انتهت التسعينيات على مشهدين في الشارع السوري: صور باسل الأسد، وصور حافظ الأسد، لا شيء آخر يخرج عن هذا. كانت الصور مُكلفة أحياناً، فامتلأت الشوارع بشعارات البعث وصورة حافظ الأسد التي تُصنع عن طريق الشكل القياسي ورش الجدران بحبر يعلق على الأحجار والأبنية.
بين الصور المُكلفة والصور العادية، امتلأت سوريا بملايين الصور والمطبوعات والغرائز القماشية، كانت صورة حافظ الأسد أشبه بالأيقونة، وكذلك صور ابنه، باسل الأسد. ظاهرة ترتبط بالصنمية في وضع الصور، خاصة في أماكن الانتظار الطويل أو القصير. في علم النفس، يمكن أن نُسمي هذا بعبادة الشخصية أو التقديس الأيقوني، حيث تُستخدم هذه الصور لتعزيز الهيمنة والسيطرة الثقافية والسياسية، مما يعزز الارتباط النفسي بتلك الشخصيات وتقديسها.
“الهلع الرمزي” وطاعة الأيقونة حد “العصيان”
وصل بشار الأسد إلى السلطة عام 2000 بتعديل دستوري تم في غضون أيام، وانتشر حينها ما مفاده أن “الرئيس الشاب” لا يحب أن تنتشر صوره أبداً، كما كان الحال في العصر السابق، لكن كان لهذا “الأمر” أثر عكسي، فانتشرت صور بشار بشكل جنوني. وفي لقاء لي مع صاحب مطبعة أكد لي أن المخابرات طالبته بطباعة عدد كبير من صور الرئيس باسم شركته.
خالف السوريون الأوامر الرسمية حينها، وأفرطوا في الطاعة حد “العصيان”، فما حاولت السلطة فرضه، تم عكسه بشكل كامل وبجنون، وجد الناس في معارضة السلطة فرصة لقول “لا” بطرق مبتكرة. فما إن شاع أن الابن لا يرغب في نشر صوره، قاموا بنقيض ما أراد النظام، مشككين في مصداقية هذه الروح التي حاول النظام تكريسها. كان هذا جزءاً من الاعتياد على الصنمية والتكريس.
لم يتّبع الأسد الابن أسلوباً تقليدياً في صناعة ثقافة الصورة واستعمار الفضاء العام، بل سعى إلى تحويل القضايا الاستراتيجية الكبرى إلى تجربة فردية وجماعية تربط القائد بكل مواطن سوري.
كان هدفه من هذا النهج القائم على احتكار “كل شيء” بيد “الرئيس”، وتحويل صورته كمعارض لاحتلال العراق مثلاً، إلى حالة من التماهي الشعبي مع المواطن العادي، مما أذاب رأس النظام في كل فرد، وهكذا، تحول الاستثمار في الدعاية الشخصية إلى نوع من النرجسية المتضخمة، التي تجعل كل فرد يشعر بأنه جزء من هذه الصورة الشاملة، إن تبنّى سرديتها.
احتلت صور بشار الأسد الفضاء العام، وأصبح تبنّيها شكلاً من أشكال الطاعة والحظوة، وخلقت بيئة تُستبعد فيها الآراء المختلفة، ولم يكن الهدف تحويل قضية وطنية مشتركة كغزو العراق، إلى مبدأ يوحّد السوريين، بل دفعهم إلى التماهي مع شخص الرئيس، فالوقوف خلف القائد وتقديس صورته هو شأن شخصي لكل فرد، يعبر عن توافقهم معه وانتمائهم إليه، الشأن الذي يتجلّى في شعار”منحبك” الذي أُطلق في حملة إعادة انتخاب بشار الأسد عام 2007، صيغة “نحن” في الشعار تعني “الجميع”، الجميع الذي تفسره الأغنية بـ”منحبك لأنك منا ونحنا منك قائدنا موحدنا أســــــدنا”.
شعار “منحبك” والهلع الرمزي الذي رافقه، كان رداً على اغتيال رفيق الحريري عام 2005، وانسحاب الجيش السوري من لبنان، فزادت مخاوف النظام من التهديدات الموجهة إليه، مما اضطره إلى السماح لمئات المؤسسات الإعلامية بالدخول إلى البلاد لتجنب العزلة والانغلاق التام، فزارت أنجلينا جولي وبراد بيت سوريا، وظهرت أسماء الأسد على غلاف مجلة فوغ.
كان النظام السوري مضطراً للحفاظ على توازن دقيق بين الانفتاح على الإعلام والاستماع إليه، وبين توجيه كل شيء لخدمة صورة واحدة: الدفاع عن سوريا. تحولت مغامراته في لبنان إلى موقف دفاعي تماهى فيه الشعب مرة أخرى مع النظام، مما أدى إلى انتشار ملايين الصور للرئيس في الشوارع ودفع التجار إلى المساهمة المالية في هذه الحملة الدعائية، لتعزيز حضور النظام وصورته بشكل خاص، خاصة في مناطق الساحل، في تأكيد لسيطرته الرمزية وبشكل يخالف التوقعات الطبيعية.
هذه السياسة، وفقاً لتحليل ثيودور أدورنو، تعكس تحريف الفردية، حيث يتم توجيه الوعي الفردي ليذوب في رمزية القائد، مما يجعل دعم النظام وتأييده ليس مجرد فعل جماعي، بل شعور شخصي يعتقد كل فرد أنه جزء من الصورة الأكبر، التي تتحكم بالنفوس وتخدعها بأن النظام يجسّد إرادتها ويتماهى معها.
برز أيضاً حسن نصر الله، الحاضر في سوريا قبل حرب تموز/ يوليو، وفي زمن الوصاية السورية على لبنان، حين كانت التلفزة اللبنانية تعرضه كبطل ومحرر خلال فترة سيطرة النظام السوري على لبنان. مع ذلك، لم تكن صور نصر الله منتشرة بشكل كبير باستثناء بعض الصور المعلقة على سيارات الشبيحة وبعض المحلات والبيوت، وبشكل محدود في مناطق الأغلبية العلوية فقط.
ظهر نصر الله بشكل واضح في الأغاني الشعبية التي انطلقت من الساحل السوري، حيث كانت البيئة الأقرب للنظام، وهي الطائفة العلوية، تُعبّر عن إعجابها به وتغني له، ليضاف حسن نصر الله والتغني به إلى رأس المال الرمزي للفرد، وتعزيز الإحساس بالتمثيل والوجود، ويعبّر عن التماسك والتضامن الطائفي.
نصر الله… “المُنتصر” والأسد المقاوم من دون رصاص!
كان السوريون يدركون تماماً أن جرحهم من إسرائيل لم يلتئم؛ فعلى عكس مصر التي عاشت بعد حرب 1973 شعوراً بالنصر، لم يمتلك السوريون هذا الإحساس. كان انتصار عام 1973 محل شك لدى الكثيرين، خاصة مع تهافت الدول العربية لإنقاذ دمشق، ثم جاءت الخسارة الكبرى في الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، حيث تلقّى السوريون ضربات موجعة. لكن نصر الله، وبأيدي “المقاومة” اللبنانية، حوّل إسرائيل إلى عدو مهزوم وفقاً لما عكسه الإعلام! ما جعل كل سوري يشعر بأن نصر الله قد استعاد لهم جزءاً من كرامتهم وشعورهم بالانتصار.
بعد حرب تموز/ يوليو 2006، أسس النظام السوري تضليلاً جماعياً حول نتائج الحرب، محولاً دمار لبنان وتضحيات المقاومين اللبنانيين إلى تراث فكري و إيديولوجي رمزي. استغل النظام “الانتصار “الذي حققه “حزب الله” ليجعله نصراً شخصياً للأسد، مستفيداً من كراهية السوريين لإسرائيل وخيباتهم المتكررة أمامها، صادر النظام مفهوم السياسة ضمن حقل رمزي ودعائي لفكرة “المقاومة”، حيث تلازمت صور نصر الله والأسد، مما خلق تقديساً رمزياً هائلاً لهما.
أصبحت سوريا تُعرف بدولة “المقاومة” من دون أن تطلق رصاصة واحدة على إسرائيل، وهو ما أثار السخرية لدى الكثيرين؛ فقد اعتبروا أنه من المفارقة أن يتم تبنّي أيديولوجيا مقاومة في بلد لا يخوض حرباً، بينما الجولان القريب يظل ساكناً بلا قتال. تضحيات أبناء لبنان هي التي صنعت شعبية الأسد، في وقتٍ كان النظام يحوّل هذا التوجه إلى أداة لتعزيز شرعيته وسيطرته.
اكتسب نصر الله بُعداً هائلاً في المتخيل الرمزي لدى فئة كبيرة من العلويين، وبدأ فنانون مثل علي الديك وأبناء جيله بإدراج نصر الله في الأغنيات، كرمز للهوية والفخر. في سوريا، بدأت أسماء نصر الله ونبيه بري تتردد في أوساط الفتيان والشباب عبر الأغاني الشعبية، حيث عبّرت هذه الأغاني في كثير من الأحيان عن اهتمامات الضباط والرتب العسكرية الصغرى، واتخذت آليات التعبير عن الفرح أشكالاً ذات طابع طائفي.
تجاوزت هذه الأسماء حدود الدفاع التقليدي للمجتمع السوري عن خياراته وآرائه، وأصبحت جزءاً من الوعي الشعبي الذي يعاني باستمرار من انحراف في فرديته. انحدرت السياسة في سوريا إلى مستوى متدنٍ، حيث انتشرت ألحان بسيطة وموسيقى إيقاعية اجتاحت المجتمع بسرعة، وأصبح نصر الله مرتبطاً بآل الأسد في كل احتفال عام أو خاص، مما سهّل إقامة هذه الفعاليات وتعزيز حضورها.
كانت الأعراس والحفلات السورية في عهد حافظ الأسد مُلزمة بذكر القائد بدعاء جاد ومهيب، حيث كان الشكل الاحتفالي يفرض ذكره كرمز مقدس. أما في عهد بشار، فقد أُدخلت أسماء أفراد العائلة، مثل حافظ، بشار، وماهر في الاحتفالات، بأسلوب أكثر ليونة وسلاسة وبساطة. كان اسم حافظ الأسد ثقيلاً ولا يقبل شريكاً، لكن في عهد بشار، تم اعتماد استراتيجية دعائية جديدة تعتمد على تعزيز الروابط مع منظومة المقاومة في لبنان، مما شكّل تحولاً في الأسلوب الدعائي.
والمفارقة تكمن في أن تلك الحفلات والأغاني تجاهلت المقاومة العراقية وأبطالها الذين واجهوا أميركا، وركزت فقط على نصر الله والمقاومة اللبنانية، ليصبح نصر الله رمز الدعاية الكبرى.
يمكن القول إنه مع حرب تموز/ يوليو، انتهى البُعد العاطفي لنصر الله في الأغاني، وبدأت صوره تملأ الشوارع السورية، ليصبح النظام متماهياً معه ويستخدمه في الدعاية الخاصة لشرعنة وجوده. أدرك النظام تماماً كيف يُعيد قيادة الفرد السوري من خلال استغلال رغباته الذاتية، وحاجته إلى “رمز انتصار”.
سوريا الأسد… سوريا الثورة
عاد النظام إلى سياسة “الهلع الرمزي” بعد الثورة عام 2011، دافعاً السوريين إلى إظهار الولاء من خلال وضع صور الرئيس في كل مكان للنجاة من المساءلة. أُجبرت المحلات التجارية على تلوين واجهاتها بالعلم السوري، حتى إن الأبواب الحديدية المغلقة لم تُستثنَ من هذا الإجراء.
في المقابل، انحصرت صور نصر الله بعد أحداث “السابع من أيار” في بيروت، في مناطق الساحل السوري، وعلى واجهات سيارات الشبيحة وبعض المناطق الشيعية المحدودة، مما يعكس تراجع شعبيته في السياق السوري الأوسع.
يمكن فهم المفارقة الطائفية في أن النظام لا يتساهل مع وضع أي رمز من رموز المقاومة الفلسطينية في الأماكن العامة، في حين أن حسن نصر الله وأعلامه فقط هي التي يُسمح بتواجدها، من دون اعتراض من النظام.
أثناء السنوات الأولى للثورة السورية، كان اسم حسن نصر الله يظهر في الحفلات والأغاني في البيئات الشعبية والتجمعات العامة، ليس فقط كرمز للمقاومة، بل كرمز للقوة والجبروت والتمجيد العدواني بالانتماء إليه كوسيلة لإرهاب المجتمع.
لم يكن الهدف تخويف إسرائيل، بل تم الخلط بين معارضي النظام أو المنتقدين لطريقة حكمه وأسلوب حزب الله في لبنان، واعتبارهم “أعداء”، أدخل الشبيحة هذه الرمزية في سياق تهديداتهم اليومية، مستعملين خطابات نصر الله، مثلما في عبارته الشهيرة “ما بعد حيفا”، في الأغاني كشكل من أشكال إظهار القوة والتغني بها.
انتقلت “نشوة النصر” لتلتحم بلغة استعراض القوة، حيث دُمج التغني بالقوة مع لغة الشبيحة وأغانيهم، لتصبح أداة لترسيخ التفوق والسيطرة النفسية على المجتمع.
استغل الشبيحة حسن نصر الله كصنم جديد وقيمة مضافة، محاولين الالتباس بقيمته الأخلاقية عبر التماهي الإسقاطي، حيث أسقطوا كاريزما نصر الله ومكانته الأخلاقية على أنفسهم، وهكذا، اقترن القتل والقمع والرعب باسمه، كما هو الحال مع الأسد.
لم يقتصر دور “حزب الله” على الدعم “النظري”، بل أدخل عناصره إلى سوريا لممارسة القمع وليس القتال فقط، مما ساهم في تآكل صورة نصر الله بين السوريين أنصار الثورة، وبقيت صورته كـ”بطل” محصورة في البيئات الموالية للنظام، التي تتبنّى نصر الله في مخيال ديني متخيل، ووطني لدروه في صد “الإرهابيين” .
لكن، بعد سنوات من تدخّل “حزب الله” في سوريا، بدأ يظهر نفور رمزي وديني بين مقاتلي النظام السوري والبيئات العلوية، التي انضوت تحت قيادات دينية من “حزب الله” المدعوم من إيران. تجلّى هذا النفور بين مقاتلي النظام وأبناء “حزب الله” وفكره، حيث شعر العلويون بتزايد النفور من السلوكيات الدينية الملتزمة لأبناء “حزب الله” اللبناني، التي كانت تختلف عن ثقافتهم وتقاليدهم.
انكفاء صورة نصر الله
مع تصاعد البُعد الذاتي والخصوصي للعلويين تجاه قتلاهم في الحرب، تراجعت صورة حسن نصر الله تدريجياً في المناطق السورية الموالية للنظام، لا سيما في البيئات العلوية. تم إزاحة رموز نصر الله وصوره، مما عكس تغيراً في المزاج العام لهذه البيئات وانفصالها عن الأيديولوجية الرمزية، التي كانت تجمعهم سابقاً مع “حزب الله”.
حدث للسوريين ما يُسمى “النقل الأوديبي الجمعي”، وهي الحالة التي ينتقل فيها المجتمع من تقديس الرموز والآباء البعيدين الخارجيين، إلى تمجيد رموزهم الخاصة التي عاشوا معها وعاينوا قدراتها. أصبحت القرى تملك أبطالها، وفقاً لوصف الأهالي وشعورهم، ولم يعد هناك حاجة لصورة نصر الله للتماهي معه. أدى الارتباط الجمعي للأهالي إلى تعاضدهم في خلق الصور وطبعها وتكريسها كشهداء وأبطال، حتى على حساب صورة الأسد نفسه.
كان على كل هلع رمزي وكل دعاية لا تعبّر عن السوريين وأحزانهم وخساراتهم أن تنتهي. تصاعدت صور الأبناء لتملأ المشهد، وانحسر الاغتراب الذي عاشه السوريون بسبب انغماسهم في القضايا الكبرى والمختلقة من قبل النظام. تلاشت هيمنة السلطة الرمزية تدريجياً، وبرزت بحدة مظاهر تجسد الهويات الذاتية. آلاف الشهداء من البيئة الموالية للنظام أزاحوا أي صورة أخرى من الوجود، مما جعل النظام يفقد أثره الرمزي أمام هذا العدد الكبير من القتلى.
عادت صور نصر الله خلال السنوات الخمس الماضية لتحتل مقدمة بعض سيارات الشبيحة، لكنها سرعان ما أصبحت بالكاد تُرى. دخلت صورة السيد في حالة من التراجع حتى بين مواليه ومُحبيه، حيث فقد رمزيته وسط الآلام الرمزية الهائلة التي عاشها السوريون. لم تعد هذه الصورة تعني للسوريين سوى البحث عن قوت يومهم ومحاولاتهم لفهم معاناتهم المتفاقمة. والمثير للمرارة أن صورة نصر الله لا تزال ملتصقة بشركة تعبئة المازوت التابعة لحيدر الأسد، والمعروفة باسم “الهاشميون”، وهي شركة تدير توزيع المازوت وتنظيم عمل المولدات الخاصة والعامة، وتلجأ للسجن والاعتقال ضد من لا يتعاون معها. هذه النهاية المريرة لرمزية نصرالله بلغت ذروتها مع مقتله في غارة إسرائيلية.
مقتل نصر الله يوضح تماماً مفهوم بورديو عن موت الرمزية؛ تراجيديا انهيار الصورة وفقدانها لمحتواها، ليس فقط بسبب ضعفها، بل نتيجة عدم جدواها وقلة قدرتها على الجذب والانتماء. فقد نصر الله صيته بسبب تموقعه في إيديولوجيا دينية غير جامعة، وارتباطه برفقة ديكتاتور يمحو وجود حتى من يدعمونه.
درج هذا الانمحاء وصولاً إلى منع صوره يشير إلى موت مزدوج؛ فالصورة التي كانت تشكل رمزاً للخوف أصبحت لا شيء، واستخدام الشبيحة القساة لها لم يعد يعني شيئاً للمواطنين العاديين. أما من أحبوه، فقد باتوا يخافون من وضع صورته، وفي الوقت نفسه، صار السوريون يمتلكون رموزهم الخاصة التي تعبّر عنهم، ولم يعودوا بحاجة إليه.