fbpx
ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

عن هامشيّتنا وحرّيتنا والخيارات الضيّقة جداً أمام “الجميع”

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

لا معنى للأمل، من دون طريق واضح إليه. هذا ما تحاول السلطة الحالية في دمشق أن تمحوه. ليس الأمل، فهو مفيد لهم في هذه الظروف، ولو لشراء الوقت لتثبيت سلطتهم. ما تحاول محوه هو الطريق نفسه.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

كانت الكاتبة اللبنانية دلال البزري، هي أول من طرح السؤال المتعلق بمدى ارتباط حريتنا كمثقفين بهامشيتنا. أظن هذا على حد معرفتي، وأعتقد أن الفترة التي نُشر فيها مقالها، أو مداخلتها المتعلقة بهذا الموضوع، في واحدة من كبريات الصحف العربية، كانت في نهاية التسعينات، أو بداية الألفية الجديدة. وغالباً تم النشر، ومن خلال ندوة ما عقدت حول هذا الموضوع، في واحدة من الصحيفتين الرئيسيتين اللتين كنت أتابعهما آنذاك: السفير أو الحياة. 

لم أنس المقال، وموضوعته الرئيسية، طيلة تلك السنوات، لأنه كان يتعلق بخياراتي الشخصية، في ذلك الوقت، وكل وقت. وأظنه كذلك يتعلق بخيارات أي مثقف عربي، ابتُلي بالعيش في ظل نظام ديكتاتوري شديد التوحش، عندما يتعلق الأمر بتجاوز الخطوط الحمراء التي تبقي ذلك النظام جاثماً فوق أنفاس الجميع. 

بالنسبة إلي، في ذلك الوقت، وكنت أنهي ثلاثينياتي، كان يفترض بسؤال كهذا أن يكون قد عفى عليه الزمن. إذ بات من المستحيل، على أي سوري، أن يعيد التفكير في خيارات، كانت محدودة جداً، طيلة سنوات القهر التي بدأت فعلياً، حتى قبل أن يستولي الأسد على السلطة. ولكني، وكأي مبتلى بتلك التي يسمونها في سوريا “السوسة”، وكانت “سوستي” هي الشأن العام الذي لم أعرف كيف ابتعد عنه، ولو من باب الفضول، ما كان أمامي من بد سوى الإمعان في التفكير حول تلك “الخيارات” التي كنت أعرف سلفاً أنني كنت مجرداً منها أصلاً، ومنذ مطلع شبابي، حيث كان طموحي الشخصي يدور في فلك ما يمكن للعملية الإبداعية، أياً كان شكلها، أن تمنحه من قيمة مضافة لحياة، هي أقرب إلى الموت منها إلى أي شيء آخر. 

كان الأمر برمته مؤلماً جداً، لشاب يعرف سلفاً أنه لو أراد أن يجد لنفسه طريقاً، فعليه أن يجد “راعياً”، ويمتثل لشروط ذلك الراعي، بحيث يخرج بنتيجة هي أسوأ من تلك التي يعيشها فعلاً، وهو خارج “أسوار” أية مؤسسة، يمكن أن تحويه وأسئلته معه. 

عن سبل النجاة بين الهامش والمتن

هامشيتي، طيلة السنوات التي سبقت طرح السؤال أعلاه، ولحقتها، لم تكن عسلاً من الحرية، بقدر ما كانت عذاباً مقيماً، لأبقي على الحد الأدنى من طموحي الشخصي، في مواجهة حياة، لم تكن أبداً تشبه الحياة، في ظل البؤس والخوف اللذين تقاسمهما جميع السوريين، وكل العرب، وإن بدرجات متفاوتة، في ظل ذلك الكابوس الذي مثله نظام الاستبداد، أياً كان البلد الذي يهيمن عليه. 

كان الأمر أشبه بمن يحاول أن يسرق شيئاً، على حساب أشياء أخرى، أكثر ضرورة وإلحاحاً، فقط ليقنع نفسه بأنه ما زال يتنفس. في الوقت الذي شهدت فيه، كغيري كثر، بعض أقراننا وهم “يمضون” في طريق “نجاحهم”، محوّلين الأثمان التي دفعوها، ومن حريتهم بالذات، إلى امتيازات لا تقبل الجدل. 

لا أقصد الجميع بالتأكيد، وبالذات أولئك الذين تمكنوا من تقديم إضافات فعلية، من أبناء الأجيال التي سبقتنا، ومن أبناء جيلي، من دون أي تنازل عن حريتهم. ولكن أكثر أبناء جيلي، السوريين بالذات، ممن دفعوا أثماناً حقيقية من أعمارهم، وفي السجون غالباً، لم ينجُ لنقول بأن الثمن جدير بأن يدفع. بعضهم أفلت من تلك الخاتمة السوداء، أي الغياب الكامل- الهامشية في أسوأ حالاتها وأكثرها ظلاماً، أفلتوا بفعل عناد ومثابرة مشهودين، مضافاً إليهما بعض الحظ الذي مكنهم من أن يصلوا في النهاية إلى ممارسة ما تيسر لهم من أي قدر من الحرية، وتمكنوا من تقديم إضافاتهم التي بقيت نادرة كندرة مسار كان يجب أن يكون هو المتن، فتحول إلى هامش بدوره، فقط لتضيق مساحة الأمل في وجوه بقيتنا. 

بقي “المتن” تماماً كما كان دائماً، على رغم بعض اللمعات التي كانت تظهر فقط لتؤكد ندرتها أكثر من أي شيء آخر. وبقي السؤال معلقاً دائماً: كيف يمكنني كمثقف، أن أقدم ما عندي، في ظل حالة تفرض علي، إن أردت المضي في خياراتي إلى نهاياتها، أن أبقى دائماً في ذلك الهامش؟! الذي، وإن استثنينا السجون من ضمن مساحته، فلن يبق منه الشيء الذي يمكن أن يعول عليه ليحتويك ويحتوي أحلامك معك، إلا اللهم إن كنت من عشاق الكلام مع النفس، حتى ولو كان مدخلاً موثوقاً إلى الجنون.

الآن، وبعد كل هذه السنوات، يعود السؤال نفسه ليطرح نفسه عليّ، في مواجهة وضع غير مسبوق، وغير متوقع نهائياً، هو ذلك الذي نعيشه في سوريا حالياً. 

“البنية الأمنية العسكرية” مرة أخرى!

بالنسبة الى السوريين، وبالاستناد إلى الوضع الذي خلقته ثورتهم ضد الطغيان، وأدى إلى فرار الطاغية، هناك نوعان من الهامشيين: أولئك الذي بقوا داخل البلاد، وأولئك الذين تمكنوا من الفرار منها. لو استثنينا حملة البنادق، المتمترسين دائماً في المتن، فهذا يعني أن الباقين في الهامش هم السوريون بسوادهم الأعظم. 

كان المأمول، وبعد فرار الطاغية، أن يستعيد السوريون، الهامشيون، جزءاً من فعاليتهم، ويتقدموا باتجاه المتن، ليساهموا في تقرير مصير بلادهم، حسب الإجراءات المتبعة في أي مكان في العالم، بعد سقوط الديكتاتور. ولكن هذا لم يحدث. 

ليست مجرد “مؤشرات” ما تقول هذا، إنها وقائع، وترتيبات، وقرارات، وبنى، وممارسات وصلت درجة الإبادة الممنهجة، كما حدث في اليومين الأخيرين في قرى الساحل السوري، هي نفسها ممارسات النظام البائد، لا تزال قائمة حتى يومنا هذا. 

لا تزال “البنية الأمنية العسكرية” فاعلة، ومقررة، وتحتل المركز في بنية النظام الجديد، بل هي نفسها من نصبت الرئيس الجديد، من دون الحاجة إلى انتخابات، حتى ولو شكلية! تلك البنية التي انتقدها الراحل طيب تيزيني بشجاعة لافتة في… مؤتمر حوار وطني آخر! ولكنه عقد في ظل الطاغية، ومع ذلك لم يتوان التيزيني عن الإشارة إلى أس الخلل في البلاد كلها. الأمر الذي أكسبه نقمة النظام، ومحبة كل السوريين. هذه “البنية الأمنية العسكرية” لا تزال موجودة حتى الآن، وكل الذي تغير هو طائفة باروناتها فقط، وطائفة ضحاياها أيضاً!

في ظل بنية كهذه، عدنا جميعاً، أياً كان مكان سكنانا، إلى الهامش مرة أخرى. هذا ينطبق على سوريي سوريا، وسوريي المنافي، بمن فيهم سوريو الغرب.. مع فارق، أن الأخيرين هم الأكثر حظاً بين الجميع، أقله، يمكنهم ممارسة هامشيتهم من دون الخوف من الإكراهات التي عاشوا في ظلها طيلة أعمارهم في سوريا الأسد، بعيداً عن قبضة تلك “البنية الأمنية العسكرية”. 

وكما يبدو واضحاً، خصوصاً خلال الأيام الأخيرة، فإن تلك الإكراهات لن تزول عن كاهل سوريي سوريا، بما فيها الخوف من بطش النظام الجديد، الذي أبدى شهية، ليس فقط للسطوة والسيطرة، بل إن شهيته وصلت درجة الإبادة؛ أو، كأضعف الإيمان، التغاضى عن تلك الإبادة محيلاً الارتكابات إلى “أخطاء وتجاوزات فردية”، كما ظهر لدرجة تقارب الفضيحة. 

والنظام الحالي، فوق هذا كله، مزود بماكينة مدافعين عن كامل سياسته، كائنة ما كانت! ماكينة أكثر حماسة، وديناميكية، وسعة، وخبرة أيضاً، بكثير من ماكينة النظام السابق، بالاستناد إلى “شرعية” جديدة، يراها البعض “ثورية”؛ ويراها آخرون مستندة إلى “مظلومية سنية”، التي وبرغم أنه لا يمكن إنكار فظائعها، إلا أن طريقة استثمار النظام الجديد لها تصل إلى حدود الاستقطاب الشديد، في وضع يصبح فيه هذا الاستقطاب صبَّاً للزيت على النار، فقط لتأمين قاعدة شعبية حصرية له. كما لحظنا خلال الأيام الماضية، حيث خطاب الشحن والمظلومية، بلغ ذروة غير مسبوقة، فقط للتغطية على مذبحة أخرى، أو، في أحسن الأحوال، لتبرئة النظام القائم منها! 

وهناك من يخلطوا الشرعيتين، “الثورية” و”المظلومية السنية”، ليخرجوا بـ “شرعية” بنكهة أقوى.

بلاد على قارعة الطريق

في هذا الهامش، أعود لمواجهة السؤال نفسه الذي لم ينفك يطرح نفسه عليّ، ولكن هذه المرة وأنا أعيش حالة لا تفرض أي تردد أو تراخٍ، أو استسلام لقدر أعمى، كذلك الذي كان طاغياً خلال سنوات الأسد السوداء. وما يزيد الأمر إلحاحاً، هو التطورات المتسارعة، في بلاد تعيش في حالة اضطراب لا يعرف أحد إلى أين يمكن أن تقود الجميع.

“يمكنك أن تقول كلمتك إلى النهاية، من دون أي خوف من أي شيء،” أقول لنفسي، ولكن لا ألبث أن أجد نفسي مواجهاً بسؤال آخر: “وماذا عن أولئك الذين علقوا داخل سوريا؟! أية قيمة، لأية كلمة يمكن أن تقال، صدقاً أو كذباً، إن لم يقتنع هؤلاء بالذات بها، بحيث تصبح، وعبرهم هم قبل أي أحد آخر، موضع إجماع لا يمكن إنكاره من أية جهة كانت، حتى ولو امتلكت أسلحة العالم كله”. للمناسبة، ليست السلطة الحالية في سوريا وحدها من يمتلك السلاح… هناك إسرائيل أيضاً، وهناك… وهناك…  

في نص موجع لأبعد درجة يمكن تخيلها، كتبت الروائية السورية سمر يزبك، انطباعاتها عن زياراتها الأولى لدمشق بعد سقوط الطاغية. يزبك كانت من أوائل الذين توجهوا إلى سوريا، بعد أيام فقط من فرار الأسد. وهناك، انفتحت أمامها الفاجعة على مصراعيها، وعبرها شاهدنا بعضاً من هول ما كان الطاغية قد أغلق عليه الباب بإحكام: الإذلال بكل معانيه، في بلد تركت، تقريباً بالكامل، على قارعة الطريق. 

رجال ونساء وأطفال، لا يجدون مصدر رزق لهم سوى التسول! هذه واحدة من صور عدة، وإن كانت أشدها إيلاماً، للهول السوري وقد انفتح أمام العالم كله. أشدها إيلاماً، لأن البديل الأكثر هولاً، لهؤلاء، فيما لو طالبوا بأكثر من قارعة الطريق، هو سجن صيدنايا الرهيب، أو مذبحة مفتوحة في الهواء الطلق، ومتنقلة على كامل الجغرافيا السورية. هذه كانت حالنا… وللأسف، لا تزال. 

البحث عن الأمل في غابة الوحوش!

“ولكن، وبعد السقوط، هناك فارق مهم، اسمه الأمل. طالما أشد طغاة العالم، قسوة وعتهاً، قد رحل، فلا بد أن يكون هناك مكان للأمل. من دونه لا يمكن لأولئك أن يغادروا قارعة الطريق، ولو حتى عبر خيالهم”، يقول لك زائر آخر لدمشق. 

لا معنى للأمل، من دون طريق واضح إليه. هذا ما تحاول السلطة الحالية في دمشق أن تمحوه. ليس الأمل، فهو مفيد لهم في هذه الظروف، ولو لشراء الوقت لتثبيت سلطتهم. ما تحاول محوه هو الطريق نفسه.

والحال هكذا، لا بد من المضي في طريق الكلام الصريح إلى نهايته، وبحدود هامش يبدو أننا، أولئك المصرّين على الكلام الصريح، لا نجد بداً من توسيعه، حتى لا يقتصر على سجن، أو مستشفى مجانين. وهذا ما تحاول السلطة، أية سلطة، في أي زمان ومكان، أن تفرضه في هامش تريده تحت قبضتها، تماماً كالمتن الذي رسمته بحد الخوف. 

ولكن الهامش مخيف أيضاً بدوره، لأولئك الذين يجهلونه. فمن يجهل شيئاً، يصبح هذا الشيء عدواً له. نحن، سكان الهامش الأزليين، نعرف هامشنا جيداً. نعرف كيف نتحرك، نختبئ، ونظهر، ونباغت، نقول كلمتنا، كما القنبلة، في مكان، لنعود ونهاجم من مكان آخر.

الطاغية لا يعرف الهامش، أبعده عن نظره، ولو إلى حين. ولكنه بقي يشعر بمكمن الخطر فيه. ولو أراد استتباعه، إن استطاع، لما عاد هامشاً أبداً، وصار جزءاً من السجن الكبير الذي أرخى بظلاله تماما على المتن. لذلك، يبقى الهامش، هامشياً، بمعنى فالتاً من قبضة الطاغية. ولذلك أيضاً، فهو المكان المتاح لنا، لنمارس حريتنا، بانتظار أن يسمعنا من لن يخسروا إلا بؤسهم، فيما لو قرروا أن يلحقوا بنا، بعيداً عن متن لم يترك لهم إلا قارعة الطريق، أو الموت في السجون، أو في المذابح.  

ولكن، هل محاولة كهذه جديرة بأن تخاض، وهي لا تمتلك أكثر من أثرها الصوتي… كقنبلة صوتية ليس أكثر؟! هنا المشكلة بالنسبة الى الطغاة، وهنا ميزتنا التي لا ننفك، من فرط ضعفنا، نصدق أننا نمتلكها. الكلمة ليست مجرد قنبلة صوتية. إنها بدء التكوين نفسه. 

ولهذا، الهامش هو بيتنا، و”غابة الوحوش” التي يخشاها كل الطغاة، إلى أن نعود إلى مكاننا الطبيعي… المتن، الذي سنعيد تشكيله على قياس أحلامنا.  

14.03.2025
زمن القراءة: 8 minutes

لا معنى للأمل، من دون طريق واضح إليه. هذا ما تحاول السلطة الحالية في دمشق أن تمحوه. ليس الأمل، فهو مفيد لهم في هذه الظروف، ولو لشراء الوقت لتثبيت سلطتهم. ما تحاول محوه هو الطريق نفسه.

كانت الكاتبة اللبنانية دلال البزري، هي أول من طرح السؤال المتعلق بمدى ارتباط حريتنا كمثقفين بهامشيتنا. أظن هذا على حد معرفتي، وأعتقد أن الفترة التي نُشر فيها مقالها، أو مداخلتها المتعلقة بهذا الموضوع، في واحدة من كبريات الصحف العربية، كانت في نهاية التسعينات، أو بداية الألفية الجديدة. وغالباً تم النشر، ومن خلال ندوة ما عقدت حول هذا الموضوع، في واحدة من الصحيفتين الرئيسيتين اللتين كنت أتابعهما آنذاك: السفير أو الحياة. 

لم أنس المقال، وموضوعته الرئيسية، طيلة تلك السنوات، لأنه كان يتعلق بخياراتي الشخصية، في ذلك الوقت، وكل وقت. وأظنه كذلك يتعلق بخيارات أي مثقف عربي، ابتُلي بالعيش في ظل نظام ديكتاتوري شديد التوحش، عندما يتعلق الأمر بتجاوز الخطوط الحمراء التي تبقي ذلك النظام جاثماً فوق أنفاس الجميع. 

بالنسبة إلي، في ذلك الوقت، وكنت أنهي ثلاثينياتي، كان يفترض بسؤال كهذا أن يكون قد عفى عليه الزمن. إذ بات من المستحيل، على أي سوري، أن يعيد التفكير في خيارات، كانت محدودة جداً، طيلة سنوات القهر التي بدأت فعلياً، حتى قبل أن يستولي الأسد على السلطة. ولكني، وكأي مبتلى بتلك التي يسمونها في سوريا “السوسة”، وكانت “سوستي” هي الشأن العام الذي لم أعرف كيف ابتعد عنه، ولو من باب الفضول، ما كان أمامي من بد سوى الإمعان في التفكير حول تلك “الخيارات” التي كنت أعرف سلفاً أنني كنت مجرداً منها أصلاً، ومنذ مطلع شبابي، حيث كان طموحي الشخصي يدور في فلك ما يمكن للعملية الإبداعية، أياً كان شكلها، أن تمنحه من قيمة مضافة لحياة، هي أقرب إلى الموت منها إلى أي شيء آخر. 

كان الأمر برمته مؤلماً جداً، لشاب يعرف سلفاً أنه لو أراد أن يجد لنفسه طريقاً، فعليه أن يجد “راعياً”، ويمتثل لشروط ذلك الراعي، بحيث يخرج بنتيجة هي أسوأ من تلك التي يعيشها فعلاً، وهو خارج “أسوار” أية مؤسسة، يمكن أن تحويه وأسئلته معه. 

عن سبل النجاة بين الهامش والمتن

هامشيتي، طيلة السنوات التي سبقت طرح السؤال أعلاه، ولحقتها، لم تكن عسلاً من الحرية، بقدر ما كانت عذاباً مقيماً، لأبقي على الحد الأدنى من طموحي الشخصي، في مواجهة حياة، لم تكن أبداً تشبه الحياة، في ظل البؤس والخوف اللذين تقاسمهما جميع السوريين، وكل العرب، وإن بدرجات متفاوتة، في ظل ذلك الكابوس الذي مثله نظام الاستبداد، أياً كان البلد الذي يهيمن عليه. 

كان الأمر أشبه بمن يحاول أن يسرق شيئاً، على حساب أشياء أخرى، أكثر ضرورة وإلحاحاً، فقط ليقنع نفسه بأنه ما زال يتنفس. في الوقت الذي شهدت فيه، كغيري كثر، بعض أقراننا وهم “يمضون” في طريق “نجاحهم”، محوّلين الأثمان التي دفعوها، ومن حريتهم بالذات، إلى امتيازات لا تقبل الجدل. 

لا أقصد الجميع بالتأكيد، وبالذات أولئك الذين تمكنوا من تقديم إضافات فعلية، من أبناء الأجيال التي سبقتنا، ومن أبناء جيلي، من دون أي تنازل عن حريتهم. ولكن أكثر أبناء جيلي، السوريين بالذات، ممن دفعوا أثماناً حقيقية من أعمارهم، وفي السجون غالباً، لم ينجُ لنقول بأن الثمن جدير بأن يدفع. بعضهم أفلت من تلك الخاتمة السوداء، أي الغياب الكامل- الهامشية في أسوأ حالاتها وأكثرها ظلاماً، أفلتوا بفعل عناد ومثابرة مشهودين، مضافاً إليهما بعض الحظ الذي مكنهم من أن يصلوا في النهاية إلى ممارسة ما تيسر لهم من أي قدر من الحرية، وتمكنوا من تقديم إضافاتهم التي بقيت نادرة كندرة مسار كان يجب أن يكون هو المتن، فتحول إلى هامش بدوره، فقط لتضيق مساحة الأمل في وجوه بقيتنا. 

بقي “المتن” تماماً كما كان دائماً، على رغم بعض اللمعات التي كانت تظهر فقط لتؤكد ندرتها أكثر من أي شيء آخر. وبقي السؤال معلقاً دائماً: كيف يمكنني كمثقف، أن أقدم ما عندي، في ظل حالة تفرض علي، إن أردت المضي في خياراتي إلى نهاياتها، أن أبقى دائماً في ذلك الهامش؟! الذي، وإن استثنينا السجون من ضمن مساحته، فلن يبق منه الشيء الذي يمكن أن يعول عليه ليحتويك ويحتوي أحلامك معك، إلا اللهم إن كنت من عشاق الكلام مع النفس، حتى ولو كان مدخلاً موثوقاً إلى الجنون.

الآن، وبعد كل هذه السنوات، يعود السؤال نفسه ليطرح نفسه عليّ، في مواجهة وضع غير مسبوق، وغير متوقع نهائياً، هو ذلك الذي نعيشه في سوريا حالياً. 

“البنية الأمنية العسكرية” مرة أخرى!

بالنسبة الى السوريين، وبالاستناد إلى الوضع الذي خلقته ثورتهم ضد الطغيان، وأدى إلى فرار الطاغية، هناك نوعان من الهامشيين: أولئك الذي بقوا داخل البلاد، وأولئك الذين تمكنوا من الفرار منها. لو استثنينا حملة البنادق، المتمترسين دائماً في المتن، فهذا يعني أن الباقين في الهامش هم السوريون بسوادهم الأعظم. 

كان المأمول، وبعد فرار الطاغية، أن يستعيد السوريون، الهامشيون، جزءاً من فعاليتهم، ويتقدموا باتجاه المتن، ليساهموا في تقرير مصير بلادهم، حسب الإجراءات المتبعة في أي مكان في العالم، بعد سقوط الديكتاتور. ولكن هذا لم يحدث. 

ليست مجرد “مؤشرات” ما تقول هذا، إنها وقائع، وترتيبات، وقرارات، وبنى، وممارسات وصلت درجة الإبادة الممنهجة، كما حدث في اليومين الأخيرين في قرى الساحل السوري، هي نفسها ممارسات النظام البائد، لا تزال قائمة حتى يومنا هذا. 

لا تزال “البنية الأمنية العسكرية” فاعلة، ومقررة، وتحتل المركز في بنية النظام الجديد، بل هي نفسها من نصبت الرئيس الجديد، من دون الحاجة إلى انتخابات، حتى ولو شكلية! تلك البنية التي انتقدها الراحل طيب تيزيني بشجاعة لافتة في… مؤتمر حوار وطني آخر! ولكنه عقد في ظل الطاغية، ومع ذلك لم يتوان التيزيني عن الإشارة إلى أس الخلل في البلاد كلها. الأمر الذي أكسبه نقمة النظام، ومحبة كل السوريين. هذه “البنية الأمنية العسكرية” لا تزال موجودة حتى الآن، وكل الذي تغير هو طائفة باروناتها فقط، وطائفة ضحاياها أيضاً!

في ظل بنية كهذه، عدنا جميعاً، أياً كان مكان سكنانا، إلى الهامش مرة أخرى. هذا ينطبق على سوريي سوريا، وسوريي المنافي، بمن فيهم سوريو الغرب.. مع فارق، أن الأخيرين هم الأكثر حظاً بين الجميع، أقله، يمكنهم ممارسة هامشيتهم من دون الخوف من الإكراهات التي عاشوا في ظلها طيلة أعمارهم في سوريا الأسد، بعيداً عن قبضة تلك “البنية الأمنية العسكرية”. 

وكما يبدو واضحاً، خصوصاً خلال الأيام الأخيرة، فإن تلك الإكراهات لن تزول عن كاهل سوريي سوريا، بما فيها الخوف من بطش النظام الجديد، الذي أبدى شهية، ليس فقط للسطوة والسيطرة، بل إن شهيته وصلت درجة الإبادة؛ أو، كأضعف الإيمان، التغاضى عن تلك الإبادة محيلاً الارتكابات إلى “أخطاء وتجاوزات فردية”، كما ظهر لدرجة تقارب الفضيحة. 

والنظام الحالي، فوق هذا كله، مزود بماكينة مدافعين عن كامل سياسته، كائنة ما كانت! ماكينة أكثر حماسة، وديناميكية، وسعة، وخبرة أيضاً، بكثير من ماكينة النظام السابق، بالاستناد إلى “شرعية” جديدة، يراها البعض “ثورية”؛ ويراها آخرون مستندة إلى “مظلومية سنية”، التي وبرغم أنه لا يمكن إنكار فظائعها، إلا أن طريقة استثمار النظام الجديد لها تصل إلى حدود الاستقطاب الشديد، في وضع يصبح فيه هذا الاستقطاب صبَّاً للزيت على النار، فقط لتأمين قاعدة شعبية حصرية له. كما لحظنا خلال الأيام الماضية، حيث خطاب الشحن والمظلومية، بلغ ذروة غير مسبوقة، فقط للتغطية على مذبحة أخرى، أو، في أحسن الأحوال، لتبرئة النظام القائم منها! 

وهناك من يخلطوا الشرعيتين، “الثورية” و”المظلومية السنية”، ليخرجوا بـ “شرعية” بنكهة أقوى.

بلاد على قارعة الطريق

في هذا الهامش، أعود لمواجهة السؤال نفسه الذي لم ينفك يطرح نفسه عليّ، ولكن هذه المرة وأنا أعيش حالة لا تفرض أي تردد أو تراخٍ، أو استسلام لقدر أعمى، كذلك الذي كان طاغياً خلال سنوات الأسد السوداء. وما يزيد الأمر إلحاحاً، هو التطورات المتسارعة، في بلاد تعيش في حالة اضطراب لا يعرف أحد إلى أين يمكن أن تقود الجميع.

“يمكنك أن تقول كلمتك إلى النهاية، من دون أي خوف من أي شيء،” أقول لنفسي، ولكن لا ألبث أن أجد نفسي مواجهاً بسؤال آخر: “وماذا عن أولئك الذين علقوا داخل سوريا؟! أية قيمة، لأية كلمة يمكن أن تقال، صدقاً أو كذباً، إن لم يقتنع هؤلاء بالذات بها، بحيث تصبح، وعبرهم هم قبل أي أحد آخر، موضع إجماع لا يمكن إنكاره من أية جهة كانت، حتى ولو امتلكت أسلحة العالم كله”. للمناسبة، ليست السلطة الحالية في سوريا وحدها من يمتلك السلاح… هناك إسرائيل أيضاً، وهناك… وهناك…  

في نص موجع لأبعد درجة يمكن تخيلها، كتبت الروائية السورية سمر يزبك، انطباعاتها عن زياراتها الأولى لدمشق بعد سقوط الطاغية. يزبك كانت من أوائل الذين توجهوا إلى سوريا، بعد أيام فقط من فرار الأسد. وهناك، انفتحت أمامها الفاجعة على مصراعيها، وعبرها شاهدنا بعضاً من هول ما كان الطاغية قد أغلق عليه الباب بإحكام: الإذلال بكل معانيه، في بلد تركت، تقريباً بالكامل، على قارعة الطريق. 

رجال ونساء وأطفال، لا يجدون مصدر رزق لهم سوى التسول! هذه واحدة من صور عدة، وإن كانت أشدها إيلاماً، للهول السوري وقد انفتح أمام العالم كله. أشدها إيلاماً، لأن البديل الأكثر هولاً، لهؤلاء، فيما لو طالبوا بأكثر من قارعة الطريق، هو سجن صيدنايا الرهيب، أو مذبحة مفتوحة في الهواء الطلق، ومتنقلة على كامل الجغرافيا السورية. هذه كانت حالنا… وللأسف، لا تزال. 

البحث عن الأمل في غابة الوحوش!

“ولكن، وبعد السقوط، هناك فارق مهم، اسمه الأمل. طالما أشد طغاة العالم، قسوة وعتهاً، قد رحل، فلا بد أن يكون هناك مكان للأمل. من دونه لا يمكن لأولئك أن يغادروا قارعة الطريق، ولو حتى عبر خيالهم”، يقول لك زائر آخر لدمشق. 

لا معنى للأمل، من دون طريق واضح إليه. هذا ما تحاول السلطة الحالية في دمشق أن تمحوه. ليس الأمل، فهو مفيد لهم في هذه الظروف، ولو لشراء الوقت لتثبيت سلطتهم. ما تحاول محوه هو الطريق نفسه.

والحال هكذا، لا بد من المضي في طريق الكلام الصريح إلى نهايته، وبحدود هامش يبدو أننا، أولئك المصرّين على الكلام الصريح، لا نجد بداً من توسيعه، حتى لا يقتصر على سجن، أو مستشفى مجانين. وهذا ما تحاول السلطة، أية سلطة، في أي زمان ومكان، أن تفرضه في هامش تريده تحت قبضتها، تماماً كالمتن الذي رسمته بحد الخوف. 

ولكن الهامش مخيف أيضاً بدوره، لأولئك الذين يجهلونه. فمن يجهل شيئاً، يصبح هذا الشيء عدواً له. نحن، سكان الهامش الأزليين، نعرف هامشنا جيداً. نعرف كيف نتحرك، نختبئ، ونظهر، ونباغت، نقول كلمتنا، كما القنبلة، في مكان، لنعود ونهاجم من مكان آخر.

الطاغية لا يعرف الهامش، أبعده عن نظره، ولو إلى حين. ولكنه بقي يشعر بمكمن الخطر فيه. ولو أراد استتباعه، إن استطاع، لما عاد هامشاً أبداً، وصار جزءاً من السجن الكبير الذي أرخى بظلاله تماما على المتن. لذلك، يبقى الهامش، هامشياً، بمعنى فالتاً من قبضة الطاغية. ولذلك أيضاً، فهو المكان المتاح لنا، لنمارس حريتنا، بانتظار أن يسمعنا من لن يخسروا إلا بؤسهم، فيما لو قرروا أن يلحقوا بنا، بعيداً عن متن لم يترك لهم إلا قارعة الطريق، أو الموت في السجون، أو في المذابح.  

ولكن، هل محاولة كهذه جديرة بأن تخاض، وهي لا تمتلك أكثر من أثرها الصوتي… كقنبلة صوتية ليس أكثر؟! هنا المشكلة بالنسبة الى الطغاة، وهنا ميزتنا التي لا ننفك، من فرط ضعفنا، نصدق أننا نمتلكها. الكلمة ليست مجرد قنبلة صوتية. إنها بدء التكوين نفسه. 

ولهذا، الهامش هو بيتنا، و”غابة الوحوش” التي يخشاها كل الطغاة، إلى أن نعود إلى مكاننا الطبيعي… المتن، الذي سنعيد تشكيله على قياس أحلامنا.  

14.03.2025
زمن القراءة: 8 minutes
|

اشترك بنشرتنا البريدية