“اهاااا، انتو اللي رجعتوا مع اوسلو”، قال لي مديري حين عملت نادلة في أحد مقاهي رام الله. كنت في الخامسة عشرة من عمري، وكانت تلك وظيفتي الأولى. لم أفهم حينها النظرة الساخرة التي تبادلها مديري وصديقه، أو تلك التي رمقني بها، ولم أعِ ما حاول الإيحاء به وما حملته تلك العبارة من معان.
بعد توقيع اتفاقية أوسلو عام 1993، عاد آلاف الفلسطينيين من شتى أنحاء العالم إلى فلسطين بحلتها الجديدة. عادوا إلى الضفة الغربية وقطاع غزة، حاملين على أكتافهم أحلام أجدادهم، وفي جيوبهم مفاتيح صدئة. عجز مالي، نبذ واحتلال، هي بعض التحديات التي واجهها العائدون. وخلال أشهر، شاهدوا أحلامهم بالعودة إلى بيوت أجدادهم تتحطم، وما زالت مفاتيحهم يأكلها الصدأ حتى اليوم.
شككت شريحة واسعة من فلسطينيي الداخل بوطنية “العائدين” ودوافعهم، بسبب الذين استغلوا مناصبهم، فاتهموا بالعيش الرغيد على أنقاض الحلم الفلسطيني.
نعرض هنا تجارب أربعة عائدين، دفنت حكاياتهم تحت التراب، لنغوص معاً في تفاصيل حياة كل منهم.
“عائدون“، لم أفهم تلك الكلمة، ووصمة العار التي رافقتها وقد تحدث عنها البعض، إلا بعد سنين طويلة.
لاجئ بلا وطن، أم مواطن بلا دار؟
سنة وتسعة أشهر من حياته، أمضاها العائد إلى غزة فايز عردات نائماً على مكتبه الخشبي في مكان عمله، وهو في أواخر العشرينات من عمره. لم يكن يملك ما يكفي من المال لاستئجار شقة تأويه. يقول: “كنت أنام على المكتب ومخدتي كانت ملفاً بلاستيكياً”. حينها، عاشت زوجته البلغارية مع ابنته التي لم يزد عمرها عن بضعة أعوام في بلغاريا. وعندما انتقل عردات الى رام الله بعد سنوات، عاش في مكتبه مجدداً ونام على كرسيه لسبعة أشهر حتى استأجر شقة، واعتبر وقتذاك أن الصبر واجب عليه كمواطن فلسطيني.
يقارن عردات تجربته المكتبية، بما عاشه في معسكر في الجزائر خلال أيام دراسته الجامعية: “في المعسكر كانت لدي غرفة، وسرير، ومنضدة. كان عندي كل شيء، لما رحت إلى فلسطين لم يكن لدي شيء”.
لم يكن الاستقرار من الرفاهيات التي تمتع بها عردات قبل عودته إلى الوطن، فقد أمضى الكثير من عمره لاجئاً مشتتاً بين دول عربية وأجنبية مختلفة. تنقل فايز بين سوريا ولبنان والأردن وقطر حتى تخرج من الثانوية العامة. ثم التحق بالجامعة الجزائرية ومنها إلى بلغاريا لاستكمال الماجستير في الهندسة العسكرية. وعاد للعمل في الجزائر ثم تونس مع “منظمة التحرير الفلسطينية:، وأخيراً عاد إلى الجزائر التي تركها ليستقر في فلسطين.
يصف عردات شعوره بالنشوة والانتصار منذ عودته إلى وطنه، إلا أنه واجه مشكلات تتعلق بالنظرة العامة للعائدين، الناتجة عن تصرفات من يصفهم عردات بـ”المستفيدين والمستثمرين”، قائلاً: “من يعتقد أن الفلسطيني الذي كان ينتمي إلى منظمة التحرير وكان مليونيراً ويعيش في بحبوحة، هو مخطئ. عشنا أزمات كثيرة”.
غمرت الفرحة عردات مذ عاد إلى بلاده، إلا أن ذلك لم يكن كافياً.
“كان حلمي أكبر، حلمي كان أن تكون فلسطين بلداً حضارياً ومنتجاً”.
يتمنى فايز أن يعود إلى حيفا يوماً ما.
العلم… والثورة
“انتو فلسطينيين، غصب عنكم بدكم تتعلموا”، عبارة ترسخت في وجدان محمد أمين (اسم مستعار) لعشرات السنين. قالها له مدرس الرياضيات في المدرسة الابتدائية في سوريا بعد “الفلقة” الصباحية التي كانت من نصيب الطلاب المهملين لواجباتهم. حفزت هذه النصيحة محمد للسعي وراء العلم والوطن طيلة حياته.
كان محمد فضولياً منذ صغره، فحدثه جده الفدائي عن خيرات البلاد، وروى له جاره الضابط قصصاً عن العمليات الفدائية، ما زاد من نفسه الثوري، حتى انضم لصفوف الفدائيين والثورة الفلسطينية في لبنان في السادسة عشرة من عمره. برغم ذلك، لم يهمل ثائر دراسته، وتخرج من الجامعة اللبنانية بشهادة اللغة العربية موقناً أن العلم والبندقية هما السبيل إلى الحرية.
كرس محمد حياته من أجل العودة إلى أرض الوطن، وغمرته السعادة بعد قرار عودته. ولكنه يقول بنبرة حزينة: “عقب عودتنا، للأسف، صدمنا. اعتبرنا الناس لصوصاً، ونسوا قتالنا وشهداءنا وأسرانا وتضحياتنا طوال السنين الماضية”.
مر 25 عاماً على عودة الفدائي السابق، قبل قراره بالهجرة إلى إحدى الدول الأوروبية، تاركاً وراءه عمراً من النضال، وحلماً بالعودة، بسبب خلافه مع الحركة التي انتمى إليها: “قررت أن أبتعد وأنأى بنفسي عنهم وعن مشكلاتهم. حركتي التي وجب عليها حمايتي، تخلت عني، ولذلك أنا غير مضطر للبقاء”.
بنبرة مفعمة بالشجن، يتابع: “كل ما كنا نسمع عنه وكل ما كان يجب أن يحدث، لم يتحقق منه شيء”، ويضيف: “لم أعد أرغب بالعودة”.
إقرأوا أيضاً:
ما بين الوحدة والراحة
أما نور سعيد (اسم مستعار)، فقد راودتها مشاعر سلبية عقب عودتها نتيجة عدم تأقلمها في البلاد. هي لاجئة فلسطينية- سورية عادت إلى منطقة ريفية في قطاع غزة مع زوجها اللاجئ عام 1994.
بسبب الاختلافات الثقافية بين أجواء المدينة التي اعتادت عليها، وأجواء المنطقة الريفية التي عادت إليها، انطوت نور على نفسها. واليوم، تحصي عدد أصدقائها على الأصابع، وتؤكد: “أنا لست اجتماعية، عرفتي شلون؟”. كما حرمت أجواء المنطقة المحافظة السيدة الأربعينية من الاعتماد على نفسها، للاعتناء بزوجها وبأولادها: “إذا غاب زوجي أو كان مريضاً، لا أستطيع الخروج لشراء الخبز. مسافة بعيدة تفصلني عن المدينة”.
خلال الانتفاضة الثانية، تعرض منزل نور للقصف. “نجونا بأعجوبة، قصف البيت ونحن في داخله. لو أردنا أن نكتب قصصاً عما عشناه في الانتفاضة، لكتبنا كتباً”.
وأردفت: “أيام الانتفاضة كنا نعيش في حالة تشرد (الله لا يذوقها لأحد)، كانت الحقائب جاهزة دائماً، ونام أولادي ليل نهار بثياب (الطلعة)”.
أمضت نور 20 عاماً بعيدة من والديها وإخوتها الذين يعيش بعضهم في سوريا، وهاجر البعض الآخر إلى أوروبا. وفي العقدين الأخيرين، لم تلتق نور بوالديها سوى مرتين، وللأسف، توفيا في أسبوع واحد. “الكبار توفوا وما صفى حد للواحد، وما عاد له مكان للرجعة او نفس يرجع اذا بده يرجع، يرجع عند مين؟”.
ومع ذلك، تؤكد نور ارتياحها في الوطن: “إذا رجعت إلى سوريا ستبقى لاجئاً فلسطينياً. أينما عشت، لاجىء يعني غريب. أما غزة فهي قطعة من فلسطين وقد عدنا إليها”.
اليوم، يطمح أولادها للهجرة، بحثاً عن فرص حياة أفضل.
يوافق عدنان الحاج داود، وهو لاجئ من طرابلس، نور الرأي، “قبل ما ارجع على الضفة كانت حياتي شاقة. كنت أشعر بأنني مشرد”. وقد احتضنته واحتوته عائلة زوجته “الضفاوية” لسنوات، ما ساعده على التأقلم.
ويؤكد: “كنت مواطناً صالحاً، فتقبلني الناس”.
سعى الرجل الخمسيني للعودة إلى الوطن جاهداً، فمن لبنان، انتقل عدنان إلى رومانيا لدراسة الطب، حيث التقى برفيقة عمره، فتنقلا معاً بين ليبيا وتنزانيا والإمارات، لأنه منع من ممارسة مهنته في لبنان. يقول: “كنت مصمماً على العودة، كان لدي أمل بأن أحافظ على هويتي الوطنية، وعلى مبادئي. عند عودتي شعرت بأنني حققت شيئاً كبيراً. سافر الكثير من زملائي إلى خارج، وهم اليوم يحسدونني”.
يدرك الفلسطيني معنى الفقدان تماماً، ويعايشه مئات المرات يومياً. يشعر به مع كل روح تسلب، ومع كل شجرة زيتون تُقتلع، ومع كل شبر أرض يُسرق. أما اللاجئ، فقد عاش حياة كاملة من الفقدان والشوق لوطن لم يره إلا عبر حكايات أجداده. لذلك، لم يكن التحول من لاجئ الى عائد سهلاً، كما أنه لم يكن خياراً متاحاً إلا لأقلية فقط. ولكنه، وبعدما طرد من دولة إلى أخرى، وجد في موطنه مأوى له…
“عائدون”، لم أفهم تلك الكلمة، ووصمة العار التي رافقتها وقد تحدث عنها البعض، إلا بعد سنين طويلة. عندها، قدرت عودة أبي خالي الوفاض إلى البلاد. وقدرت قيمة الوطن، وما ضحى به والداي، وآلاف الفلسطينيين، لكي يؤمنوا لأولادهم ما افتقدوه: الاستقرار.