المراقب للمشهد السوري الحالي يرى فيه الثالوث التالي: “سوريا حرة – نظام مستبد ساقط – ثورة لم تنتصر”. المحوري هنا هو “ثورة لم تنتصر”، إذ تدل المعطيات الحالية للواقع المجتمعي والدولتي القادم على سوريا، بأن الثورة التي دعا خطابها إلى الحرية والعدالة والديمقراطية والتعددية والقانون والكرامة وحقوق الإنسان (بل والعلمانية) والمدنية، لم تحقق انتصاراً، ونخشى أن تشهد هزيمة في المحصلة.
حصل مؤخراً اجتماع بين المسؤول السياسي المختص بالطوائف في “هيئة تحرير الشام”، مع إكليروس الكنائس المسيحية المختلفة في سوريا، بهدف تطمينهم على مستقبلهم.
قال المسؤول للمجتمعين إن مشروعهم لسوريا هو “دولة مدنية شرعية” كما سمّاها، وشرح لهم أن هذا يعني دولة تحفظ حقوق الآخرين الدينية والعبادية، وتعاملهم مدنياً بالحسنى والتسامح على قاعدة الشريعة الدينية.
كما ذكرت في مقال سابق، النموذج الذي يُعتمد كتطبيق عملاني لهذا الخيار، هو نموذج دويلة “هيئة تحرير الشام” (جبهة النصرة سابقاً) في إدلب، بوصفه مرجعية الحكم للهيئة، مع غموض ما زال سائداً إلى الآن، في ما يخص حكم سوريا بكاملها، على الرغم من تداول أخبار عن الدعوة إلى مؤتمر وطني شامل.
ما الذي سيساعد الهيئة ومناصريها؟ ومن سمح لها (الأميركي والإسرائيلي والأوروبي) بالركوب على ظهر الثورة واستلام السلطة وزمام الأمور في سوريا، بدلاً من أي جهة سورية معارضة أخرى (اختفت كل الهيئات المعارضة التمثيلية من المشهد تماماً وكأنها أشباح) على تحقيق هذا المشروع وفرض هذه الدولة على المشهد السوري؟.
لا يحتاج أصحاب المشروع الإسلاموي للقوة والفرض والاستبداد كي يحققوا مشروعهم. تلك الأدوات لن تنال دعم صناع القرار ومُلّاك أسهم المشرق الدوليين وتأييدهم وتغطيتهم. فلا حاجة لها في المشهد السوري الحالي، إذ إن تحقيق مشروع الدولة “المدنية الشرعية” المذكور سيتم من خلال اتّباع استراتيجية “الأسلمة من أسفل” أو “أسلمة من قاعدة الحاضنة الشعبية”.

فقاعة “دويلة” إدلب !
أدت جرائم النظام الأسدي وأسلوبه الوحشي في التعامل مع الثورة الشعبية، إلى تحول نصف الشعب السوري (12 مليون من أصل 24) إلى شعب مقتلع ونازح ولاجئ ومتمرد ومنسلخ عن كل ما يمت لسوريا بصلة. وقد حمل قسم معتبر من الشباب في هذا النصف الشعبي السلاح، وقرر أن يواجه آلة قتل النظام بالجهاد الديني والطائفي الطابع.
توزع أولئك ال 12 مليون سوري، إما في مخيمات النزوح، وإما في بلدان اللجوء. كما لجأ ما يقارب المليوني إنسان منهم، مع المقاتلين الجهاديين المذكورين (من جبهة النصرة وسواها من كتائب جهادية) إلى محافظة إدلب، وأنشأوا هناك، بمساعدة أوروبا وأميركا وتركيا، كياناً مجتمعياً وحكماً ذاتياً تحول إلى فقاعة سوسيو- أنثروبولوجية مغلقة على ذاتها، ومُنسلِخة عن أي تواصل أو اطّلاع أو وعي بباقي سوريا وبنصفها الشعبي الآخر (ال 12 مليوناً، الناجين بشق الأنفاس في المدن السورية وتحت سطوة النظام البربري).
بدأ القسم الميال للبديل الإسلاموي في هذا النصف المسلوخ من سوريا، بالعودة إلى بلده وأرضه ومدنه وقراه التي هرب منها، وهو يُعلّي صوته ويُعبّرعن توجهاته وقناعاته مدفوعاً بهيمنة “هيئة تحرير الشام” على المشهد.
تقول دراساتنا للميول التي عبرت عنها منظومات تفكير وسلوكيات قسم لا يُستهان به أبداً، من السوريين ال12 مليون المقتلعين والنازحين واللاجئين والمنضوين تحت مظلة الكيان التديني الجهادي، إن السوريين المذكورين يعودون إلى الداخل ليمارسوا مواطنة تمر في التوجهات السوسيولوجية السياسية التالية.
أولاً: فضيلة ضد إثم
هناك نكوص قوي وواضح، وأحياناً منفلت العقال، نحو التدين السلفي الانغلاقي القائم على معايير سلوكية وأخلاقية وصائية، أساسها “فضيلة- ضد- إثم”.
سيعمل السوريون المذكورون العائدون، على تطبيق تديُن- من- أسفل في سوريا، ونشره على المستوى الشعبي اليومي القاعدي. يستطيع المرء علمياً، أن يفهم سبب نكوص جزء كبير من ال12 مليون سوري المسلوخ إلى التَديُّن.
وأحد أسباب الارتماء في حضن الغَيـبي والميتافيزيقي، هو المعاناة والهزيمة الوجودية والفكرية والإنسانوية، التي يتعرض لها المرء في خبرات العيش المادي والواقعي والفيزيقي.
هذا ما حدث للسوريين في السنوات الماضية، وهذا ما عبرت عنه بقوة وعمق عبارة “ما إلنا غيرك يا الله.” واليوم، أولئك السوريون يشعرون أنهم يستطيعون أن يقولوا “ما إلنا غيرك يا الله ويا جولاني”.

ثانياً: إعادة الاعتبار إلى الذات
هناك انغماس عميق في سيكولوجية رد الاعتبار وإثبات الذات. نتحدث هنا عن شريحة واسعة فقدت كل ما كان يشكّل مقومات وجودها على يد نظام حرمها من كل شيء، وعاقبها لمجرد أنها رفضت أن لا تكون بشراً.
وهذا خلق عند السوريين (وحتى سوريو الداخل) إنسانية مُشوَهة ومَسحوقة ومُدمَّرة، راح أصحابها حالياً يشعرون بأنهم يستطيعون استعادة الكرامة ورد الاعتبار والقيمة.
يتمظهر هذا بقوة سوسيولوجياً، في أوساط السوريين الذين انتموا إلى تجربة دويلة الهيئة في إدلب، وعاشوا في كنفها. يشعر هؤلاء بأن لديهم فرصة لرد الاعتبار وإثبات الذات، أمام باقي أطياف وشرائح وجماعات السوريين. ولهذا، هناك رغبة بتطبيق نموذج إدلب كمثال معياري عُلوي يعوض عن الذل الماضي. ولهذا فالحديث عن “دولة مدنية شرعية” له بُعد سوسيولوجي اعتباري، هَدفه أن يُعطي العُزوة والاعتبار والتفوق لشريحة معينة من السوريين.
ثالثاً: تجاهل الآخر حد الإقصاء؟
الميل السوسيولوجي السياسي الأخير، هو رغبة في تجاهل وجود “الآخر”. يكثر الحديث حالياً عن سوريا القادمة، باستخدام مفردات “الجميع” و”الكل” و”كل أطيافها وجماعاتها” و”كل أديانها وطوائفها”.
هذه لعبة لغة، هدفها إعطاء الانطباع بأن فكرة “الآخر” تحظى بموقع مركزي ذي قيمة عالية، في مخيال “الدولة المدنية الشرعية” المذكورة وذهنيتها. ولكن، من يفهم سوسيولوجيا السياسة في السياق السوري المذكور، يدرك أن الإكثار من استخدام لعبة لغة “الآخر”، قد لا يعني بالضرورة إعطاء هذا المفهوم قيمة مركزية ومعيارية، بل هو محاولة لتحويله إلى مجرد جزء من لغة خطاب مرجعي أحادي، بدلاً من أن يكون مصدراً وقاعدة خطابٍ آخر مواجه، نقبله ونقبل فكرة وجوده الحرة في المشهد.
لنتذكر أن أولئك السوريين المذكورين، كانوا هم أنفسهم يوماً ما “الآخر” في سوريا الأسد، وقد تمت معاملة “آخريتهم” وفق سياسة تحقيرية وطغيانية وقمعية وتهميشية وصلت إلى درجة “الأقللة.”
ولهذا، فقد بات مفهوم “الآخر” في العقل السوري المنسلخ والمقتلع واللاجئ والمجاهد، مفهوماً يقترن بالسلبية والشيطنة والتخوين والتهميش والإقصاء.
من هنا، فإن الحديث عن الآخر من قبل من كانت “أخرنتهم” مصدر تهميش وتحقير وتخوين وقمع وأذية لهم، هو تعبير عن رغبة مضادة تعويضية بالانتقام من فكرة الآخر بحد ذاتها، من خلال تسطيحها وتشييع استهلاكها لغوياً، مما يحولها إلى خطاب تسويقي تأملي، أبعد ما يكون عما سيتم تطبيقه في الواقع والممارسة.
ما سيتم تطبيقه هو محاولة تدجين هذا الآخر ودفعه بكل الوسائل، بما فيها القسر والترهيب والهيمنة والوصائية، للخنوع والانسياق والاندماج في حلقة الأدلجة والأسلمة الشعبية.
ولكن لن يتم هذا عن طريق العنف والقمع، بل من خلال التطبّع والاندماج من الأسفل، وذلك من خلال السماح لهذا الآخر، بأن يكون آخر دينياً وطائفياً وإثنياً، ولكن من خلال أسلمته وتديينه سلوكياً وعادات وطباع وممارسات وشبكات تفسير وفهم وأخلاق. الآخر هو هدف للتغيير والتحويل وإعادة الإنتاج والرسكـلة.
إقرأوا أيضاً:
هل يتم تهميش “الثورة السورية”؟
في السنوات الماضية، صرفت مراكز ومطابخ صناعة الأفكار في أوروبا وأميركا آلاف الساعات على دراسة البنية المَهيوية السوسيولوجية للسوريين ال12 مليون المذكورين، وبنت حولها طروحات واستراتيجيات عمل استشرافية، وصلت إلى دوائر صناعة القرار الجيوسياسية لمُلّاك الشرق الأوسط. وهذا ما دفع دوائر القرار الإسرائيلية والأميركية والأوروبية، أن تصل إلى قناعة متجددة ومستجدة (وليست جديدة) بأن ما يضمن أمن إسرائيل والأمن الاستراتيجي للحديقة الخلفية الأوروبية، وما يتناغم مع فهم إسرائيل الفلسفي والديني لذاتها في منطقة الشرق الأوسط، ما هو إلا بديل سلطوي سوري يعكس الميول الثلاثة التي ذكرتها في الأعلى.
ولهذا، فقد كان من الضروري بمكان أن تُهمّش الثورة السورية وخطابها المعاكس تماماً لتلك السوسيولوجية السياسية، وأن يتم تسليم السلطة للطرف المناهض للثورة ووجها المضاد، الذي عاداها وكبتها وقمعها ووُجِد ليفرّغها من مضمونها.
وقد تقرر ذلك، بعد أن تمت مراقبة هذا الطرف ودراسته وسبر وتحليل تجربته وسلوكه في حقل التجارب الإدلبي، الذي تجري الآن عملية تطبيق نتائجه المخبرية والتجريبية على المشهد السوري الكـامل. ولهذا، أيضاً، فإن الناخب الأول لمشروع “الدولة المدنية الشرعية” والراعي الأساس له والمؤثر من خلف الستارة، هم: إسرائيل وأميركـا وأوروبا (عرابو تلميع صورة الجولاني وتغيير خطابه ومظهره) أما ال12 مليون سوري الذين حاولوا النجاة داخل سوريا، وفي ظل نظام القتل والفساد والاستبداد، فهم حقل تجارب تطبيق مشروع الأدلبة، أو “الأسلمة من أسفل”، الجديد.
نعم، لم تنتصر ثورتنا بعد، ولا يبدو أن هناك من يريد لها أن تنتصر. نعم، سوريا حرة ونظام الأسد البربري البشع قد سقط وتحررنا من أغلاله إلى غير رجعة. ولكن، لم تنتصر الثورة السورية وخطابها بعد، وما يبدو هو أنها قد تشهد هزيمة في المستقبل، لأن المخطط لسوريا والمرغوب تطبيقه فيها، هو مشروع ضمن حسابات أخرى، وعلى قاعدة طموح بتديين وأدلجة وتطييف وأسلمة المجتمع من أسفل.
لم تنهزم الثورة وخطابها بعد، وإن كـانت لم تنتصر. ولكن، تجنيبها الهزيمة يعني أن على أصحاب الصوت الآخر (صوت الثورة الأصيل) ألا يخجلوا من “آخريتهم” وألا يتنكروا لها، أو يخافوا منها، أو يخنعوا أمام من يحاول تدجينها. بل عليهم، أن يؤكدوها وأن يُشددوا على صوتهم المختلف وخطابهم وأحلامهم المُتمايزة. فهذا هو الأمل الأخير كي لا تنهزم الثورة، حتى وإن لم تَـنتصر. علينا العمل من هذه اللحظة وعدم الانتظار أبداً. السوسيولوجيا السياسية لا تؤمن بالوقت ولا تعترف بالزمن.
إقرأوا أيضاً: