ليس سهلاً أن يكون المرء نائباً عن مدينة شبه منكوبة بالمعنى السياسي والإنمائي كمدينة طرابلس. فعاصمة شمال لبنان حمّالة رموز ومعان ولغويات تنطق بها الحياة اليومية والسياسية والإنثربولوجية بفجاجة. بدءاً من حيطانها التي تحمل كل شعارات المراحل والعصبيات التي عاشتها المدينة المتوسطية، من مناصرة القومية في الستينيات الى حقبة ياسر عرفات خلال مرحلة الحرب اللبنانية مروراً بكراهية نظام الأسد الأب، والشغف بالشيخ العرعور ومشايخ السلفية الشعبية وحركة التوحيد، وصولاً إلى أزقتها وأسواقها المزينة بصور حيتان المال الذين يتحاصصون ما بقي من لحمها الحي، وفوق هذا أسماء بعض مناطقها وهوامشها.
يكفي أن تكون إحدى ضواحي طرابلس الممزقة بمشاهد الفقر، الواقعة على تخوم منطقة البداوي، قد سميت بـ”المنكوبين” لنفهم ماذا أصاب المدينة. يستطيع هذا الحي، الذي يكاد يكون أحد أهم منتجي دفعات الجهاديين الى سوريا والعراق والشيشان، منذ سنوات، أن يفسر حال المدينة وأهلها الذين يعيش نصفهم تحت خط الفقر. وفق دراسة حديثة لـ”الإسكوا” فإن 85 في المئة من سكان المدينة يعيشون ظروفاً صعبة.
ولأن أقدار طرابلس واقعة لا محالة تحت أيدي زعاماتها وصبيانهم، فإن القدر جعل من “زهرة أهل السنة” النائب ديما جمالي، واحدة من أبرز وجوهها السياسية اليوم، إن لم نقل أحد أهم واجهاتها التي يتمسك بها زعيم تيار المستقبل ورئيس الحكومة سعد الحريري، لا بل يدافع عن وجودها ولغتها وخطابها وتصرفاتها بشكل غير مفهوم.
والحريري الذي يبرع في الحاق الخسارات بتياره في طرابلس، منذ اغتيال والده رفيق الحريري إلى اليوم، ما زال يختار بعشوائية ممثلين عن المدينة لا يشبهونها ولا يتلفظون بلغة ناسها ولا حتى نخبتها، وهنا فهو بمكان ما مسؤول عن تهميش هذه المدينة في المشهد السياسي عموماً، وتهميش مطالبها من خلال نواب هم بمثابة “نوائب” تضاف الى ركام ذاكرتها وحاضرها ومستقبلها المحزون.
لا يكفي أن تكون جمالي، حاملة “رزمة” شهادات كي تنطق بلسان حال أهل المدينة وأحوالهم التي تؤول يوماً بعد يوم الى النكبة، ليصير “مخيم المنكوبين” الرديف صورة عنها وعن دوام ما هو موقت فيها.
كان يُراد للمخيم أن يكون في البداية،مكاناً موقتاً للناجين من طوفان نهر ابوعلي عام 1955، وتحول مع الوقت الى مخيم بائس تسكنه عائلات لفظتها الحياة خارج نظامها. سنلحظ لاحقاً أن الحياة شبه المتوقفة في طرابلس، تعتاش على حطام اقتصاد يذوي كل يوم ويوميات ملفوظة من الانتظام العام في البلد.
قد تكون ديما جمالي مثالاً عن “فوضوية” المشتغلين بالسياسة أو المتعاملين مع السياسة من باب التهريج، كونهم دخلوها من باب المتفرجين وأسقطوا في ملهاتها على غفلة منهم. يأتي هؤلاء من تجارب بعيدة من الحنكة والمعرفة الحقيقية ببيئاتهم. والسياسة ليست حرفة سهلة، خصوصاً في مدينة كطرابلس التي عرفت الزعامات ومفاهيم التأييد والتعارض، وصاغت “لبننة” حديثة للعمل السياسي من بابه الحزبي والجمعياتي ولو من باب التقليد والعرف. إلا أن جمالي وما تحمله من خبرة محدودة ومعرفة سطحية عن المدينة، لا تستطيع أن تكون ممثلة عن نسيجها لا السني ولا المتنوع. فهي نائب عن المدينة وليست نائباً عن محيط أو مذهب. ولنفترض أن جمالي اعتبرت نفسها نائباً سنية بالتمام والكمال، فهي لم ثبت أي كفاءة حتى في هذا العصب والمزاج. تبدو جمالي في تصريحاتها غير مدركة للعبة التي أدخلوها فيها، فهي وقعت في أفخاخ جمة، بدءاً من سيرها كطفلة صغيرة خلف أحمد الحريري في رحلته لاجتذاب عاطفة العصب السني اثناء التحضيرات للانتخابات الفرعية، ووصولاً إلى ممارستها التفاعل الأهلي من باب “الغرور”. فحين قالت إن أهل طرابلس بحاجة إلى المال، الذي يوزّع في الانتخابات، لم يكن ذلك سوى استسهال لمعنى التسول السياسي، وشراء الذمم، أو حين طردت شباناً كانوا يحاولون جمع تبرعات، استخدمت جمالي لغة فوقية.
تعليقاتها على حوادث وتحولات، بمثابة كلام في الهواء، وتأتي عباراتها غالباً محملة بالشوفينية والغرور والتعالي والأهم عدم المعرفة وقلة الحساسية. لكن هذه المرة، وقعت النائب، التي قالت مرة إنها “أفهم” منتسب جديد إلى قبة البرلمان اللبناني، في شرك أكبر، فاستعارت بشيء من العبث، جملة من أدبيات حزب البعث السوري وشعاراته في الخلود والأبدية. الجملة ربما استعانت بأحد أصدقاء والدها الراحل رشيد جمالي، من البعثيين السابقين أو القومجيين أو العروبيين والناصريين العالقين في لغة خشبية ماضوية، كي يعطيها شيئاً من كلمة السر للعبور إلى أهلها الذين ما لبثوا أن ملوا من مغالطاتها وأقوالها اللامسؤولة.
هذه الشابة تبدو أنها لا تشبه ما يعاصره شباب هذه المدينة، من فقر وعوز وأيضاً من اجتهاد للخروج من هذا الثغر الذي تحدثت عنه كأنه آت من زمن بعيد. زمن انتصارات وخيبات وآمال لم تتحقق للأسف ويعلكها جيل من المنسيين في المدينة فوق أرصفة المقاهي التي تموت فيها الخطى ويحيطها العجز. هي مدينة كانت حاضنة يوماً ما لكل الطوائف والأحزاب والتكتلات والفئات والمذاهب، لكنها لم تعد. هي اليوم كما أراد الزعماء التلميح، مدينة أهل السنة ونجحوا. ثم أعادوا انتخاب ديما جمالي وسموها “زهرة أهل السنة”. الزهرة التي ستفوح، بلغة إنشائية تشبه الى حد، ما ينطق به جيل المنسيين في المدينة من أرباب الناصريين والقومجيين أو من الملتحقين بالسلفية وتيارات دينية لم تصلح من حال المدينة، لا بل أعادتها الى الوراء واستفاد من موجاتها أفراد وزمر وعائلات، فتحوا دكاكين استشفائية وجامعات ومدارس إسلامية لا تزال تؤسس لأجيال من المبتعدين من التنوع ومفاهيمه، والمبتعدين حتماً عما تحاول ترويجه جمالي في تغريدتها السوريالية عن أن المدينة حاضنة للجميع.
تقول جمالي في تغريدتها إن المدينة “… ثغر من ثغور الامتداد الحضاري العروبي ورسالته الخالدة الداعية إلى صراط ربها المستقيم”، مستعيرة من حافظ الأسد تعبيره الشهير “الرسالة الخالدة”، ومن البعث هذه الأبدية، ثم تستعير من مشايخ السلفيين الحديث عن الصراط المستقيم. شيء من الايمان والخلود يتخالطان في خطابها التويتري، ما يشي بنفحة ماضوية تلك التي كانت محافل القومجيين والناصريين والصداميين من محبي الشعارات الفضفاضة تتمجد بها. ولا يبدو أن جمالي قد وفقت هذه المرة في تجميل صورتها لا طرابلسياً ولا لبنانياً، فالتغني بمدينة طرابلس بأنها حاضنة للمسيحيين هو في الحقيقة تغن مبالغ فيه. فالمسيحيون يغادرون بصمت ويبيعون شققهم ويشترون في مناطق الكورة وزغرتا ويبتعدون إلى حدود البترون وجبيل، وأوقافهم تباع بالصمت أيضاً. ولغة التعصب والمذهبية خانقة في المدينة وهي عصبها المشدود. وشبابها يراهن بعضهم على لغة داعشية، هي بالتأكيد ليست لغة عامة لكنها مضمرة وموجودة، ويستغلها البعض كما الحال في بعض أفكار الداعشيين، وليس آخرها ابن المبسوط الذي أعاد المدينة الى حقبة ليست بعيدة من حوادث الأسواق الداخلية وزمن تظاهرات أهالي الموقوفين الإسلاميين وارتداداتها مع الحدث السوري.
تظهر تغريدة جمالي كم هي المسافة شاسعة بين شبان وشابات المدينة وبينها، فهذه الشابة تتحدث بلغة لا تشبه ناس طرابلس، لا من باب العصب السني ولا من باب الانفتاح على الآخر، هي فقط لغة ركيكة تستعير من آخرين مفرداتها، كما استعارت جمالي من حافظ الأسد “الرسالة الخالدة”.