسلطة الممنوحة لهم كعسكريين أو ضباطاً، إلا أن البعض الآخر دخل مرغماً، ورغبتهم بالخروج ربما تكون أصدق ما يشعرون به الآن رغم معرفتهم باستحالتها.  

إقرأوا أيضاً:

“ما هذا السجن الذي نعيش به؟” يسأل، لترد أمي: “على أساس شركات أبوك برا ناطرينك”. بالنسبة لها إن الوضع لن يبقى على حاله، وعليه بالانتظار “وطولة البال” شأنه شأن زملائه. ضاق الأفق بهؤلاء أكثر وأكثر مع اشتداد الأزمة. قبلها، كان أخي ورفاقه يلتقون أسبوعياً في أحد مقاهي طرابلس للعب ورق الشدّة. بعدها، تحوّلوا إلى اللقاء على سطح منزلنا. قبلها، كانوا يرتادون أحد النوادي الرياضية في المدينة. بعدها، بحث بعضهم عن أماكن أقل كلفة في محيط قراهم، وبعضهم الآخر تخلى عن الأمر كلياً ليوفر اشتراك النادي الرياضي لشراء الخبز. قبلها، كانوا يخططون للزواج ويبحثون عن منازل للتقدم بطلبات الحصول على قروض الإسكان. بعدها، ها هم يتآلفون أكثر وأكثر مع الوحدة، أما شراء منزل فتحوّل أكثر نكتة تضحكهم. 

أخبرت أخي منذ يومين أن هناك اتجاه لمضاعفة رواتب العسكريين، فأجاب بأسلوبه الساخر أيضاً: “آه يا نيالي! قصدك هيدي الـ50$ عم تسميها راتب؟”. لذت بالصمت مجدداً. راتب العسكري يساوى 50 دولاراً. 

إمكانية التسريح شبه معدومة، أما الفرار فحدّث ولا حرج. ربما، يكون أذكى ما ينص عليه قانون الأسلاك العسكرية في لبنان حجز باسبورات العسكريين. فعلاً يا له من سجن يا أخي. 

إقرأوا أيضاً:

12.08.2022
زمن القراءة: 4 minutes
|
آخر القصص
 هل تستطيع الدول العربية الغنيّة تجاهل أزمات جيرانها؟
أفراح ناصر - باحثة في المركز العربي في واشنطن | 12.10.2024
هل هُزم محور “المقاومة”فعلاً؟!
شكري الريان - كاتب فلسطيني سوري | 12.10.2024
لماذا أخفق حزب الله؟
ندى عبدالصمد - كاتبة وصحافية لبنانية | 12.10.2024
خطبة الوداع
بادية فحص - صحافية وكاتبة لبنانية | 11.10.2024

اشترك بنشرتنا البريدية