إنه مشهد بيئي تعيس، وكأن هناك من يقود حملة ممنهجة ضد ما تبقّى من طبيعة هذه البلاد، التي تعيش أردأ عهودها، فمن يدير اللعبة يرجّح كفة المشاريع الخاصة، على حساب حق الناس والأجيال اللاحقة في العيش في بيئة سليمة. فعدا عن استباحة الكسارات للجبال والصخور وعدا عن مصادرة الأملاك البحرية والاستثمار غير القانوني، حتى في النفايات، تبرز اليوم قضية مصادرة مزيد من الأراضي لمصالح حزبية ضيقة.
رئيس دير مار يوسف التابع للرهبنة المارونية الأب الياس خليل، اكتفى بكلمات قليلة حين سأله “درج” عن كيفية منح أرض الدير في نهر الكلب لـ”التيار الوطني الحر”. ظلّ يكرر “لا تعليق”، مع وجه يحاول أن يكون بلا ملامح. ثم أضاف: “كل الأوراق والرخص قانونية”. سألته: “عنجد يا أبونا قالولكن بدن يعملوا مركز ترفيهي تثقيفي وطلع بالآخر مركز حزبي؟”. رد الأبونا بابتسامة. وحين سألته ساخرة: “أنت مبسوط أو زعلان باللي صار؟” اكتفى بالابتسام.
الجبل الذي يلامس البحر
تابع “درج” طريقه في الجبل التاريخي وهو الجبل الوحيد في الشرق الأوسط الذي يلامس البحر، ويعتبر معقلاً للكتابات الهيروغليفية والآرامية وغيرهما من الكتابات القديمة. وصلنا إلى الأرض التي يفترض أنه تمّ منحها للتيار العوني. هنا حركة شاحنات وعمّال وطريق ترابية يصعب الوصول عبرها إلى المكان.
المسؤول الأمني في المشروع رصد حركة هاتفي وعرف أنني التقطت صوراً به، سارع إليّ والتقط صورة للوحة سيارتي. وبطبيعة الحال أخبرني أن تصوير المكان ممنوع، محاولاً تضييعي بأنّ المشروع له، وهو مشروع لتربية النحل. وعند إصراري، تكشفت تفاصيل القصة. طلبت أن أدخل إلى المشروع حيث تحتشد الشاحنات ويُسمع صوت الآليات تعمل بنشاط ورشاقة. طلب المسؤول أن أترك هاتفي في السيارة وحين رفضت اتصل بالمسؤول عنه وأخبره بالقصة، فرفض أيضاً إدخالي، إلا بإذن من مركزية التيار في ميرنا الشلوحي. حتى حين وافقت على ترك هاتفي في السيارة، بقي المشي إلى المشروع ممنوعاً.
الأعمال وفق جولات ميدانية قام بها عدد من النشطاء والخبراء البيئيين على مقربة أمتار من اللوحات الأثرية في المنطقة، ما يشوّه المكان بصرياً وطبيعياً، وبالتالي يسرق من هذه المنطقة التاريخية، شيئاً من روحها، وقد يُحرم الموقع من تصنيفه كتراث عالميّ، بعدما رُفع عام 2019 إلى اللائحة الموقّتة للتراث العالمي للأونيسكو، كما أنه مصنّف على لائحة الذاكرة العالميّة للمنظّمة.
تابع “درج” طريقه في الجبل التاريخي وهو الجبل الوحيد في الشرق الأوسط الذي يلامس البحر، ويعتبر معقلاً للكتابات الهيروغليفية والآرامية وغيرهما من الكتابات القديمة.
يؤكد نشطاء وخبراء معترضون أن موقع البناء سيكون على بعد أمتار من الموقع التاريخي في الجبل الذي كان الأشوريون يسمونه “رأس البعل”، فيما كان يُفترض أن يكون المكان مصاناً، فالقانون 97/1 في وزارة البيئة صنّفه موقعاً طبيعياً، مانعاً بذلك البناء لمسافة 500 متر من منتصف مجرى النهر وباتجاه الضفتين عرضاً. إلا أنّ الموافقة على بناء المشروع مرّت كما مرّت غيرها بلباقة وهدوء وابتسامات عريضة، وكان ذلك في عهد وزير البيئة العوني طارق الخطيب.
متعهّد واحد
اللافت أن شركة خوري للتعهدات التي يملكها داني الخوري المقرّب من رئيس التيار العوني جبران باسيل، تشرف على عدد من المشاريع التي يصفها خبراء بيئيون بأنها تدميرية ومضرّة للبيئة، منها سد بسري وسد بقعاتا (الذي تُرفَع له صورة على موقع الشركة الإلكتروني)، وطبعاً مشروع نهر الكلب.
رولان نصور الناشط في الدفاع عن مرج بسري يوضح لـ”درج” أنه “لا يمكن الفصل بين المتعهّدين والسياسة، فداني الخوري المتعهد الأساسي في مشروع نهر الكلب، يزيل الصخور من هناك وينقلها إلى مرفأ جونية الذي يتعهّد مشروعه أيضاً، وكل ذلك بغطاء سياسي واضح من التيار الوطني الحر”.
ويوضح نصور أن “ما يحصل في نهر الكلب مخالفة واضحة لمرسوم تصنيف نهر الكلب كمنطقة محمية”، مشيراً إلى أن “الأضرار ستكون كبيرة وكل ما يُحكى عن أن الرخص صحيحة وقانونية، لا يغيّر من واقع أن الموقع التاريخي يتعرّض لانتهاك صارخ وغير مقبول”.
ردّ التيار الوطني على الحملة أتى تكتيكياً كعادته، منمّقاً مجمّلاً بالقانون والبراهين، إذ أكّد التيار أنه استحصل على مختلف الرخص والأوراق والموافقات المطلوبة لبناء مقرّه العام على تلّة موقع نهر الكلب الأثري، في العقار 98/ زوق الخراب (14 ألف متر مربع)، العائد لدير مار يوسف البرج التابع للرهبنة البلدية المارونية. وكان الحجر الأساس للمقر وُضع في 7 آب/ أغسطس الماضي.
اللافت أن شركة خوري للتعهدات التي يملكها داني الخوري المقرّب من رئيس التيار العوني جبران باسيل، تشرف على عدد من المشاريع التي يصفها خبراء بيئيون بأنها تدميرية ومضرّة للبيئة.
لكنّ الخبير البيئي بول أبي راشد يسأل في المقابل: “إن كان التيار حصل على رخصة للبناء، ماذا عن نقل الرمول والصخور من المكان، هل هناك رخصة مقلع؟ وهل هناك رخصة لنقل المنتوج؟”.
ويتحدّث أبي راشد لـ”درج” عن المخالفات الصارخة التي تحصل في نهر الكلب ومواقع أخرى، المتمثلة بعدم دراسة الأثر البيئي للمشاريع، ما يخالف القانون والمراسيم التطبيقية التي أقرّت عام 2012 ومن هذه المشاريع: “سد جنة، سد بلعة، سد بقعاتا، سد المسيلحا، وأخيراً نهر الكلب”. علماً أن مشروع سد بسري مثلاً كانت له دراسة أثر بيئي لكنها كانت ناقصة وانتهت مدّتها من دون تجديدها أو تحديثها.
دراسات الأثر البيئي الغائبة
وأحد أبرز المفاهيم التي جاء بها قانون حماية البيئة هو وجوب إجراء دراسات الفحص البيئي المبدئي وتقييم الأثر البيئي للمشاريع التي قد تهدد البيئة بسبب حجمها أو طبيعتها أو أثرها أو نشاطاتها. ودور الوزارة في هذا السياق مهم جداً، إذ عليها التأكد من صحة المعلومات، علماً أنه يفترض أن توجد عقوبات جزائية تترتب على صاحب المشروع أو الشركة الاستشارية المقيمة، في حال تبيّن أن هناك معلومات خاطئة أو غير دقيقة. ويُفترض أيضاً وفق “المفكرة القانونية” أن تخضع دراسة “تقييم الأثر البيئي” لجلسات علنية.
في موضوع سد جنة مثلاً طلب وزير البيئة محمد المشنوق في كتاب موجه الى وزير الطاقة والمياه آرتور نظاريان تكليف شركة استشارية مستقلة لإعداد دراسة تقييم الأثر البيئي “نظراً لدقة المشروع وحساسيته”، بعدما ثبت له أن الشركة المقيِّمة هي نفسها الشركة التي أعدت المشروع.
وفي تصريح سابق للمفكرة القانونية، كانت مستشارة وزارة البيئة، المحامية سمر مالك، أكدت أنه “تم قبول أكثر من 100 مشروع منذ صدور المرسوم ولم يُرفض إلا مشروع واحد هو “جسر فقرا”.
في هذا السياق، يقول أبي راشد: “عدم دراسة الأثر البيئي يضعنا أمام كارثة بيئية حقيقية، فجنة نهر ابراهيم مثلاً تمّ تشويهها من أجل بناء سد، وبذلك خسرنا 300 ألف شجرة، وفي بقعاتا، تحوّل السد إلى مقلع”.
ويضيف أبي راشد: “طلبت عبر رسائل متكررة أن أطّلع على الأثر البيئي لهذه المشاريع، لكن لا حياة لمن تنادي، إنها غير موجودة أصلاً، وقد أثبتت التجربة أن المشاريع التي تنفّذ في مواقع أثرية أو طبيعية من دون دراسة أثر بييئي، تظهر في نهايتها مشكلات كبيرة كمثل أن نجد آثاراً في المكان أو ندمّر مواقع طبيعية خلّابة”.
“ما يحصل في نهر الكلب مخالفة واضحة لمرسوم تصنيف نهر الكلب كمنطقة محمية”.
يمكن القول إن النقطة المشتركة في هذه الهجمة على البيئة في السنوات العشر الأخيرة، هي عدم تطبيق قانون البيئة 444/ 2002 الذي فرض على المشاريع في أماكن معينة دراسة تقييم الأثر البيئي، وهي دراسة يفترض أن تضم أناساً خبراء من القطاعين العام والخاص. وعام 2012 أقرّت مراسيم القانون التطبيقية، في مرسوم أصول تقييم الأثر البيئي 8633/ 2012. ومنذ ذلك الحين يقول أبي راشد، “ونحن نشاهد رخصاً تُعطى وتحصل على موافقات، فيما لا يتم احترام القانون لجهة دراسة الأثر البيئي للمشاريع التي تنفّذ”.
سد بسري مثلاً!
في سرد حكاية الهجمة المفترسة على بيئة لبنان، تمرّ قصة مأساوية هي قصة سد بسري، وآثاره التدميرية، التي كان أبرزها قطع أكثر من 150 ألف شجرة في المنطقة من أجل بناء مشاريع سياحية وتجارية على أنقاض الطبيعة. هذا إضافة إلى الإصرار على متابعة مشروع السد على رغم تأكيد البيئيين أن المنطقة معرّضة للزلازل، ولكون المنفعة منه أقل بكثير من الضرر الذي سينجم عن تدمير المرج، بما فيه من معالم طبيعية وأثرية وإمكانات زراعية وسياحية. ويضاف إلى ذلك التلويث الذي يسببه المشروع للمياه الجوفية بسبب المياه الملوّثة للبحيرة. وأكّد خبراء بيئيون وحقوقيون أنّ مشروع السد انتهاك واضح لقانون حماية البيئة 444/2002 والمرسوم 8633/2012، لعدم اكتمال دراسة الأثر البيئي ولعدم تجديدها وفقاً للأصول.
أما الآن، فالأعمال متوقفة في سد بسري إنما موقتاً بعدما دخل المواطنون المنتفضون إلى المرج، معلنين صرخة مدوّية في وجه استباحة الأراضي. لكن الأعمال قد تتجدد في أي لحظة، فوقف المشروع لم يعلن قانونياً، وكل ما قيل ويقال عن الكارثة البيئية التي يسببها، لم يهمّ القيمين عليه ولم يهزّ المدافعين عنه وعلى رأسهم طبعاً “التيار الوطني الحر”.