fbpx
ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

عن سوريا التي سبقتنا إلى أوروبا !

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

البلاد التي نعتقد أننا سنتركها وراءنا نجدها قد سبقتنا إلى غربتنا، نغادر في الوقت الذي لم  نتمنى فيه شيئاً أكثر من البقاء، لكن دون صراعات وجوع ومرض واختباء من أعينهم  الموجودة في كل مكان، يراقبون أمانينا البسيطة وأحلامنا الغبية، ويرسمون لنا حدوداً، يعلموننا كيف نقف باستعداد للذل كل صباح، يحددون لنا ما نقوله وما نبتلعه. 

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

غيّرت مكان سكني من فترة قريبة، والحقيقة أنّي لم أغادر محافظتي، ولا حتّى منطقتي، بل انتقلت من حارة إلى حارة أخرى، على رغم هذا مازلت عاجزةً عن المرور من شارع منزلي القديم، الذي قضيت فيه ما يقارب اثنتا عشر عاماً.

 كيف سأمرّ غريبة في ذلك الشارع الذي احتضنني وتلقى دموعي بصبر، وسمع حكاياتي، وصار مساحتي الآمنة الوحيدة في هذا العالم بعد أن ضاق وطني على اتساعه بي، هذا الشارع صار كلّ البلاد بالنسبة لي. 

نوع رديء من الغربة

في حارتي الجديدة لا ابتسامات أتبادلها مع الجيران ولا تلويحات من خلف الشبابيك، ولا أحاديث ليلية متأخرة بين السطوح، في حارتي الجديدة التي لا تبعد أكثر من عشر كيلومترات عن حارتي القديمة، اختبرت نوعاً رديئاً من الغربة، ينتهي بمجرد أن أقطع عشر كيلومترات.  

في حين يختبر أكثر من 12 مليون سوري حول العالم اليوم الغربة. الغربة على حقيقتها وبكل ما تحمله هذه الكلمة من غرابة وقسوة وظلم.

في هذا الشارع الغريب، لخطواتي على الأرض ضجيج هائل، لا ينتبه له أحد إلا أنا، فأشعر بغصة وكأن الدنيا بما فيها عالقة في حلقي. 

كيف يشعر هؤلاء الموزعون على العالم قسراً ورغماً عن أنوفهم، ومن غادروا لأن لا قانون يحميهم ولا سلطة تهتم بواجباتها ؟، من بين كل 74 شخص من سكان العالم، هناك أكثر من شخص واحد نزح قسراً عن بلاده

اعتدت الوحدة مراراً وتكراراً، وكأني اكتشفت هذه الكلمة للتو، فكرت بكل الراحلين والمهاجرين واللاجئين، مروا في رأسي كأشباح، رفاقي الذين تلاشوا من حاضري وصاروا مجرد خيالات استحضرهم من الماضي البعيد وكأنهم كانوا وهماً، هل شعروا بالوحدة وهم يجوبون شوارع جديدة ويحدقون في وجوه غريبة، ويدخلون غرفاً باردة ؟. هم الذين لم يريدوا الرحيل، ولم تراودهم فكرة السفر يوماً، ولم يرسموا أحلاماً أطول من بساط البلاد.

لكن حتى هذا البساط الذي فصّلنا أحلامنا على مقاسه، سحبوه من تحت أرجلنا، ورمونا خارجه. هل يحق لأي سلطة سياسية في العالم أن تتعامل مع الشعب وكأنه وجود ثقيل وصوت مزعج يجب إخراسه بالطرد.

 النفي يعادل الإعدام في كل القوانين والأعراف ومنذ بدء التاريخ، وهذا بالضبط ما يعرفونه جيداً، على رغم ذلك شرعوه لأنفسهم وحولوا المطارات إلى ساحات للقتل الجماعي، وجعلوا السفر أسلوباً جديداً لمصّ دمائنا.

 لا قوانين تحمينا، فلا قوانين هنا إلا مصلحة جيوبهم، المعادلة بسيطة، مغترب يساوي دولارات تحوّل للإعالة ولهم منها حصة (النمر).

 كيف سأمرّ غريبة في ذلك الشارع الذي احتضنني وتلقى دموعي بصبر، وسمع حكاياتي، وصار مساحتي الآمنة الوحيدة في هذا العالم بعد أن ضاق وطني على اتساعه بي، هذا الشارع صار كلّ البلاد بالنسبة لي. 

هل أحمل الشوارع في حقائبي

البلاد التي نعتقد أننا سنتركها وراءنا نجدها قد سبقتنا إلى غربتنا، نغادر في الوقت الذي لم  نتمنى فيه شيئاً أكثر من البقاء، لكن دون صراعات وجوع ومرض واختباء من أعينهم  الموجودة في كل مكان، يراقبون أمانينا البسيطة وأحلامنا الغبية، ويرسمون لنا حدوداً، يعلموننا كيف نقف باستعداد للذل كل صباح، يحددون لنا ما نقوله وما نبتلعه. 

بكل سذاجة نهنئ، ونكتب ” ألف مبروك” و”دربك أخضر” لمن يسافر. لكن هل كنا نفكر به وبرغبته وبمشاعره، بأمه الوحيدة، ووالده المكسور، وبأخته الحزينة.  عن أي”درب أخضر” كنا نتكلّم، وعن أي “مبروك”، مثل هذه العبارات تقال، لمن يختار السفر بعد سهرة عائلية لطيفة لمناقشة الخيارات المتاحة لبناء المستقبل، وليس لنا نحن الذين نُعاقب بالسفر ونختاره بدلاً عن الذل، نختاره لأننا نبحث عن ضوء وماء ساخن وطعام يشبع وسقف آمن وحفاضات.

تريد ابنة  صديقتي أن تضع بيتها في الحقيبة، وتريد صديقتي أن تأخذ رائحة غرفتها، “معقول لاقي بدبي هيك ريحة” تردد ضاحكة وتبكي وأبكي. 

هل اعتقدنا نحن الأناس العاديون، حتى في أسوأ كوابيسنا، أننا سنكون مضطرين لحزم حياتنا وحشرها في حقيبة سفر، أو أننا سنكون مضطرين لقطع السند والهند وركوب البحار، لنتمكن من تأمين ثمن الطعام والمأوى لعائلاتنا.

مؤلم أن تصبح فكرة الانتماء مثيرة للسخرية، لا أقصد هنا الانتماء كفكرة سياسية، أو شعور وطني أو قومي، وإنما ما يتعلق بحريتنا وإنسانيتنا. إذاً، الرغبة فقط هنا هي من صنعت هذا الانتماء، الارتباط الذي نكونه مع أماكن عيشنا، هذا الارتباط الذي لا يحق لأحد في العالم أن يشكك بمدى قداسته طالما أن قداسته نابعة من إيماننا به. 

كم من المؤلم والمجحف بحق إنسانيتنا أن يضطر الكثير من المقيمين في الخارج تبرير اشتياقهم وحنينهم، تبرير رغبتهم بالعودة. 

وكم من المؤلم أن يتحول الحنين إلى سبب للسخرية والتهكم. كثيرون ممن بقوا هنا ولا ألومهم لا يفكرون بالحنين على طريقة محمود درويش، ولا يدركون أننا في منافينا لن نسترجع إلا ذكرياتنا النظيفة بعد تنقيتها من الشوائب، وأننا لا نحب البلد ونحن فيه كما نحبه وهو فينا.

 “الحنين انتقائيّ كبستانيّ ماهر وهو تكرار للذكرى وقد صفيت من الشوائب” هذا ما يقوله درويش وهذا ما يحدث بالفعل.

أريد الهرب من ألمانيا

تقول الكاتبة والفنانة التشكيلية السورية كفاح علي ديب  المقيمة في ألمانيا: “ألا يكفي أن نشعر بالحنين وعدم الانتماء إلى ما نحن فيه لنحاول الهرب؟ الهرب إلى الأمام!، فأنا أدرك أنه لا يمكنني العودة إلى الخلف إلى المكان الوحيد في هذا الكوكب الذي أشعر تجاهه بالانتماء، إلى دمشق” 

حال كفاح هو حال آلاف السوريين ممن يريدون الهرب إلى الأمام، ذكرني ما كتبت كفاح بالمشهد العظيم من الأنمي الياباني “الأسير الهارب”، حيث أمضى البطل الذي كان أسيراً عند اليابانيين حياته في الغابة، وهو مكبل بحنينه إلى أرضه وبلاده، وبعد أن عجز عن قطع حدود الغابة التي هرب إليها.

 لم يسعفه إلا الحلم الذي خلق له جناحين ليطير فوق البحار والغابات، ويصل قريته حيث زوجته وطفلته وبيته وشجرة الإجاص التي تنتظر أن يزرعها، لكنه كان مجرد حلم، انتهى بأن يطلق جنودٌ النار حتى على أحلامه، فسقط مغشياً عليه وحيداً في بلاد بعيدة، مثقلاً بالحنين مثلنا نحن السوريون الذين نختبر الحنين وثقل الانتماء كل يوم.

20.03.2024
زمن القراءة: 4 minutes

البلاد التي نعتقد أننا سنتركها وراءنا نجدها قد سبقتنا إلى غربتنا، نغادر في الوقت الذي لم  نتمنى فيه شيئاً أكثر من البقاء، لكن دون صراعات وجوع ومرض واختباء من أعينهم  الموجودة في كل مكان، يراقبون أمانينا البسيطة وأحلامنا الغبية، ويرسمون لنا حدوداً، يعلموننا كيف نقف باستعداد للذل كل صباح، يحددون لنا ما نقوله وما نبتلعه. 

غيّرت مكان سكني من فترة قريبة، والحقيقة أنّي لم أغادر محافظتي، ولا حتّى منطقتي، بل انتقلت من حارة إلى حارة أخرى، على رغم هذا مازلت عاجزةً عن المرور من شارع منزلي القديم، الذي قضيت فيه ما يقارب اثنتا عشر عاماً.

 كيف سأمرّ غريبة في ذلك الشارع الذي احتضنني وتلقى دموعي بصبر، وسمع حكاياتي، وصار مساحتي الآمنة الوحيدة في هذا العالم بعد أن ضاق وطني على اتساعه بي، هذا الشارع صار كلّ البلاد بالنسبة لي. 

نوع رديء من الغربة

في حارتي الجديدة لا ابتسامات أتبادلها مع الجيران ولا تلويحات من خلف الشبابيك، ولا أحاديث ليلية متأخرة بين السطوح، في حارتي الجديدة التي لا تبعد أكثر من عشر كيلومترات عن حارتي القديمة، اختبرت نوعاً رديئاً من الغربة، ينتهي بمجرد أن أقطع عشر كيلومترات.  

في حين يختبر أكثر من 12 مليون سوري حول العالم اليوم الغربة. الغربة على حقيقتها وبكل ما تحمله هذه الكلمة من غرابة وقسوة وظلم.

في هذا الشارع الغريب، لخطواتي على الأرض ضجيج هائل، لا ينتبه له أحد إلا أنا، فأشعر بغصة وكأن الدنيا بما فيها عالقة في حلقي. 

كيف يشعر هؤلاء الموزعون على العالم قسراً ورغماً عن أنوفهم، ومن غادروا لأن لا قانون يحميهم ولا سلطة تهتم بواجباتها ؟، من بين كل 74 شخص من سكان العالم، هناك أكثر من شخص واحد نزح قسراً عن بلاده

اعتدت الوحدة مراراً وتكراراً، وكأني اكتشفت هذه الكلمة للتو، فكرت بكل الراحلين والمهاجرين واللاجئين، مروا في رأسي كأشباح، رفاقي الذين تلاشوا من حاضري وصاروا مجرد خيالات استحضرهم من الماضي البعيد وكأنهم كانوا وهماً، هل شعروا بالوحدة وهم يجوبون شوارع جديدة ويحدقون في وجوه غريبة، ويدخلون غرفاً باردة ؟. هم الذين لم يريدوا الرحيل، ولم تراودهم فكرة السفر يوماً، ولم يرسموا أحلاماً أطول من بساط البلاد.

لكن حتى هذا البساط الذي فصّلنا أحلامنا على مقاسه، سحبوه من تحت أرجلنا، ورمونا خارجه. هل يحق لأي سلطة سياسية في العالم أن تتعامل مع الشعب وكأنه وجود ثقيل وصوت مزعج يجب إخراسه بالطرد.

 النفي يعادل الإعدام في كل القوانين والأعراف ومنذ بدء التاريخ، وهذا بالضبط ما يعرفونه جيداً، على رغم ذلك شرعوه لأنفسهم وحولوا المطارات إلى ساحات للقتل الجماعي، وجعلوا السفر أسلوباً جديداً لمصّ دمائنا.

 لا قوانين تحمينا، فلا قوانين هنا إلا مصلحة جيوبهم، المعادلة بسيطة، مغترب يساوي دولارات تحوّل للإعالة ولهم منها حصة (النمر).

 كيف سأمرّ غريبة في ذلك الشارع الذي احتضنني وتلقى دموعي بصبر، وسمع حكاياتي، وصار مساحتي الآمنة الوحيدة في هذا العالم بعد أن ضاق وطني على اتساعه بي، هذا الشارع صار كلّ البلاد بالنسبة لي. 

هل أحمل الشوارع في حقائبي

البلاد التي نعتقد أننا سنتركها وراءنا نجدها قد سبقتنا إلى غربتنا، نغادر في الوقت الذي لم  نتمنى فيه شيئاً أكثر من البقاء، لكن دون صراعات وجوع ومرض واختباء من أعينهم  الموجودة في كل مكان، يراقبون أمانينا البسيطة وأحلامنا الغبية، ويرسمون لنا حدوداً، يعلموننا كيف نقف باستعداد للذل كل صباح، يحددون لنا ما نقوله وما نبتلعه. 

بكل سذاجة نهنئ، ونكتب ” ألف مبروك” و”دربك أخضر” لمن يسافر. لكن هل كنا نفكر به وبرغبته وبمشاعره، بأمه الوحيدة، ووالده المكسور، وبأخته الحزينة.  عن أي”درب أخضر” كنا نتكلّم، وعن أي “مبروك”، مثل هذه العبارات تقال، لمن يختار السفر بعد سهرة عائلية لطيفة لمناقشة الخيارات المتاحة لبناء المستقبل، وليس لنا نحن الذين نُعاقب بالسفر ونختاره بدلاً عن الذل، نختاره لأننا نبحث عن ضوء وماء ساخن وطعام يشبع وسقف آمن وحفاضات.

تريد ابنة  صديقتي أن تضع بيتها في الحقيبة، وتريد صديقتي أن تأخذ رائحة غرفتها، “معقول لاقي بدبي هيك ريحة” تردد ضاحكة وتبكي وأبكي. 

هل اعتقدنا نحن الأناس العاديون، حتى في أسوأ كوابيسنا، أننا سنكون مضطرين لحزم حياتنا وحشرها في حقيبة سفر، أو أننا سنكون مضطرين لقطع السند والهند وركوب البحار، لنتمكن من تأمين ثمن الطعام والمأوى لعائلاتنا.

مؤلم أن تصبح فكرة الانتماء مثيرة للسخرية، لا أقصد هنا الانتماء كفكرة سياسية، أو شعور وطني أو قومي، وإنما ما يتعلق بحريتنا وإنسانيتنا. إذاً، الرغبة فقط هنا هي من صنعت هذا الانتماء، الارتباط الذي نكونه مع أماكن عيشنا، هذا الارتباط الذي لا يحق لأحد في العالم أن يشكك بمدى قداسته طالما أن قداسته نابعة من إيماننا به. 

كم من المؤلم والمجحف بحق إنسانيتنا أن يضطر الكثير من المقيمين في الخارج تبرير اشتياقهم وحنينهم، تبرير رغبتهم بالعودة. 

وكم من المؤلم أن يتحول الحنين إلى سبب للسخرية والتهكم. كثيرون ممن بقوا هنا ولا ألومهم لا يفكرون بالحنين على طريقة محمود درويش، ولا يدركون أننا في منافينا لن نسترجع إلا ذكرياتنا النظيفة بعد تنقيتها من الشوائب، وأننا لا نحب البلد ونحن فيه كما نحبه وهو فينا.

 “الحنين انتقائيّ كبستانيّ ماهر وهو تكرار للذكرى وقد صفيت من الشوائب” هذا ما يقوله درويش وهذا ما يحدث بالفعل.

أريد الهرب من ألمانيا

تقول الكاتبة والفنانة التشكيلية السورية كفاح علي ديب  المقيمة في ألمانيا: “ألا يكفي أن نشعر بالحنين وعدم الانتماء إلى ما نحن فيه لنحاول الهرب؟ الهرب إلى الأمام!، فأنا أدرك أنه لا يمكنني العودة إلى الخلف إلى المكان الوحيد في هذا الكوكب الذي أشعر تجاهه بالانتماء، إلى دمشق” 

حال كفاح هو حال آلاف السوريين ممن يريدون الهرب إلى الأمام، ذكرني ما كتبت كفاح بالمشهد العظيم من الأنمي الياباني “الأسير الهارب”، حيث أمضى البطل الذي كان أسيراً عند اليابانيين حياته في الغابة، وهو مكبل بحنينه إلى أرضه وبلاده، وبعد أن عجز عن قطع حدود الغابة التي هرب إليها.

 لم يسعفه إلا الحلم الذي خلق له جناحين ليطير فوق البحار والغابات، ويصل قريته حيث زوجته وطفلته وبيته وشجرة الإجاص التي تنتظر أن يزرعها، لكنه كان مجرد حلم، انتهى بأن يطلق جنودٌ النار حتى على أحلامه، فسقط مغشياً عليه وحيداً في بلاد بعيدة، مثقلاً بالحنين مثلنا نحن السوريون الذين نختبر الحنين وثقل الانتماء كل يوم.