fbpx
ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

عن ماذا نكتب؟ : أسئلة الفنّ والثقافة في زمن الجحيم

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

في اعلى طبقات الجنّة يتربع كل اركان الطبقة السياسية الفاسدة بزعمائها وقادة احزابها وأمراء حربها وأصحاب المصارف ومعهم برتبة ادنى يقف الفاسدون والتجار المحتكرون والمرتشون والمرتزقة البلطجيون وكل صنوف المجرمين يرفعون شعارهم المُفضل “من بعد حماري ما ينبت حشيش”.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

يؤرقني هذا السؤال: عن ماذا نكتب في الفنّ الثقافة ؟ 

وهل من ضرورة بعد لهذا النوع من المقالات في بلد تنهار فيه كل مرتكزاته السياسية والاقتصادية، ويتحلل النظام والقانون فيه كجيفة ميْتة. كيف نكتب في شؤون الثقافة لشعب تقطّعت به كل سُبل العيش الطبيعي والكريم، فأمسى الفن في آخر سلّم أولوياته، لا بل يكاد يصبح غير منظور في كل ما يعيشه هذا اللبنان من مآسي وانهيارات. لعلّ القراءة كما الكتابة في شؤون أحوالنا اللبنانية أضْحتا عبئاً ثقيلاً ومُضنياً على القارئ والكاتب معاً.

القارئ من جهته يتوه مُتعباً في معاني الكلمات والأفكار المُتكررة، وكأنه يمشي في متاهة لا مدخل فيها ولا مخرج. هي متاهة التفتيش عن أمل في دلالات المعنى، أو عن بصيص ضوء يصدر من فكرة ما تودي إلى الخروج من نفق الأزمات المظلمة. أمّا الكاتب من جهة اُخرى فيقف حائراً ومتسائلاً عمّا سيكتبه في مقالٍ تالٍ؟ وحين يقرر الكتابة متجاوزاً حيرته ومُدركاً أن غريزة البقاء على قيد الحياة هي ما تدفعه لهذا، لا ينتبه انه يستعيد ما كتبه سابقاً إنما مع بعض التعديلات في مواضع الكلمات والجُمل ليس إلّا.

بيد أن كتابة المقال في الثقافة والفن بهذه المرحلة المُعقّدة من حياة اللبنانيين، تبدو أكثر المقالات استعصاء على الإجابة عن اسئلة: عن ماذا ولماذا ولمن سنكتب…؟ وبالتأكيد لا ينتج هذا الاستعصاء عن ندرة في المواضيع والاُطروحات الممتلئة بالاشكاليات، كما وليس ايضاً في كوْنِ ما كُتب حتى الأمس القريب قد انهى مواضيع الكتابة وختم احتمالات اطروحاتها ختماً مُبيناً.

انما قد يُعزى سبب السؤال واستعصاء الإجابة معاً إلى شعور مُقيم بالعبَث واللّا جدوى. ولا بأس عليّ من الاعتراف بأن هذا الشعور يخالطه شيئاً من اليأس. وبالطبع هو ليس يأساً على المستوى الشخصي يستدعي مساعدة نفسية عاجلة.

ولكني اعتقد انه يأس من قدرة الكتابة في شؤون الفن والثقافة على إحداث تغيير ايجابي او حتى ثقب بسيط في جدار الأزمات المزمنة التي يعاني منها المجتمع اللبناني. وبكلام آخر، فالاستعصاء لا يأتي من الثقافة بحد ذاتها والكتابة فيها، إنما من تركيبة المجتمع اللبناني بكل بنيته السياسية والاقتصادية والاجتماعية، التي لا شكّ انّ الاستعصاء هو أساس مشكلته وجوهر نظامه السياسي. مجتمع لشعبٍ مفكك الأوصال تُسيّره عادات عشائرية وغرائز طائفية، ونظام سياسي تتحكّم به منذ عقود طويلة طبقة سياسية تتصف بالفساد والفشل ولا مبالغة بإضافة صفة الإجرام لها.

فكيف تستوي كتابة المقالة الثقافية في ظل مجتمع، مفكك ومخطوف، ينوء تحت عبئ سُلطة أوليغارشية مُستبدة ومُجرمة تعلن بفخر “لشعبها العظيم” عن الوصول حتماً الى الجحيم وبئس المصير. 

والإقامة في الجحيم تأتي (وعلى ذمّة المُبشّرين) مباشرة بعد الموت، وبعد حياة مليئة بالذنوب والخطايا الكبرى ومخالفة كل تعاليم الأديان السماوية. فماذا ارتكب هذا الشعب اللبناني ليستحق هذا المصير البائس؟

إقرأوا أيضاً:

يُحيلنا الحديث عن الجحيم إلى تلك الرحلة التي قام بها الشاعر الإيطالي “دانتي أليغري” الى الجحيم من خلال كتابه الشعري الملحمي “الكوميديا الإلهية”. وشتّان بين جحيم دانتي وبين الجحيم الذي اوصلتنا اليه الطبقة السياسية اللبنانية الحاكمة.

في رحلته من أجل لقاء حبيبته “بياتريشيا” التي ماتت وانتقلت الى الفردوس، يعبُر “دانتي” محطّات ثلاثة: الجحيم ثُمَّ المطْهر ليصل اخيراً الى الجنة. والجحيم كما تخيّله الشاعر، مؤَلَّف من طبقات كثيرة. كل طبقة مُخصصة لنوع من أنواع الخطايا الكثيرة ومنها: الكذب والممالأة والرشوة والطمع والحسد والسرقة والقتل والاغتصاب…وبقدر ما عظمت خطيئة الفرد بقدر ما اقترب أكثر من مركز الجحيم فكان عذابه بالنار أشد وأقسى. اما المطهر فهو مخصص لذوي الذنوب الصغيرة، فلا يوجد فيه عذاب وألم، بل ندم وتأمُّل وتطهُّر من هذه الذنوب على امل دخول الجنّة حيث يتربّع الصالحون الاتقياء والمناضلون في سبيل الخير والحرية.

امّا الجحيم اللبناني، والذي بشّرنا به أحد اركان السلطة، فهو نسخة مقلوبة راساً على عقب، من جحيم دانتي. والرحلة إليه تبدأ من الفردوس ومن ثم المطهر لتنتهي في الجحيم.

في اعلى طبقات الجنّة يتربع كل اركان الطبقة السياسية الفاسدة بزعمائها وقادة احزابها وأمراء حربها وأصحاب المصارف ومعهم برتبة ادنى يقف الفاسدون والتجار المحتكرون والمرتشون والمرتزقة البلطجيون وكل صنوف المجرمين يرفعون شعارهم المُفضل “من بعد حماري ما ينبت حشيش”. هؤلاء يشكّلون ما نسبته الخمسة في المائة او اقل بقليل من مجموع الشعب اللبنانيّ، ويعيشون في نعيم الجنّة آكلين شاربين ما لذَّ وطاب وغارفين منها كل ما يحلو للنفس من طيب عيش وملذّاتٍ لهم ولعائلاتهم.

المطهر في النسخة اللبنانية كمحطة تطهرية جرى إغلاقها بعيد نشوء الجمهورية اللبنانية بوقت قصير. وقد استعيض عنها بمحطة لم يُتفق على تسميتها بعد، ولكن من مهامها تأهيل البعض للدخول الى الجنة عبّر مباراة تتم بين الحين والآخر في مواضيع مختلفة مثلاً: مباراة الاستزلام لامراء الجنّة، أو مباراة الفساد في الدولة ومُناهبة المال العام، وايضاً ثمة مباراة حول ابتكار الفتن الطائفية وشد العصب المذهبي والاستقواء بالخارج والى آخره… ومن ينجح في هذه المباريات التي تقام في كل أوقات السنة يتأهل ليدخل إلى فردوس السلطة الحاكمة مُرددا شعاره الدائم. ولكن في هذه المرحلة الحاضرة ألغيت أعمال هذه المحطة لضرورة إلحاق مساحتها بمحطة الجحيم نظراً لازدياد أعداد المقيمين في هذه الأخيرة، وحتى لا ينفجر الوضع فيؤثر على الكيان ككل.

في الجحيم اللبناني يوجد كل أنواع العذابات ألماً وذُلاً وتتفاوت قسوتها، كلٌ بحسب تصرفاته ووعيه. فالفرد الذي لا يخالف القوانين وينادي بالعدالة والمساواة ويسعى إلى قيام دولة المواطنة المدنية-العلمانية، إلغاءً لكل تمييز طائفي ومذهبي وجندري، مكان هذا الفرد يقع في اسفل طبقات الجحيم وأكثرها عُرضة لشتى أنواع التعذيب ألماً وقسوة.

وقد يكون هذا الفرد قاضياً، معلماً او نجاراً لا يهم، إنما هو بالتأكيد فرد غير مُنتمي إلى الطوائف والمذاهب والأحزاب اللبنانية. هذه الفئة المُتميزة من الأفراد، بذنوبها وخطاياها، هي من الأقليات الموجودة في الجحيم اللبناني ومغضوب عليها دائماً، لذا فمكانها في اقصى ظلمات هذا الجحيم حيث عقابهم ليس فقط ناراً تكوي عقولهم المُفكّرة وسلاسل تُقيّد أرواحهم الحُرّة، بل وايضاً صخوراً من نار يدفعونها نهاراً الى الأعلى لتعود ليلاً فتتدحرج على أجسادهم. انهم “سيزيفيّو” الجحيم اللبناني.

امّا الأكثرية الساحقة من سكان طبقات الجحيم الاُخرى فهُم وعلى الأغلب من المُهمّشين وغير المميزين في طوائفهم ومذاهبهم واحزابهم. رضوا دائماً بأن يكونوا تابعين أو مؤيدين لزعماء طوائفهم وأحزابهم وأمراء الحرب القابعين في الفردوس. يخافون دائما على انفسهم كما على أولادهم من أن يصبحوا افراداً احرارا، فتراهم دائماً يمشون مع القطيع مطالبين بحقوق طوائفهم وحصصها في الدولة. تسمعهم نهاراً يتحدثون علناً عن العيش المشترك أما ليلاً وفي السر فيشحذون السكاكين. ذنوب هذه الفئة العريضة هو الخبث والتذاكي في تقديسها للزعيم وعدم توجيه اللوم والنقد له مهما فعل، فشعارهم الدائم “اليد التي لا تقدر عليها بوسها وادعي عليها بالكسر”. امّا خطيئتها الكُبرى فتتمثل في إعادة انتخابها لذات الطبقة السياسية الحاكمة التي اوصلتها الى هذا الجحيم. لا داعي لذكر عذابات الألم والذل المفروضة على هذه الفئة من الخطأة، فلا شك أنها جليّة في كل تفاصيل عيشهم اليوميّ. وهم على هذا راضون.

دانتي الذي تخيّل الجحيم من خلال ملحمته الشعرية “الكوميديا الإلهية” كان يهدف الى نقد السلطة السياسية والدينية على السواء في زمانه المُنقضي، زمن القرون الوسطى. وقد ساهم بابداعه هذا فيما بعد مع غيره من الكتابات والمؤلفات الادبية بإحداث تغييرات على صعيد المجتمع في اوروپا. ولكن مُبشرنا بالجحيم اللبناني الذي كان قد ساهم بالتضامن والتكافل مع غيره من أركان الطبقة السياسية في اجتراح “المأساة اللبنانية” صنع لنا جحيماً واقعياً مُعاشاً ومُشبعاً بالقسوة والذل.

الفروقات شاسعة وجوهرية بين الجحيمين. جحيم دانتي الذي انطلق من الكوميديا لينتهي إلى خُلاصات تراجيدية تدور حول النفس البشرية، في حين انّ جحيم الجنرال انطلق من مأساة الشعب اللبناني في تفتت دولته وانقسامات شعبه، لينتهي الى كوميديا عبثية غير مُضحكة تتكرر من دون تغيير يُذْكر إلى أبد الآبدين. لعلَّ في تحديدٍ ادق للفروقات الكثيرة بين صورتيْ هذين الجحيمين، تكمن القدرة على الإجابة عن السؤال حول جدوى الكتابة وعن ماذا ولماذا ولمن نكتب.    

إقرأوا أيضاً:

مصطفى إبراهيم - حقوقي فلسطيني | 24.01.2025

فرح أهل غزة المؤقّت والبحث عما تبقّى من ذاتهم

المفروض أن يعود النازحون من الجنوب الى مدينة غزة وشمالها حسب اتفاق وقف إطلاق النار، وهي المرحلة الثانية من الحرب، والبحث عما تبقى من ممتلكاتهم وأملاكهم وحياتهم. في الوقت ذاته، يبحث الذين هُدمت بيوتهم عن أماكن لإيوائهم أو يسعون الى استئجار شقق والبدء من جديد. هي "حرب" جديدة قد تستمر سنوات من إعادة ترميم الذات…
28.06.2021
زمن القراءة: 6 minutes

في اعلى طبقات الجنّة يتربع كل اركان الطبقة السياسية الفاسدة بزعمائها وقادة احزابها وأمراء حربها وأصحاب المصارف ومعهم برتبة ادنى يقف الفاسدون والتجار المحتكرون والمرتشون والمرتزقة البلطجيون وكل صنوف المجرمين يرفعون شعارهم المُفضل “من بعد حماري ما ينبت حشيش”.

يؤرقني هذا السؤال: عن ماذا نكتب في الفنّ الثقافة ؟ 

وهل من ضرورة بعد لهذا النوع من المقالات في بلد تنهار فيه كل مرتكزاته السياسية والاقتصادية، ويتحلل النظام والقانون فيه كجيفة ميْتة. كيف نكتب في شؤون الثقافة لشعب تقطّعت به كل سُبل العيش الطبيعي والكريم، فأمسى الفن في آخر سلّم أولوياته، لا بل يكاد يصبح غير منظور في كل ما يعيشه هذا اللبنان من مآسي وانهيارات. لعلّ القراءة كما الكتابة في شؤون أحوالنا اللبنانية أضْحتا عبئاً ثقيلاً ومُضنياً على القارئ والكاتب معاً.

القارئ من جهته يتوه مُتعباً في معاني الكلمات والأفكار المُتكررة، وكأنه يمشي في متاهة لا مدخل فيها ولا مخرج. هي متاهة التفتيش عن أمل في دلالات المعنى، أو عن بصيص ضوء يصدر من فكرة ما تودي إلى الخروج من نفق الأزمات المظلمة. أمّا الكاتب من جهة اُخرى فيقف حائراً ومتسائلاً عمّا سيكتبه في مقالٍ تالٍ؟ وحين يقرر الكتابة متجاوزاً حيرته ومُدركاً أن غريزة البقاء على قيد الحياة هي ما تدفعه لهذا، لا ينتبه انه يستعيد ما كتبه سابقاً إنما مع بعض التعديلات في مواضع الكلمات والجُمل ليس إلّا.

بيد أن كتابة المقال في الثقافة والفن بهذه المرحلة المُعقّدة من حياة اللبنانيين، تبدو أكثر المقالات استعصاء على الإجابة عن اسئلة: عن ماذا ولماذا ولمن سنكتب…؟ وبالتأكيد لا ينتج هذا الاستعصاء عن ندرة في المواضيع والاُطروحات الممتلئة بالاشكاليات، كما وليس ايضاً في كوْنِ ما كُتب حتى الأمس القريب قد انهى مواضيع الكتابة وختم احتمالات اطروحاتها ختماً مُبيناً.

انما قد يُعزى سبب السؤال واستعصاء الإجابة معاً إلى شعور مُقيم بالعبَث واللّا جدوى. ولا بأس عليّ من الاعتراف بأن هذا الشعور يخالطه شيئاً من اليأس. وبالطبع هو ليس يأساً على المستوى الشخصي يستدعي مساعدة نفسية عاجلة.

ولكني اعتقد انه يأس من قدرة الكتابة في شؤون الفن والثقافة على إحداث تغيير ايجابي او حتى ثقب بسيط في جدار الأزمات المزمنة التي يعاني منها المجتمع اللبناني. وبكلام آخر، فالاستعصاء لا يأتي من الثقافة بحد ذاتها والكتابة فيها، إنما من تركيبة المجتمع اللبناني بكل بنيته السياسية والاقتصادية والاجتماعية، التي لا شكّ انّ الاستعصاء هو أساس مشكلته وجوهر نظامه السياسي. مجتمع لشعبٍ مفكك الأوصال تُسيّره عادات عشائرية وغرائز طائفية، ونظام سياسي تتحكّم به منذ عقود طويلة طبقة سياسية تتصف بالفساد والفشل ولا مبالغة بإضافة صفة الإجرام لها.

فكيف تستوي كتابة المقالة الثقافية في ظل مجتمع، مفكك ومخطوف، ينوء تحت عبئ سُلطة أوليغارشية مُستبدة ومُجرمة تعلن بفخر “لشعبها العظيم” عن الوصول حتماً الى الجحيم وبئس المصير. 

والإقامة في الجحيم تأتي (وعلى ذمّة المُبشّرين) مباشرة بعد الموت، وبعد حياة مليئة بالذنوب والخطايا الكبرى ومخالفة كل تعاليم الأديان السماوية. فماذا ارتكب هذا الشعب اللبناني ليستحق هذا المصير البائس؟

إقرأوا أيضاً:

يُحيلنا الحديث عن الجحيم إلى تلك الرحلة التي قام بها الشاعر الإيطالي “دانتي أليغري” الى الجحيم من خلال كتابه الشعري الملحمي “الكوميديا الإلهية”. وشتّان بين جحيم دانتي وبين الجحيم الذي اوصلتنا اليه الطبقة السياسية اللبنانية الحاكمة.

في رحلته من أجل لقاء حبيبته “بياتريشيا” التي ماتت وانتقلت الى الفردوس، يعبُر “دانتي” محطّات ثلاثة: الجحيم ثُمَّ المطْهر ليصل اخيراً الى الجنة. والجحيم كما تخيّله الشاعر، مؤَلَّف من طبقات كثيرة. كل طبقة مُخصصة لنوع من أنواع الخطايا الكثيرة ومنها: الكذب والممالأة والرشوة والطمع والحسد والسرقة والقتل والاغتصاب…وبقدر ما عظمت خطيئة الفرد بقدر ما اقترب أكثر من مركز الجحيم فكان عذابه بالنار أشد وأقسى. اما المطهر فهو مخصص لذوي الذنوب الصغيرة، فلا يوجد فيه عذاب وألم، بل ندم وتأمُّل وتطهُّر من هذه الذنوب على امل دخول الجنّة حيث يتربّع الصالحون الاتقياء والمناضلون في سبيل الخير والحرية.

امّا الجحيم اللبناني، والذي بشّرنا به أحد اركان السلطة، فهو نسخة مقلوبة راساً على عقب، من جحيم دانتي. والرحلة إليه تبدأ من الفردوس ومن ثم المطهر لتنتهي في الجحيم.

في اعلى طبقات الجنّة يتربع كل اركان الطبقة السياسية الفاسدة بزعمائها وقادة احزابها وأمراء حربها وأصحاب المصارف ومعهم برتبة ادنى يقف الفاسدون والتجار المحتكرون والمرتشون والمرتزقة البلطجيون وكل صنوف المجرمين يرفعون شعارهم المُفضل “من بعد حماري ما ينبت حشيش”. هؤلاء يشكّلون ما نسبته الخمسة في المائة او اقل بقليل من مجموع الشعب اللبنانيّ، ويعيشون في نعيم الجنّة آكلين شاربين ما لذَّ وطاب وغارفين منها كل ما يحلو للنفس من طيب عيش وملذّاتٍ لهم ولعائلاتهم.

المطهر في النسخة اللبنانية كمحطة تطهرية جرى إغلاقها بعيد نشوء الجمهورية اللبنانية بوقت قصير. وقد استعيض عنها بمحطة لم يُتفق على تسميتها بعد، ولكن من مهامها تأهيل البعض للدخول الى الجنة عبّر مباراة تتم بين الحين والآخر في مواضيع مختلفة مثلاً: مباراة الاستزلام لامراء الجنّة، أو مباراة الفساد في الدولة ومُناهبة المال العام، وايضاً ثمة مباراة حول ابتكار الفتن الطائفية وشد العصب المذهبي والاستقواء بالخارج والى آخره… ومن ينجح في هذه المباريات التي تقام في كل أوقات السنة يتأهل ليدخل إلى فردوس السلطة الحاكمة مُرددا شعاره الدائم. ولكن في هذه المرحلة الحاضرة ألغيت أعمال هذه المحطة لضرورة إلحاق مساحتها بمحطة الجحيم نظراً لازدياد أعداد المقيمين في هذه الأخيرة، وحتى لا ينفجر الوضع فيؤثر على الكيان ككل.

في الجحيم اللبناني يوجد كل أنواع العذابات ألماً وذُلاً وتتفاوت قسوتها، كلٌ بحسب تصرفاته ووعيه. فالفرد الذي لا يخالف القوانين وينادي بالعدالة والمساواة ويسعى إلى قيام دولة المواطنة المدنية-العلمانية، إلغاءً لكل تمييز طائفي ومذهبي وجندري، مكان هذا الفرد يقع في اسفل طبقات الجحيم وأكثرها عُرضة لشتى أنواع التعذيب ألماً وقسوة.

وقد يكون هذا الفرد قاضياً، معلماً او نجاراً لا يهم، إنما هو بالتأكيد فرد غير مُنتمي إلى الطوائف والمذاهب والأحزاب اللبنانية. هذه الفئة المُتميزة من الأفراد، بذنوبها وخطاياها، هي من الأقليات الموجودة في الجحيم اللبناني ومغضوب عليها دائماً، لذا فمكانها في اقصى ظلمات هذا الجحيم حيث عقابهم ليس فقط ناراً تكوي عقولهم المُفكّرة وسلاسل تُقيّد أرواحهم الحُرّة، بل وايضاً صخوراً من نار يدفعونها نهاراً الى الأعلى لتعود ليلاً فتتدحرج على أجسادهم. انهم “سيزيفيّو” الجحيم اللبناني.

امّا الأكثرية الساحقة من سكان طبقات الجحيم الاُخرى فهُم وعلى الأغلب من المُهمّشين وغير المميزين في طوائفهم ومذاهبهم واحزابهم. رضوا دائماً بأن يكونوا تابعين أو مؤيدين لزعماء طوائفهم وأحزابهم وأمراء الحرب القابعين في الفردوس. يخافون دائما على انفسهم كما على أولادهم من أن يصبحوا افراداً احرارا، فتراهم دائماً يمشون مع القطيع مطالبين بحقوق طوائفهم وحصصها في الدولة. تسمعهم نهاراً يتحدثون علناً عن العيش المشترك أما ليلاً وفي السر فيشحذون السكاكين. ذنوب هذه الفئة العريضة هو الخبث والتذاكي في تقديسها للزعيم وعدم توجيه اللوم والنقد له مهما فعل، فشعارهم الدائم “اليد التي لا تقدر عليها بوسها وادعي عليها بالكسر”. امّا خطيئتها الكُبرى فتتمثل في إعادة انتخابها لذات الطبقة السياسية الحاكمة التي اوصلتها الى هذا الجحيم. لا داعي لذكر عذابات الألم والذل المفروضة على هذه الفئة من الخطأة، فلا شك أنها جليّة في كل تفاصيل عيشهم اليوميّ. وهم على هذا راضون.

دانتي الذي تخيّل الجحيم من خلال ملحمته الشعرية “الكوميديا الإلهية” كان يهدف الى نقد السلطة السياسية والدينية على السواء في زمانه المُنقضي، زمن القرون الوسطى. وقد ساهم بابداعه هذا فيما بعد مع غيره من الكتابات والمؤلفات الادبية بإحداث تغييرات على صعيد المجتمع في اوروپا. ولكن مُبشرنا بالجحيم اللبناني الذي كان قد ساهم بالتضامن والتكافل مع غيره من أركان الطبقة السياسية في اجتراح “المأساة اللبنانية” صنع لنا جحيماً واقعياً مُعاشاً ومُشبعاً بالقسوة والذل.

الفروقات شاسعة وجوهرية بين الجحيمين. جحيم دانتي الذي انطلق من الكوميديا لينتهي إلى خُلاصات تراجيدية تدور حول النفس البشرية، في حين انّ جحيم الجنرال انطلق من مأساة الشعب اللبناني في تفتت دولته وانقسامات شعبه، لينتهي الى كوميديا عبثية غير مُضحكة تتكرر من دون تغيير يُذْكر إلى أبد الآبدين. لعلَّ في تحديدٍ ادق للفروقات الكثيرة بين صورتيْ هذين الجحيمين، تكمن القدرة على الإجابة عن السؤال حول جدوى الكتابة وعن ماذا ولماذا ولمن نكتب.    

إقرأوا أيضاً: