في سياق تاريخي وسياسي مختلف عن تسعينات القرن المنصرم الذي كتب فيه كتاب “القسوة والصمت”، يعود الكاتب والمفكر العراقي كنعان مكية الى الكتابة عن القسوة في العراق والعالم العربي، مركزاً هذه المرة على مصادر القسوة وشرعنتها بدل التركيز على ممارستها. ولدت فكرة هذا الكتاب الجديد “في القسوة” في زمن بلغت فيه قسوة تنظيم “داعش” الوحشي الى ذروتها، وبدأت آثار تغير المناخ تهدد أجزاء واسعة من العراق بالجفاف والغرق، ولم يكن المجتمع خرج من رعب القتل على الهوية بعد، ناهيك بتحولات جذرية في الذوات العراقية، بسبب استلاب الحقوق واستفحال الفقر والثأرية السياسية. وحالت هذه الأسباب دون ترميم ذاكرة المجتمع المرّة جراء قسوة البعث التي استمرت أربعة عقود (1963-2003).
هناك صورة تربط هذا الكتاب الجديد بعام 1963، ظنّ الكاتب أنه نسيها بعدما رحل عن بغداد، لكنها تركت أثراً بالغاً في نفسه، أخرجته من عالم قراءة الروايات ووضعته في قلب تاريخ القسوة. إنها كانت صورة الرئيس العراقي المقتول عبدالكريم قاسم، أسس الانقلابيون البعثيون من خلال عرضها على شاشات التلفزيون، مقدمات قسوة سياسية استثنائية في البلاد. مثل كثر من العراقيين، شاهد كنعان الشاب في تلك الفترة (14 عاماً)، صورة الرئيس القتيل دون إدراك بما رآه، مصدوماً بوقع المشهد المأساوي من دون فهم خلفياته ودوافعه. كان الرئيس الذي يدعمه الناس عبر التظاهرات، ويصنع له الطلاب المناشير المدرسية، في وضع لا يُصدق. جسد مُغربل بالطلقات على مرأى الجميع. لقد عرض البعثيون تلك الصورة بشكل متتال بغية غرس الخوف في نفوس الناس. “كانت المرة الأولى أرى فيها إهانة جثة إنسان بتلك الطريقة البشعة، لم أستوعب ما حصل أمام ناظري وبقي شيء من الصورة في اللاوعي، وحين بدأت أكتب (جمهورية الخوف) في بداية ثمانينات القرن المنصرم، استعادت الصورة نفسها بالكامل كما رأيتها في شبابي”، يقول مكية.
وثق الكاتب ذلك المشهد في كتاب “جمهورية الخوف”، لكنه حين عاد إلى البلاد بعد انتفاضة عام 1991، تلمس آثار قسوة النظام البوليسي على المجتمع بالقرب من الضحايا. وكان ذلك كفيلاً بالكتابة ليس عن ممارسات جمهورية الخوف، بل عن آثارها على المجتمع والثقافة وانماط الحياة، الضحايا تحديداً. من هنا بدأ تكريس كتاب كامل عن القسوة كإجراء سياسي روتيني لدى أجهزة نظام البعث ضد المجتمع بعنوان “القسوة والصمت”. لقد أراد القول إن الذين خضعوا للتعذيب سيبقون معذبين مدى الحياة، الأمر الذي دفعه بعد 2003 إلى العمل على تشييد متحف لذاكرة الضحايا في بغداد قبل أن تغرق البلاد مرة أخرى في دوامة العنف والقسوة. وقد تناول مكية في الكتاب ذاك، تفاصيل مخيفة على لسان الناجين من عمليات الأنفال بحق سكان الكُرد في كُردستان والمعارضين السياسيين في المعتقلات.
فوضى الحرّية
بعد سقوط نظام البعث وانهيار مؤسساته الأمنية عام 2003، وأثناء انشغال المجتمع العراقي بذاته المتفككة بين أسوار الماضي و”فوضى الحرّية”، يُقتل رجل الدين الشيعي البارز عبدالمجيد الخوئي في النجف على يد من ذاقوا مرارة القسوة في عراق عهد البعث. يغير هذا الحدث لدى كنعان مكية نطاق البحث عن مصادر القسوة ليتعدى السياسة ويشمل الآداب والفنون والدين والرذائل العادية. ويكتب إثر ذلك رواية “الفتنة”، إذ يصبح فيها، مَن أسس ذاته على خطاب المظلومية، ممارساً للقسوة.
يدفع هذا التحول في شخصية المُعَذّب والمسخ الذي تتعرض له، الكاتب الى البحث عن سمات تُنسب للمظلوم وكأنها متأصلة فيه وتجعله قدوة أو مصدر إعجاب في المخيلة العامة، بينما هي في الأساس سمات “إنسان تعيس ومهشم ومكسور من الداخل”. ويشكل هذا التحول جزءاً مهماً من الكتاب الجديد الذي يميل بحسب الكاتب، إلى بيان أسس شرعنة القسوة عبر التاريخ في الأفكار والثقافة والدين والمشاعر، بدل التركيز على ممارسات القسوة التي وثقها في كتاب “القسوة والصمت”.
على رغم الألم فردي، إلا أن تأصيله في هوية “الجماعة” الدينية، العقائدية، الاثنية والمذهبية يجعل من المظلومية القاسم المشترك بين أفراد جماعة ما للسيطرة على الحكم، أو معارضة الحكم، أو لمواجهة جماعات أخرى.
يشبّه كنعان مكية، ألم الانسان المظلوم بألم أسد مُعذب في منحوتات آشورية قديمة، يستفرغ الدم جراء اختراق السهام جسده. هذا العرض البليغ للقسوة الممارسة ضد حيوان، والذي حوله نحات مجهول داخل الإمبراطورية الآشورية إلى سرد بصري جليّ، ليس سوى تجسيد لكلمات بقيت على منقوشات الملك الآشوري اشور بانيبال: “أما أولئك الرجال… الذين تآمروا ضدي، فقد قطعت ألسنتهم… أما الآخرون الذين ظلّوا على قيد الحياة، فقد حطّمتهم… ها أنا ذا أطعم أشلاءهم للكلاب، للخنازير… لطيور السماء وأسماك المحيط”. ما زالت هذه التعابير سارية في الثقافة السياسية العربية.
يشبّه كنعان مكية، ألم الانسان المظلوم بألم أسد مُعذب في منحوتات آشورية قديمة، يستفرغ الدم جراء اختراق السهام جسده
الأسد المُعَذّب
يبدأ مكية كتابه “في القسوة” بعرض شامل لجدارية الأسد المعذب والنص الآشوري المذكور، مشيراً إلى أن الألم الجسدي ليس له مضمون مرجعي خارج الذات، الذات البشرية أو الحيوانية، إنما يتم الاستثمار في حالة الذات الأولى بتحويلها أيقونة للمظلومية الدائمة بين الجماعة، فيما تبقى الذات الثانية، كما في حالة الأسد المعذب، في تخوم وحدانية المتألم. وفي الحالتين يبقى جدار الألم عازلاً بين الضحية والمتضامن معها من جانب وبين الضحية والجلاد من جانب آخر، ذاك أن الذات المعذبة، وإن رُفع شأنها في الحالة البشرية للحفاظ على هوية الجماعة، تبقى منفردة بعذاباتها.
من هذا المنطلق، يعود الكاتب إلى مراجعة ما كتبه عن القسوة في العراق، وإعادة صوغه، ليبحث عن مصادر إضافية لها في الثقافة العربية كرذائل عادية تُلصق فيها الهويات بمظلومية الجماعة. كما تعد الخيانة في الأنظمة الشمولية أو داخل الجماعة مصدراً آخر من مصادر القسوة، وبذلك تستجيب الثقافة السياسية العربية بحماسة أكبر لرذيلة الخيانة منها لرذيلة القسوة. ولا يمكن بطبيعة الحال نسيان مصادر أخرى متمثلة بالفقر واستلاب الحقوق والتجييش الديني.
إن الألم الجسدي الذي عبر عنه الفنان الآشوري في منحوتة الأسد المعذب، هو إلحاق الألم بجسد فرد أو أفراد أو مجموعة بالدرجة الأولى. هو إفناء الجسد واشباعه ألماً دون موته، وسد طريق ترميم الألم عليه، ذلك أن الإنسان لو تخلص من العذاب الجسدي، سيتدبر أمره مع العذاب النفسي، وبذلك يريد الكاتب القول إن كتابه الجديد لا يتمحور حول ممارسة القسوة على العقل، بل حول الألم الجسدي الذي يرعبنا جميعاً. ويستشهد في هذا السياق بقول للشاعر الإنكليزي أوسكار وايلد: “الله خلّصني من الألم الجسدي، وسأتدبر أمري مع الآلام النفسية”. ويقوم على أثر ذلك، بمسح لأعمال روائية وفنية عالمية ونصوص دينية ونقاشات بين المثقفين العرب، بغية الكشف عن مكامن القسوة طالما غابت عن النصوص الفلسفية والفكرية.
تستند فكرة الكتاب إلى وطن كان موضوع التحقق من إمكان استعادته كمكان يعيش فيه الجميع من دون اللجوء إلى القسوة.
فكرة الكتاب، فكرة العراق
باستثناء السنوات الأولى من شبابه، عاش مكية حياته خارج العراق، لكنه لم يتوقف عن الكتابة عنه يوماً. وقد نسأل هل هذا الولع بالكتابة عن العراق، هو دفاع عن المكان الذي ولد فيه الكاتب أو محاولة لاستعادة الذات والصراخ ضد ممارسة القسوة ضد جسد الرئيس المقتول؟ إنه سؤال لا تمكن الإجابة عليه، لأن العراق بالنسبة إليه، “لا شيء وكل شيء”. لا شيء، لأنه استمع لشهادات ممن ذاقوا مرارة القسوة، وقد يبقون مكسورين ومحطمين من الداخل طوال حياتهم، وهل يمكن أن يجعل الوطن المنتمين إليه أدوات روتينية لممارسة القسوة؟ يبرز هذا السؤال لدى الكاتب بعد الاتصال المباشر مع ضحايا قسوة البعث بعد انتفاضة 1991، وهو العام الذي أحدث صدمة في ذاته حيث اكتشف حجم القسوة بحق العراقيين. كما يرتبط “اللاشيء” باستحالة ترميم ذاكرة “معذبي الوطن” في ظل استمرار تأصيل الشعور بالمظلومية، حتى بعد الخلاص من النظام الشمولي. أما فكرة أن العراق هو كل شيء، فتعود إلى أنها ترمز إلى مكان ما وأنها مرتبطة بنوع من الشعور بالحنين لنمط حياة حدث في المكان ذاته. إنها شيء شخصي وفردي وحميمي.
تستند فكرة الكتاب إلى وطن كان موضوع التحقق من إمكان استعادته كمكان يعيش فيه الجميع من دون اللجوء إلى القسوة. من هنا تبدو فكرة العراق، والتي عبّر عنها بصيغ كثيرة، المساحة التي يريدها الكاتب لتحويل القسوة من رذيلة عادية تُمارَس في العلن والخفاء، إلى وعي بالرعب الذي يشكله إفناء الفرد والمجموعات من العالم من دون الموت، ذلك أن الإيمان بالإنسانية كما يقتبسه مكية من الفيلسوف النمساوي جان أمري، “انكسر مع الصفعة الأولى، قد هُدم تماماً مع التعذيب، ولن يُستَرَد ثانية”.
*صدر كتاب “في القسوة” عن دار الجمل في بيروت- 2020