كاميليا، فتاة فرنسية من أصول لبنانية في العشرينات من عمرها، هاجرت إلى فرنسا عندما كانت في الثامنة عشرة. ترتدي نظارات رقيقة ومستديرة، وشعرها يتدلى على وجهها. للوهلة الأولى قد لا تعتقد أنها لبنانية، لكنها تومئ وتشير بيدها بحماسة مثل نساء بيروت أو طرابلس أو صيدا. عندما التقينا كانت في شقتها في باريس، فقد خصصت بعض الوقت خلال استراحة الغداء للإجابة على الأسئلة المتعلقة بتجربتها الصادمة مع سوء الممارسة الطبية وفداحة ما تعرضت له من عدم مهنية في واحد من أكبر مستشفيات بيروت.
في 27 كانون الثاني/ يناير، نشرت كاميليا رداً على فيديو متداول على تطبيق “تيك توك”، طلب من النساء مشاركة تجاربهن الشخصية المتعلقة بتعرضهن لممارسات ازدراء المرأة. ذكرت في ردها ما حدث لها مع جراح تجميل رفض تصغير حجم ثدييها إلى الحجم المتفق عليه قبل العملية لأنه يعتقد أن حجم ثدييها يجب أن يُرضي “الرجل الشريف”. انتشر الفيديو على نطاق واسع، ووصل إلى مليون مشاهدة وحصد آلاف التعليقات من جميع أنحاء العالم، ليعلِمها بأنها ليست وحدها في مثل هذه التجربة التي انتهكت خصوصيتها. وشجعها كثيرون على رفع دعوى قضائية ضد الجرّاح، لدرجة أن بعضهم اقترح عليها إطلاق صفحة لجمع التبرعات لتغطية التكاليف.
“كانت نيتي أن أجيب على السؤال، ولكن التعليقات جعلتني أشعر بأنه كان علي أن أفعل شيئاً حيال ذلك مسبقاً، كما لو كنت أنا الذي فعل شيئاً خاطئاً. شعرت وكأنني الضحية، لذا بطبيعة الحال فسرت كل شيء من منظور الانحياز التأكيدي”.
دون ذكر مكان إجراء الجراحة في مقطع الفيديو الأول الذي نشرته، أشارت شجرة الأرز الذهبية التي تتدلى من عنق كاميلي إلى ما شك فيه كثر من المستخدمين في تعليقاتهم بالفعل.
“وقع ذلك في بيروت عام 2015. لقد كنت حينها في الـ19 من عمري وشعرت بأن الجرّاح فهم حقاً أن الجراحة لم تكن مجرد شيء أريده فحسب، بل كانت شيئاً أحتاجه حقاً. لم أستطع مواصلة الحياة وأنا أبدو بهذا المظهر وأشعر بهذا العبء؛ لقد شعرت حرفياً بثقل ثديي على ظهري، فضلاً عن العبء الاجتماعي الذي فرضه مظهري”.
لأغراض قانونية، امتنعت كاميليا عن ذكر اسم جراحها واسم المستشفى الذي أجريت فيه الجراحة. ولكنها ركزت في حديثها على مدى رغبتها الشديدة في إجراء هذه الجراحة، وذكرت كيف كان كثيرون يعتقدون خطأ، بسبب جسدها، أنها شابة يافعة في العشرين من عمرها بينما هي مجرد فتاة في الرابعة عشرة. فعندما قررت إجراء العملية الجراحية، كان مقاس حمالة صدرها قد وصل بالفعل إلى K، وهو حجم ضخم.
أشارت كاميليا إلى أن أي شخص يعيش في لبنان يعلم أن صناعة الأزياء لا تُلبي احتياجات النساء اللاتي لا تتناسب أحجامهن مع المقاسات الثلاثة التقليدية، وهي الصغيرة أو المتوسطة أو الكبيرة. ولم تبدأ صناعة الأزياء العالمية إلا حديثاً في توفير خيارات مريحة ومناسبة للنساء اللواتي لا يشبهن عارضات الأزياء ذوات القامة الطويلة والأجساد النحيفة، واللواتي يُزينّ مجموعات الأزياء الموسمية على مواقع الإنترنت أو في المجلات. ومزحت قائلةً إنها اضطرت إلى الطلب من أقاربها الرجال شراء حمالات الصدر لها من الخارج.
“أنتِ لبنانية أيضاً. وتعرفين ما هو الوضع”، قالت لي.
أبدى الرجال والنساء القريبون منها رأيهم بشأن قرارها النهائي حول إجراء العملية. وفي حين عبرت النساء عن حزنهن، أو ربما شعورهن بالشفقة الخفية تجاهها، فقد وصف الرجال قرارها مازحين بأنه جريمة.
إقرأوا أيضاً:
“في إحدى المرات سأل أحد الأصدقاء رفيقي في ذلك الوقت عن رأيه في عزمي على إجراء جراحة لتصغير الثدي. إنها النظرة الذكورية ذاتها الراسخة في المجتمع اللبناني وفي الشتات أيضاً، العقلية ذاتها مع اختلاف السياقات”، تروي كاميليا.
وتؤكد أنها تتذكر بوضوح المحادثة التي دارت بينها وبين مساعد الجراح، وهو رجل بالطبع، وإصرارها على أنه إذا حدث شيء غير متوقع خلال العملية، فإنها تُفضل الحصول على حجم صدر أصغر مما طلبت، واستقر الرأي على أن يكون مقاس D. وذكرت عرضاً أن جراحها ومساعده كانا يؤثران باستمرار “المظهر المتجانس” لثدييها بعد العملية، من دون مراعاة ما يعنيه هذا التجانس بالنسبة إلى النتيجة التي ترجوها أو مساعدتها في التخلص مما تعانيه من مضاعفات صحية ومشقة.
بعد إجراء العملية، عانت كاميلي من آلام مبرحة، ما اضطرها إلى تناول أدوية قوية.
“لم أستطع حتى فتح الثلاجة بسبب عملية الشفط”، توضح.
في المقابلة الأولى، دافعت عن قرارها بإجراء العملية وتمضية فترة التعافي في بيروت، فمن الواضح أنها تعودت على ما افترضه الغرباء دائماً أن ما آلت إليه جراحتها كان النتيجة الحتمية لإقبالها على إجراء العملية بتكاليف زهيدة. فقد استعدت لتمضية وقت ما بعد العملية في لبنان، حيث يُمكن أن تساعدها أسرتها في الأعمال البسيطة التي لم تعد لديها القوة للقيام بها، مثل التسوق لحاجيات المنزل أو توصيلها من مكان إلى آخر. وفي غضون ذلك، طُلب منها أن تلتزم الراحة وإجراء فحوص منتظمة لمدة ثلاثة أشهر.
“لم أحصل حتى على حمالة صدر ضاغطة، والتي أعلم الآن أنه كان من الضروري أن أرتديها لأسابيع. بدلاً من ذلك، أوصى الجراح بارتداء حمالة صدر من دون سلك، وحسب”.
“وضع إحدى يديه على صدري وقال: انظري، إنه الحجم المثالي: إنها تلائم يد الرجل الشريف”.
خلال موعد الفحص ما قبل الأخير الذي أجرته كاميليا، أزالت الضمادات الملتفة حول صدرها، ووجدت ندبتين بطول 6 سنتيمتر ظاهرتين بوضوح أمامها. طمأنها الجرّاح مؤكداً أن تلك الندوب ستتلاشى مع مرور الوقت. وبعد ذلك، تتذكر بتوتر، “وضع إحدى يديه على صدري وقال: انظري، إنه الحجم المثالي: إنها تلائم يد الرجل الشريف”.
ساد الصمت لوهلة قبل أن تقطعه كاميليا بابتسامة خجولة. وخيمت حالة من الصدمة للحظات قبل أن تبدأ في الحديث مجدداً. فقد أدركت على الفور أن الندوب ليست المشكلة الوحيدة؛ إذ إن صدرها بالكاد يتناسب مع مقاس DD. وأضافت أن حلمتي ثدييها صارتا الآن أكبر بكثير مما كانتا عليه قبل إجراء العملية الجراحية، ما عرضها لمواقف محرجة. لم تحصل على ما دفعت مقابله، ولكن الجراح برر قراره مجدداً بـ”المظهر المتجانس” لثدييها.
“لا، لقد قمت بعمل سيئ”، قالت له كاميليا.
كان جواب الجراح الوحيد هو أنه عرض عليها إجراء عملية جراحية ثانية، بسعر مُخفض عن تكلفة عمليتها الأولى التي بلغت 6 آلاف دولار.
“أنت لن تلمسني مجددا”، هكذا أنهت كاميليا لقاءها الأخير مع ذاك الجرّاح.
كانت والدتها هي الشخص الآخر الوحيد معها في الغرفة ذلك اليوم، ولذا بموجب القانون لا يمكنها الشهادة في المحاكمة. أخذت كاميلي بضع لحظات لكي تُمعن التفكير في ما تريد قوله بعد ذلك. فثمة تضارب واضح بين القصة والمتحدث والجسد. فمن الواضح أن العواقب المترتبة على إهمال الجراح شكلت علاقتها بجسدها وحقيقتها.
“نفرت من ثديي، ومحوت وجودهما بالنسبة إلي. رأيتهما مجرد زوائد، لن أحلم بحمالات الصدر المثيرة، لا شيء سوى تغطيتهما بشكل كامل. بطريقة ما، أردت التخلص من جسد مُفرط الأنوثة لأحصل على مشكلة أكبر”.
كانت يداها تتحركان بعصبية وغضب أمام الشاشة؛ من الواضح أن كاميليا تلوم نفسها على عدم وجود ما يكفي من الضمانات والوثائق والاتصالات المسجلة التي يمكنها أن تدعم موقفها في المحكمة. وبغض النظر عن مبادرة كاميلي الشخصية، لا يزال الاتهام يقع في نطاق تقارير الأداء المستند إلى الأدلّة في لبنان.
وفقاً لتحقيق أجرته “الجمعية اللبنانية لتعزيز الشفافية” في 2014، لن تُبلغ 82 في المئة من المستشفيات عن الأخطاء الطبية لمجرد خوفها من إلغاء تراخيصها أو تشويه سمعتها. وبالنظر إلى أن 30 في المئة من حالات سوء الممارسة الطبية التي أُبلغت بها نقابة أطباء لبنان كانت نتيجة أخطاء طبية، مثل الإهمال أو التشوّه، لم يكن من المفاجئ تجنّب معظم المرضى الخاضعين للجراحات التجميلية توجيه أي اتهامات لعدم وجود أساس قانوني يمكنهم الاستناد إليه.
لحسن الحظ، تعمل كاميليا الآن بدوام كامل ويمكنها أن تتحمل إجراء الجراحة الثانية. لكنها بعد زيارة جراح مشهور في باريس، أخبرها صراحة أن ثدييها لا يشبهان الثديين، وأخبرها أن معظم جراحي التجميل سيعتبرون حالتها غير قابلة للجراحة. ومع فقدان الإحساس الناتج عن عمليتها الأولى بما يقرب من 70 في المئة، حذرها الجراح من أن العملية الثانية لتصحيح أخطاء العملية الأولى قد تؤدي إلى تلف الأعصاب بالكامل.
أوضحت كاميليا أنها لم تُخبر كثراً من أصدقائها عن تلك الواقعة. وقررت هذا العام فقط أن تعترف أخيراً بأنها ضحية عملية جراحية فاشلة أجراها طبيب مهمل انتهك حقوقها. وقد عزز الانتشار الواسع لتطبيق TikTok، روايتها من خلال دعم الغرباء الذين استمعوا إلى قصتها، وصدقوها.
وبدعم من والدها، بدأت كاميلي تتواصل مع محامين في لبنان لمعرفة تكهّناتهم بشأن موقف الدعوى القضائية ونتائجها المحتملة.
وقد أدى التضخم المفرط الذي تعاني منه البلاد إلى خفض قيمة الليرة اللبنانية 80 في المئة أمام الدولار الأميركي، ومع ذلك، لا تزال مؤسسات ومحاكم لبنان تعمل بسعر الصرف الرسمي البالغ 1500 ليرة لبنانية للدولار الأميركي. حتى إذا تمكنت كاميليا من توجيه التهم للجراح وحكمت المحكمة لمصلحتها، ستصبح التكاليف القانونية أعلى من قيمة التسوية التي قد تحصل عليها. كما أن قانون التقادم في لبنان يتيح توجيه تهمة الإهمال الطبي في غضون أربع سنوات فقط، مع تقديم نماذج الموافقة اللازمة والدليل على التواصل، مع إجراء تقييم فوري للجراحة من قبل طرف ثالث مستقل.
“بعد كل ذلك، كل ما أريده هو أن يكون صوتنا مسموعاً”.
تطويق الضحية
بعيداً من الجانب المالي، هناك دائماً رد فعل عنيف تجاه المرأة التي تتجرأ وتتحدث عمّن اعتدى عليها أو عن تجربتها الشخصية، مما يثير الشكوك لدى من يبحثون عن تطبيق العدالة. تُستهدف العائلات، ويُشكك في نواياهم، وتنتشر نسخة مشوهة من الأحداث حتى لا تعود الضحية قادرة على التمييز بين حقيقتها وتفسيرات الرأي العام.
تبتسم كاميليا وهي تعترف بأن عملية تصغير الثدي لعنة في ظل النظام الأبوي؛ إن رفض النظرة الذكورية للأمور من أجل المنفعة الشخصية شكل من أشكال التحرر يتعذر فهمه على من يتصورون جسد المرأة من ممتلكاتهم. أدّى انتشار عمليات التجميل في لبنان إلى تحويل البلاد إلى عاصمة لتحسين الجمال في العالم العربي. ومع زيادة عدد الممارسين، ومعظمهم من الرجال المستفيدين من النظرة الشرقية والرجعية لطبيعة تلك الجراحات، وزيادة عدد العملاء أيضاً كل عام، يحول التأخّر الذي يعاني منه نظام الاعتماد الوطني من دون تجديد تراخيص العمل بانتظام أو اعتماد مراجعين معتمدين لضمان حماية المرضى من الإهمال، والتشوّه الذي قد يؤدي إلى مضاعفات خطيرة في المستقبل.
هناك نظرة خاصة للجمال سائدة في لبنان، حيث يتوقع الرجال امرأة كاملة بالغة الجمال من الرأس إلى أخمص القدم. والمفارقة، أنه في عصر “إنستغرام”، الذي يتزامن مع موجة نسوية شاملة، وغالباً ما تكون قاسية، اضطرت النساء لإقناع أنفسهن والأخريات بأن العمل على تحسين جمالهن هو تمكين جوهري ومتأصل للاختيار الحر.
في بلد يُروّج فيه “لهيئة المرأة الأميركية الأوروبية” أو المنحنيات الجنسية المفرطة أو إبراز عظام الوجنتين وتقديم نماذج مثل هيفاء وهبي وكايلي جينر باعتبارهما صورة مثالية للجمال، يصبح تنظيم ممارسي جراحات التجميل ومراقبتهم واجباً وضرورة، والتأمين عليهم أيضاً. في معظم البلدان، يعد التأمين على الأطباء ضرورة لأن 70 في المئة من مختصي الرعاية الصحية يواجهون تهم سوء الممارسة الطبية مرة واحدة على الأقل في مسيرتهم المهنية. كما أن غياب التوثيق السريري وتقييمات الأداء وعدم كفاية التدريب الذي يحصل عليه الممارسون يهمل النساء اللواتي يعتبرن الأكثر استفادة من جراحات التجميل في لبنان ويتجاهلهن، وبالتالي هنّ الضحايا الأكثر ضعفاً.
تقبّلت كاميلي هزيمتها. لقد وجدت راحتها في قبول التجربة واعتبارها درساً لما يجب أن يكون عليه العالم للشابات الصغيرات ومشاركة قصتها مع الآخرين. إنها قلقة بشأن المريضات الأخريات لدى ذلك الجراح، اللواتي قد يجدن أنفسهن في موقف مماثل من دون معرفة الأدوات والموارد اللازمة للتحرك القانوني المطلوب في حالة سوء الممارسة الطبية. هذه أول مقابلة تجريها كاميلي مع مؤسسة نشر في الشرق الأوسط، ولم توافق على إجراء المقابلة إلا من أجل نشر الوعي حول الإهمال الطبي المنتشر داخل قطاع الطب التجميلي وتعريف الأخريات بحقوقهن القانونية.
“النساء في لبنان لا صوت لهن. نعتقد أننا نحظى بالتمكين في الشرق الأوسط، لكن هل نتمتع حقاً بأي سلطة أو قوة؟”، تسأل كاميليا.
أما عن كلمات الجراح المروعة، الحاضرة في كل لحظات الصمت خلال المقابلة، قالت كاميلي إنها تعزو قوتها للحديث عن تجربتها إلى ابتعادها من وطنها. واعترفت أنها لم تكن لتنشر مقطع الفيديو على “تيك توك”، لو كانت تعيش في لبنان لأنه لم يكن ليخطر ببالها أن تجربتها مجرد انعكاس لثقافة كراهية النساء والرقابة الذاتية السائدة في البلاد.
وعلى رغم الصدمة النفسية والجسدية لإهمال الجراح وتشوّه جسدها، تتكيف كاميلي مع واقعها. منذ مقطع الفيديو الأول، نشرت إجابات لاحقة على أسئلة طرحها مستخدمو “تيك توك” عن تجربتها ونتائجها. اعترفت كاميلي علاناً بأنها ضحية، وبصعوبة تقبّل واقع مختلف عن النتيجة التي كانت تأملها ودفعت مقابلها. لذا، ناشدت كاميلي الضحايا الأخريات بالعمل فوراً وإجراء تقييم لدى طرف ثالث مستقل لحفظ حقوقهن القانونية. ربما يفسر انفتاح كاميلي ذلك الهدوء المخيف الكامل وراء مناشدتها للتغيير.
“بعد كل ذلك، كل ما أريده هو أن يكون صوتنا مسموعاً”.
إقرأوا أيضاً: