مضت على اللبنانيين، أو المعظم من اللبنانيين، مطالع التسعينيات، سنوات قليلة تيسر لهم خلالها أن يضربوا صفحاً، أقله في العلن، عن السؤال الفضولي بامتياز: «…ولكن، كيف انتهت الحرب؟»، واستطراداً: بأي ثمن؟
بالطبع يمكن المرء أن يتسقط هنا وهناك مَنْ أدركهم السؤال، كلعنة مستعجلة، من أول أمر لبنان بـ«نهاية الحرب»، فرأوا في عدد من المشاهد ومن الوقائع ومن القوانين، جوابات تكاد أن تكون بديهية على ذلك السؤال، ونذراً لا تخطئ بطبيعة «السلم الأهلي» الذي ينتظر لبنان واللبنانيين: فالشبه بين «وثيقة الوفاق الوطني» التي انتهى إليها اتفاق الطائف وبين «الاتفاق الثلاثي» الذي وقع في دمشق عام 1985 لا يُخْطئ، وقانون العفو العام الذي صادق عليه مجلس نواب مشكوك في تمثيليته، والذي أبرأ الذمة الشخصية والمؤسستية لأمراء الحرب وحاشياتهم فَصَّلَ ما سكت عنه الطائف في ما يتعلق بتدبّر تركة الحرب، في حين أكد مشروع إعادة الإعمار الذي بشر به رفيق الحريري، ومضى في تنفيذه، (بالمعنى السياسي العام لـ«إعادة الإعمار»)، ــ أكد المؤكد من أن النهاية الموعودة لـ«الحرب» نهاية تقريبية، بل نهاية هي نفسها موضوع تفاوض مستمر، وهكذا مما لم يقم حساباً، ولا ترك متسعاً، ليعود اللبنانيون على بدئهم: «كيف انتهت الحرب؟» وعلى متعلقه «ماذا هم فاعلون بتركة تلك الحرب؟».
يذهب البعض، قياساً على تجارب بلاد أخرى، إلى أنه ليس في الأمر ما يدهش حقاً، وأن الحروب مهما تشابهت في فظاعاتها لا تتشابه في نهاياتها، وأن العود على هذا البدء، أو تلك النهاية، أو تلك النهاية من ذلك البدء، أو ذلك البدء من تلك النهاية طريق متعرجة طويلة لا قواعد مُقَعَّدَةً لها ولا من يحزنون. ولا عيب في أن يكون الأمر كذلك، لولا أن اللبنانيين لم يُكتب لهم أن تكون طريقهم تلك طويلة حقاً، ولولا أنه ما كادت الألفية الثالثة تدخل عليهم حتى وجدوا أنفسهم ــ لأسباب كثيرة في الطليعة منها، لربما، أن شقيق الروح من «نهاية الحرب» كان إخضاع بلدهم لوصاية خارجية بدت أقرب إلى الضم والإلحاق ــ وجدوا أنفسهم يتململون، ويتوسلون الوسائل للتعبير عن تملمهم ذاك، ومن هذه الوسائل السؤال عما اختلف عليهم من يوم أن «بدأت الحرب» إلى يوم أن «انتهت» إلى يومهم ذاك، وعما أدّى ببلدهم أن يضيق بهم، وبهم أن يضيقوا به.
إلى لحظات ما، مُبعثرةٍ أحياناً، من هذا المشهد من الضيق المتبادل، ومن التدافع بين الرغبة في التمسك بـ«لبنانية» ما، والصَّدّ اليومي لهذه الرغبة، يرتفع، أو نزعم يرتفع، نسب «أمم للتوثيق والأبحاث» التي باشرت، إبتداءً من عام 2003، على يد مجموعة من الأصدقاء، في التكوّن، وفي السعي للحصول على شخصية معنوية تضع الفكرة في نصاب قانوني يؤمن لها أسباب التحقق والاستمرار.
لم يَحُلْ إخفاقُ هذا السَّعي خلالَ سنتَيْن متواليتَيْن، (بسببٍ من التَّضييق المنهجيّ، خلال تلك السنوات، على قيام «جمعيّات»)، دون أن تحمل أمم نفسها على محمَل الجدّ والوجود معاً، وأن تُباشر جملة من النشاطات (عروض أفلام، معارض، حلقات حوارية، إلخ…) المعدودة، وفقاً لهندسة حياتنا العامة، «ثقافية». وإذ أخذت هذه النشاطات من «الثقافة» بطرف لا تنكره ولا تتكبر عليه، فلقد كانت محاولات، في عداد محاولات أخرى على أيدي آخرين، لتَفَقّد ما يُمكن (بعد)، وما لا يُمكن، من اجتماع بين لبنانيين ولبنانيات، وغير لبنانيين ممن عناهم أمر هذا البلد، ويعنيهم، بحكم الضرورة إن لم يكن بسواه، على الحديث عن أحوال هذا البلد، في ماضيه وحاضره، وفي حربه وسلمه وما بينهما، على بينة مما يتحدثون عنه، أي بالتفاصيل، بما فيها المملة ـــ بل بما فيها «اليدوية». إنفاذاً لهذا البند من جدول أعمالها الافتراضي، كان ما اتخذته أمم لنفسها من قِبْلَةٍ، قد لا تزيد للوهلة الأولى أن تبدو أدنى إلى حديث الخرافة، عنوانها «التّوثيق».
على غرار نزاعات مسلحة أخرى، لم يُطلق اسم «الحرب» على الحرب/الحروب التي عصفت بلبنان من أول اندلاعها، على أن العبرة ليست في ما يتأخره إطلاق اسم على مسمى، بل في ما قد يستوليه الاسم على المسمى حد النيابة عنه، وهذا، إلى حد بعيد، ما كان من أمر لبنان يوم أن وُضِعَت لحروبه، مع اتفاق الطائف، حدودٌ، بالمعنى الحرفي للكلمة، ولم يوضع لها حَدٌّ على معنى الخطة التي يهتدى بها للانتقال من طورها، طور الحرب، إلى طور آخر.
استطراداً على هذا التسلسل الذي تتصل حلقاته كسند صحيح بين «الحرب» وبين نهايتها، كان أن نُصِبَت «الحرب»، كالوثن، بل وثناً، برسم أن يرجم موسمياً أو كلما حُمَّت حاجة إلى ذلك. أما الشّرط الذي لا يستقيم رجم من دونه فالإبقاء على مسافة معتبرة من المرجوم… وهذا حرفياً ما كان ـــ أقله بشهادة الحظر الذي كان إيقاعه، منذ نهاية الحرب، على العديد من المنتجات «الثقافية» التي حاول أصحابها أن يقتربوا حد اللمس والشم والعناق من الوثن المفترض أن تقتصر العلاقة به على الرجم من بعيد.
والوثن، أي وثن، كالجسد، لا يُلْمس كله دفعة واحدة، ولو أن لَمْسَ بعضه يسري في كله؛ وبمعنى ما هذا ما اقترحته أمم على نفسها تحت عنوان «التوثيق»؛ فيوم أن انكبت، على خطى آخرين، على موضوع «المفقودين» خلال الحرب، لم تذهب إلى التذكير بأن الإخفاء القسري، تعريفاً، «جريمة متمادية لا تسقط بالتقادم، ولا تندرت بأن أمراء السلام اللبنانيين، في عداد أمراء آخرين، يُسألون عن الآلاف من ضحايا هذه الجريمة، بل آثرت أن تجمع المئات من صور هؤلاء الشخصية، وأن تعرضها، في ما يشبه المظاهرة الصامتة، مُكتفية بأن تُذَيّل كل صورة باسم صاحبها وتاريخ ولادته ومكان وتاريخ اختفائه (متى ما عُلما)؛ ويوم أن أرادت أن تتفقد ما بقي من «خطوط التماس» وما ارتسم من خطوط جديدة، دعت مجموعة من المصورين إلى السياحة في أرجاء لبنان وإلى التقاط صور للأنصاب ـــ بما فيها الأنصاب «الموقتة» التي باتت تقنيات الطّباعة الحديقة تتيح التوسل بها ـــ التي تُعَيّن حدود المناطق والجماعات، وهكذا فضلاً عن أشكال أخرى من «التوثيق» ومن «البحث» سواء التقليدي أو التجريبي.
بالطبع، لا تخلو أمم، بين الحين والآخر، أو بين «مشروعين» بلغة «الجمعيات»، من التساؤل عن جدوى ما تُشغل به نفسها، وعن محلّه من الإعراب، ولحسن الحظ أن تساؤلها هذا قلما يذهب بها إلى الشك والتردد… فمما لا يخلو اللبنانيون من التقاذف به، ومن التقادح، أن فلاناً منهم أو فلاناً يهوى نبش القبور تعييراً لخصومه بما تخبر عنهم موجودات هذه القبور؛ ولعل أوْصَفَ ما في هذا القبيل من السجالات إحالَتُها، الحرفيةُ أحياناً، المجازيةُ أحياناً أخرى، إلى القبور بوصفها خزائن مخزونة من الوثائق التي يوشك انتظامٌ ما أن يختل في ما لو استخرجت من تلك الغيابات، ونُفض الغبار عنها، ووضعت في التداول (المواطني) العام. يكون ذلك، فنٌضيفُ السّجالَ المعنيَّ إلى قائمة الأسباب الموجبة لأن نزداد اقتناعاً بأنَّه لا مفر أحياناً، دفاعاً عن النَّفس إن لم يكن عن أي شيء آخرَ، مِن مُعانقةِ الأوثان ومِن منادمة الموتى…
إقرأوا أيضاً: