fbpx
ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

عُمان بين “مناعة” النظام و”الاستياء” الشعبي

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

بعد عشر سنوات من انتفاضات 2011، أصبح من الواضح إن الإصلاحات المحدودة التي أجراها النظام كانت تهدف إلى استرضاء المُحتجين واحتواء تهديد الاحتجاجات…

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

غالباً ما تُصوّرُ سلطنة عمان على أنها “واحة سلام”، حيث يتمتّع نظام الحكم بالمناعة ضد المعارضة، ولا يواجه انتقادات  بشكل مباشر، أو أنه يستوعب المعارضة بنجاح على افتراض أنه أكثر شرعية من الأنظمة الحاكمة في البلدان الأخرى. وفضلاً عن كونها مبالغة في التبسيط، تقدم هذه الادعاءات رؤيةً من فوق، مُحرَّفةً، للعلاقات بين الدولة والمجتمع في السلطنة لمصلحة الدولة.

على مدى العقد الماضي، واجه النظام العُماني حدثين رئيسيين من أحداث الاحتجاج تمثّلا في الاحتجاجات المتّصلة بالربيع العربي عام 2011 واحتجاجات البطالة عامي 2018 و2019. في الاحتجاجات المتّصلة بالربيع العربي، كان من بين الجهات الفاعلة المشاركة، عُمّال الصناعة في صحار الذين سعوا إلى إصلاحات اجتماعية واقتصادية، ومثقفون في مسقط طلبوا من السلطان الانفتاح السياسي (مثل التوصل إلى مجلس منتخب يتمتع بسلطاتٍ تشريعية أوسع وعزل المسؤولين الفاسدين)، ومتظاهرون متعلّمون من أبناء الطبقة العاملة في جميع أنحاء البلاد، أرادوا التغيير الاجتماعي والاقتصادي والسياسي. وفي احتجاجات عامَي 2018 و2019، شملت الجهات الفاعلة المشاركة الشبابَ العاطلين من العمل والخريجين الجُدد في مدن مثل مسقط وصور وصلالة، الذين احتجوا على معدلات البطالة المرتفعة وإجراءات التقشف وطالبوا بالإصلاح الاقتصادي، بما في ذلك المزيد من الوظائف في القطاع العام. وفي كِلتا الواقعتين، سعت الجهات الفاعلة المعنية إلى الإصلاح الاقتصادي و/ أو السياسي، من دون أن يهدد ذلك استقرار النظام. ونتيجة لذلك، كان رد فعل النظام محسوباً بدقة، إذ مُنِحت تنازلات لتهدئة بعض المتظاهرين، واستُخدم القمع لضمان قبول المتظاهرين غير الراضين بالتنازلات تجنباً للتصعيد.

وتختلف طبيعة الاحتجاج الذي واجهه النظام العُماني خلال العقد الماضي عن ذلك الذي واجهه سابقاً خلال تاريخه الحديث، مثل حركات التمرد المناطقية ذات الأيديولوجيات الماركسية في ظفار، التي سعت إلى الإطاحة بالنظام، فضلاً عن الحركات الانفصالية الداعمة لإقامة نظام إمامي في المنطقة الداخلية. فقد مثّلت هذه الأحداث تهديداً أكبر للنظام العماني من الاحتجاجات الأخيرة، وكان رد النظام عليها أكثر وحشية وشمل تنازلات أقل (إن وجدت). 

السياق السياسي في عُمان

تحكُم عمان مَلَكية مطلقة، والسلطان هو رئيس الدولة ورئيس الحكومة، وكذلك القائد الأعلى للقوات المسلحة. وبالمقارنة مع الملوك الآخرين في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، يتمتع سُلطان عُمان بموقع قوي فريدٍ من نوعه، فهو غير مرتهنٍ إلى القيود التي يواجهها الملوك ممن نفذوا الإصلاحات الموجّهة نحو الديموقراطية- كما في المغرب أو الأردن- كما أنه غير مُقيد بعائلةٍ ملكيةٍ قوية سياسياً كما في ممالك الخليج الأخرى. وعلاوة على ذلك، أثناء وجوده في السلطة، كان السلطان قابوس (1970-2020) الحاكم الوحيد الذي يعرفه كثر من العمانيين. لذلك كان يتمتع بأفضلية كبيرة لأنه لم يكن يُنظر إليه بمقارنته بخليفة سابق.

وفي حين أن السلطان لا يتشارك السلطة مع أحد، إلا أنه يسعى للحصول على مشورة من برلمان يُعرَف باسم “مجلس عُمان”، وهو يتألف من مجلسين: الأول مجلس الشورى، وهو الهيئة التشريعية الوحيدة في البلاد ويُنتَخَب جميع أعضائه البالغ عددهم 86 انتخاباً ديموقراطياً، لتمثيل المحافظات العمانية الإحدى عشرة (تسمّى ولايات). والمجلس الثاني هو مجلس الدولة ويتألف من 83 عضواً يُعيّنهم جميعاً السلطان. يجتمع المجلس بناءً على طلب السلطان ويتخذ قراراته بشأن القضايا التي يطرحها السلطان بأغلبية الأصوات، لكنه لا يتمتع بصلاحيات سن القوانين. لدى عُمان دستور يُسمّى القانون الأساسي، الذي أدخله السلطان قابوس وأصدره عام 1996، وهو يوفّر إطاراً قانونياً وحُرّيات مدنية مُحسّنة (من خلال ضمان المساواة والرعاية الطبيّة والتعليم والتسامح الديني).

ما الذي يعنيه هذا بالنسبة إلى العلاقات بين الدولة والمُجتمع في عُمان؟ على رغم الخطوات الإيجابية نحو الـ”لبرلة” على مدى العقود الثلاثة الماضية، إلا أن المناخ السياسي المقيَّد في البلاد، يخلق اختلالاً في توازن القوى لمصلحة الدولة، ما يجعل من الصعب إحداث تغيير عبر الاحتجاج، لأنّ الحرّيات السياسية لا تزال محدودة.

وفي الواقع، قليلة هي سبل المتاحة للمشاركة السياسية؛ إذ لا يُسمَح بتشكيل الأحزاب والجمعيات السياسية، فيما تُفرَضُ القيود على القوانين النقابية. كما أن الحريات المدنيّة مُقيدة، وإنّ كان القانون الأساسي يكفل حرية التعبير، إلا إن هذا لا يُطبّق على أرض الواقع.  والتعبير العام مُقيدٌ هو الآخر، كذلك هو حال وسائل الإعلام المطبوعة والمذاعة المحلية، إذ تطغى عليها الرقابة (بإشراف الوكالات الحكومية). فضلاً عن أن قواعد حرية تكوين الجمعيات يشوبها الغموض، فمن الناحية الدستورية، يُسمح للعمانيين بتكوين جمعيات ولكن يجب الحصول على إذن كتابي من السلطات قبل القيام بذلك ولا يمكنهم أن ينتقدوا النظام.

 المجتمع المدني في عُمان تنقصه الفعالية. وهو يتكوّن بصورةٍ أساسية من مجموعات أسستها الحكومة أو تخضع لسلطتها، ولا تمكنها معارضة الحكومة علانيةً، وبالتالي لا يمكنها إحداث تغيير كبير في المجال العام. ومع ذلك، هناك مجموعات صغيرة ولا تزال في طور النمو من الشباب العمانيين تأسست منذ عام 2007، وتسعى إلى التأثير في المجال العام من خلال النشاط عبر الإنترنت في مواضيع تناقش الحاجة إلى الإصلاح السياسي والاجتماعي والاقتصادي.

المناخ السياسي المقيَّد في البلاد، يخلق اختلالاً في توازن القوى لمصلحة الدولة، ما يجعل من الصعب إحداث تغيير عبر الاحتجاج، لأنّ الحرّيات السياسية لا تزال محدودة.

في السنوات الأخيرة

بدأت احتجاجات عام 2011 في مسقط في كانون الثاني/ يناير 2011 ثم امتدت إلى مدينة صحار الصناعية في شباط/ فبراير، وكذلك إلى صلالة في الجنوب، وإلى المناطق النائية. وفي صحار، حشد آلاف العُمّال الصناعيين أنفسهم للمطالبة بإصلاحات اجتماعية واقتصادية، مثل ارتفاع أجور المعيشة وخفض الأسعار وإيجاد حل للبطالة. وفي مسقط، تعاون مثقفون ونظّموا عريضة طلبوا فيها من السلطان بإجراء إصلاحات سياسية، أي إبعاد المسؤولين الفاسدين وإتاحة مجال سياسي أكثر انفتاحاً. وقد شمل هذا المطلب إصلاح القانون الأساسي ومنح السلطة التشريعية للمجلس المنتخب (مجلس الشورى). كان هناك أيضاً آلاف المتظاهرين المتعلّمين ومُعظمهم من الطبقة العاملة الذين نزلوا إلى الشوارع، بما فيهم الطلاب وموظفو الوزارات. كانت الحركة سلميةً إلى حد كبير، باستثناء مناسبات قليلة، لا سيما في صحار حيث أضرم المتظاهرون النار في سوبر ماركت، ورشقوا قوات الأمن بالحجارة.

وبعد تجاهُل الاحتجاجات الأولية الأصغر حجماً في مسقط، رد النظام بمزيج من التسهيلات النقدية والإصلاحات السياسية مصحوبة بجرعات من القمع لإرضاء المحتجين من جهة، وردع المزيد من الاحتجاجات من جهة ثانية. أولاً، وبدءاً من 26 شباط (بعد شهر من بدء الاحتجاجات الأولى في مسقط)، أجرى السلطان تعديلاً وزارياً، وأبعدَ شخصيات مستهدفة، وحلّ وزارة الاقتصاد الوطني التي كان يُنظر إليها على أنها فاسدة، ووعد باستقلالية المدعي العام، واقترح إصلاحات جديدة للقانون الأساسي لعام 1996، إلا أن تلك الإصلاحات لم تَحدّ من صلاحياته الواسعة، لكنها أدخلت إصلاحات مدنية مهمة مثل إنشاء هيئة مستقلة لحماية المستهلك. وتضمنت التسهيلات النقدية استحداث 50 ألف وظيفة جديدة في القطاع العام، وإعانات بطالة شهرية جديدة بقيمة 390 دولاراً أميركياً، وخفض معدلات المساهمة في المعاشات التقاعدية لموظفي الخدمة المدنية، وزيادة الحد الأدنى للأجور في القطاع الخاص، وبدلات أعلى للطلاب الذين يعيشون بعيداً من بيوتهم، وتأمين رواتب لتغطية تكاليف معيشة أفراد الجيش والأمن، وزيادة بنسبة 100 في المئة في معاشات المسجلين في وزارة التنمية الاجتماعية، والتعهد بزيادة النفقات بنسبة 26 في المئة لتوفير المزيد من مزايا الرعاية الاجتماعية.

في صحار، فضّت قوات الأمن الاحتجاجات باستخدامها القوة والرصاص المطاطي والغاز مسيّل الدموع، واعتُقِل عشرات المتظاهرين، وقُتل اثنان. وفي الأشهر التالية، تم قمعُ أو اعتقال المتظاهرين الذين خرجوا أو نظّموا اعتصامات في مسقط وصور وصحار وصلالة. وفي 1 و28 آذار/ مارس، استخدم الجيش الذخيرة الحية والدبابات العسكرية، ثم وُضعت صحار تحت السيطرة العسكرية لمدة أسبوع. وعندما اندلعت تظاهرة تطالب بالمزيد من الوظائف وزيادة الأجور في صلالة في 14 أيار/ مايو، تدخّل الجيش وقطعت السلطات الاتصال بالإنترنت. وفي حزيران/ يونيو 2011، تلقّى أكثر من عشرة متظاهرين معتقلين أحكاماً بالسجن بتهمة قطع الطرق، وإهانة موظفي الخدمة المدنية، وإغلاق العمل في مؤسسة حكومية. تراوحت هذه الأحكام بين ستة أشهر وخمس سنوات. كما استُهدف الأشخاص الذين انتقدوا النظام ولكنهم لم يحتجوا عليه. في أيلول/ سبتمبر 2011، على سبيل المثال، اُلقِي القبض على محرر صحيفة اتهم وزارة العدل بالفساد وحُكم عليه بالسجن خمسة أشهر. وبعد شهر، صدر مرسوم ملكي يقيّد حرية التعبير، وبهذه الاستراتيجية، احتوى النظام الحدث الفوري وردَع المزيد من الاحتجاج في المستقبل. وكان الاحتجاج قد خمد بحلول منتصف نيسان/ أبريل 2011، على رغم تجدد بعض الاحتجاجات على نطاق أصغر في عامي 2012 و2013 وتم قمعها أيضاً.

في فترة ما بعد الربيع العربي، تغيّرت العلاقة بين الدولة والمجتمع، إذ زادت خيبة أمل عموم السكان، ولا سيّما الشباب، بالنظام، خصوصاً في ما يتعلّق بوعود الانفتاح السياسي وتوفير فرص العمل.

اندلعت احتجاجات وأعمال شغب وإضرابات وتجمّعات على مستوى البلاد رداً على الصعوبات الاقتصادية في كانون الثاني 2018 وكانون الأول/ ديسمبر 2018 وكانون الثاني 2019. وقد شملت مسقط وصحار وصور وصلالة، وشارك فيها آلاف الخريجين الجُدد والشباب العاطلين من العمل. واحتجّ المتظاهرون على معدلات البطالة المرتفعة والتدابير التقشفية التي اعتمدها النظام في كانون الثاني 2017 للتعويض عن انخفاض أسعار النفط وإنفاقه الزائد، لاحتواء انتفاضات 2011. وتضمّنت هذه الإجراءات خفض الإنفاق الحكومي على الإعانات بأكثر من 500 مليون ريال عماني في عامي 2015-2016. وتُمثّل البطالة مشكلة كبيرة في السلطنة، اذ تصل إلى نسبة 15 في المائة على الصعيد الوطني وشملت أكثر من 30 في المائة من شريحة الشباب عام 2017.

احتوى النظام هذه الاحتجاجات كلها، من خلال الحوافز المالية إلى جانب قمع المعارضة المستمرة على المدَيَين القصير والطويل. وثبّت النظام سعر البنزين العادي، فيما أبقى على ربط سِعرَي الديزل والبنزين الممتاز بأسعار النفط الخام العالمية. كما وعد بتوفير فرص عمل خلال 6 أشهر، وتقييد توظيف العمالة الأجنبية عام  2018، وإنشاء مركز وطني للبطالة عام 2019.  كما قمع المتظاهرين الذين ظلوا غير راضين وغير مقتنعين بهذه الوعود. وفي المدن الجنوبية، اعتُقل متظاهرون فور وصولهم إلى مواقع الاحتجاج، ومن غير الواضح ما إذا كان أُطلِق سراحهم لاحقاً أم لا يزالون قيد الاعتقال حتى الآن. كما واجه آخرون وحشية شرطة مكافحة الشغب، ووفقاً لـ”منظمة العفو الدولية”، اعتُقِل ما لا يقل عن 30 شخصاً ممن احتجوا على البطالة ثم أطلق سراحهم لاحقاً عام 2018.  وفي كانون الثاني 2019، اعتقلت قوات الشرطة صحفِيّين إذاعيين كانا يغطيان احتجاجاً ضد البطالة في مسقط، وبحسب التقارير فقد أُجبِر مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي الذين شاركوا في الاحتجاج على حذف الصور ومقاطع الفيديو التي التقطوها.  انتهت هذه الاحتجاجات في كانون الثاني 2019.

نظرة مستقبلية: علاقة الدولة والمجتمع بعد 2011

في فترة ما بعد الربيع العربي، تغيّرت العلاقة بين الدولة والمجتمع، إذ زادت خيبة أمل عموم السكان، ولا سيّما الشباب، بالنظام، خصوصاً في ما يتعلّق بوعود الانفتاح السياسي وتوفير فرص العمل. وفي الواقع، بلغت نسبة المشاركة في الانتخابات التشريعية الأخيرة عام 2015، 57 في المئة، مقارنة بـ76 في المئة عام 2011، ما يشير إلى أن العمانيين يشعرون بخيبة أمل من وعود التغيير السياسي أكثر مما كانوا عليه عام 2011.

بعد عشر سنوات من انتفاضات 2011، أصبح من الواضح إن الإصلاحات المحدودة التي أجراها النظام كانت تهدف إلى استرضاء المُحتجين واحتواء تهديد الاحتجاجات. وتُظهر الاعتقالات المتكرّرة للمتظاهرين والنشطاء والقيود المفروضة على حرية التعبير في عامي 2011 و2012، أن النظام يأبى التخلّي عن احتكاره السلطة (من خلال مشاركتها مع الهيئة التشريعية أو من خلال فتح المجال السياسي). ويدلُّ قمع النظام للمتظاهرين عامي 2018 و2019، إلى جانب الوعود بتوفير الوظائف، التي لم ينفذها بعد، على مشكلة رئيسة: لا تزال العلاقة بين الدولة والمجتمع في عُمان محكومة بنموذج الدولة شبه الريعية الذي لا يستطيع النظام تحمُّل الإبقاء عليه، ومن دون توفُّر الأموال لاسترضاء المتظاهرين، قد يلجأ النظام إلى زيادة القمع.

يواجه النظام استياءً متزايداً ناجماً عن الصعوبات الاجتماعية والاقتصادية، بخاصة أن الدولة تبنّت استراتيجية لخفض الإنفاق العام منذ عام  2014 ما سيضطرها إلى اعتماد إجراءات تقشفية، بسبب انخفاض أسعار النفط والتأثير الاقتصادي لجائحة “كورونا”. ومن المرجح أيضاً أن يواجه النظام خيبةَ أملٍ شعبية متزايدة من جراء عدم الوفاء بوعود الإصلاح التي قُطِعَت منذ عام 2011. ولن يكون الفاعلون الرئيسيون في الاحتجاج رؤساء القبائل أو الزعماء الدينيين أو الضباط العسكريين أو نخب رجال الاعمال، فكلهم يهدفون إلى الحفاظ على الوضع الراهن. بدلاً من ذلك، سيأتي الاحتجاج من الشباب العمانيين المتعلمين ومن الطبقة العاملة.

* تنشر مبادرة الإصلاح العربي هذه المقالة بالتعاون مع “تشاتام هاوس“، وهي جزء من سلسلة تتناول مستقبل الحوكمة والأمن في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وتأثيرهما في دور الدولة في المنطقة.

إقرأوا أيضاً:

بعد عشر سنوات من انتفاضات 2011، أصبح من الواضح إن الإصلاحات المحدودة التي أجراها النظام كانت تهدف إلى استرضاء المُحتجين واحتواء تهديد الاحتجاجات…

غالباً ما تُصوّرُ سلطنة عمان على أنها “واحة سلام”، حيث يتمتّع نظام الحكم بالمناعة ضد المعارضة، ولا يواجه انتقادات  بشكل مباشر، أو أنه يستوعب المعارضة بنجاح على افتراض أنه أكثر شرعية من الأنظمة الحاكمة في البلدان الأخرى. وفضلاً عن كونها مبالغة في التبسيط، تقدم هذه الادعاءات رؤيةً من فوق، مُحرَّفةً، للعلاقات بين الدولة والمجتمع في السلطنة لمصلحة الدولة.

على مدى العقد الماضي، واجه النظام العُماني حدثين رئيسيين من أحداث الاحتجاج تمثّلا في الاحتجاجات المتّصلة بالربيع العربي عام 2011 واحتجاجات البطالة عامي 2018 و2019. في الاحتجاجات المتّصلة بالربيع العربي، كان من بين الجهات الفاعلة المشاركة، عُمّال الصناعة في صحار الذين سعوا إلى إصلاحات اجتماعية واقتصادية، ومثقفون في مسقط طلبوا من السلطان الانفتاح السياسي (مثل التوصل إلى مجلس منتخب يتمتع بسلطاتٍ تشريعية أوسع وعزل المسؤولين الفاسدين)، ومتظاهرون متعلّمون من أبناء الطبقة العاملة في جميع أنحاء البلاد، أرادوا التغيير الاجتماعي والاقتصادي والسياسي. وفي احتجاجات عامَي 2018 و2019، شملت الجهات الفاعلة المشاركة الشبابَ العاطلين من العمل والخريجين الجُدد في مدن مثل مسقط وصور وصلالة، الذين احتجوا على معدلات البطالة المرتفعة وإجراءات التقشف وطالبوا بالإصلاح الاقتصادي، بما في ذلك المزيد من الوظائف في القطاع العام. وفي كِلتا الواقعتين، سعت الجهات الفاعلة المعنية إلى الإصلاح الاقتصادي و/ أو السياسي، من دون أن يهدد ذلك استقرار النظام. ونتيجة لذلك، كان رد فعل النظام محسوباً بدقة، إذ مُنِحت تنازلات لتهدئة بعض المتظاهرين، واستُخدم القمع لضمان قبول المتظاهرين غير الراضين بالتنازلات تجنباً للتصعيد.

وتختلف طبيعة الاحتجاج الذي واجهه النظام العُماني خلال العقد الماضي عن ذلك الذي واجهه سابقاً خلال تاريخه الحديث، مثل حركات التمرد المناطقية ذات الأيديولوجيات الماركسية في ظفار، التي سعت إلى الإطاحة بالنظام، فضلاً عن الحركات الانفصالية الداعمة لإقامة نظام إمامي في المنطقة الداخلية. فقد مثّلت هذه الأحداث تهديداً أكبر للنظام العماني من الاحتجاجات الأخيرة، وكان رد النظام عليها أكثر وحشية وشمل تنازلات أقل (إن وجدت). 

السياق السياسي في عُمان

تحكُم عمان مَلَكية مطلقة، والسلطان هو رئيس الدولة ورئيس الحكومة، وكذلك القائد الأعلى للقوات المسلحة. وبالمقارنة مع الملوك الآخرين في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، يتمتع سُلطان عُمان بموقع قوي فريدٍ من نوعه، فهو غير مرتهنٍ إلى القيود التي يواجهها الملوك ممن نفذوا الإصلاحات الموجّهة نحو الديموقراطية- كما في المغرب أو الأردن- كما أنه غير مُقيد بعائلةٍ ملكيةٍ قوية سياسياً كما في ممالك الخليج الأخرى. وعلاوة على ذلك، أثناء وجوده في السلطة، كان السلطان قابوس (1970-2020) الحاكم الوحيد الذي يعرفه كثر من العمانيين. لذلك كان يتمتع بأفضلية كبيرة لأنه لم يكن يُنظر إليه بمقارنته بخليفة سابق.

وفي حين أن السلطان لا يتشارك السلطة مع أحد، إلا أنه يسعى للحصول على مشورة من برلمان يُعرَف باسم “مجلس عُمان”، وهو يتألف من مجلسين: الأول مجلس الشورى، وهو الهيئة التشريعية الوحيدة في البلاد ويُنتَخَب جميع أعضائه البالغ عددهم 86 انتخاباً ديموقراطياً، لتمثيل المحافظات العمانية الإحدى عشرة (تسمّى ولايات). والمجلس الثاني هو مجلس الدولة ويتألف من 83 عضواً يُعيّنهم جميعاً السلطان. يجتمع المجلس بناءً على طلب السلطان ويتخذ قراراته بشأن القضايا التي يطرحها السلطان بأغلبية الأصوات، لكنه لا يتمتع بصلاحيات سن القوانين. لدى عُمان دستور يُسمّى القانون الأساسي، الذي أدخله السلطان قابوس وأصدره عام 1996، وهو يوفّر إطاراً قانونياً وحُرّيات مدنية مُحسّنة (من خلال ضمان المساواة والرعاية الطبيّة والتعليم والتسامح الديني).

ما الذي يعنيه هذا بالنسبة إلى العلاقات بين الدولة والمُجتمع في عُمان؟ على رغم الخطوات الإيجابية نحو الـ”لبرلة” على مدى العقود الثلاثة الماضية، إلا أن المناخ السياسي المقيَّد في البلاد، يخلق اختلالاً في توازن القوى لمصلحة الدولة، ما يجعل من الصعب إحداث تغيير عبر الاحتجاج، لأنّ الحرّيات السياسية لا تزال محدودة.

وفي الواقع، قليلة هي سبل المتاحة للمشاركة السياسية؛ إذ لا يُسمَح بتشكيل الأحزاب والجمعيات السياسية، فيما تُفرَضُ القيود على القوانين النقابية. كما أن الحريات المدنيّة مُقيدة، وإنّ كان القانون الأساسي يكفل حرية التعبير، إلا إن هذا لا يُطبّق على أرض الواقع.  والتعبير العام مُقيدٌ هو الآخر، كذلك هو حال وسائل الإعلام المطبوعة والمذاعة المحلية، إذ تطغى عليها الرقابة (بإشراف الوكالات الحكومية). فضلاً عن أن قواعد حرية تكوين الجمعيات يشوبها الغموض، فمن الناحية الدستورية، يُسمح للعمانيين بتكوين جمعيات ولكن يجب الحصول على إذن كتابي من السلطات قبل القيام بذلك ولا يمكنهم أن ينتقدوا النظام.

 المجتمع المدني في عُمان تنقصه الفعالية. وهو يتكوّن بصورةٍ أساسية من مجموعات أسستها الحكومة أو تخضع لسلطتها، ولا تمكنها معارضة الحكومة علانيةً، وبالتالي لا يمكنها إحداث تغيير كبير في المجال العام. ومع ذلك، هناك مجموعات صغيرة ولا تزال في طور النمو من الشباب العمانيين تأسست منذ عام 2007، وتسعى إلى التأثير في المجال العام من خلال النشاط عبر الإنترنت في مواضيع تناقش الحاجة إلى الإصلاح السياسي والاجتماعي والاقتصادي.

المناخ السياسي المقيَّد في البلاد، يخلق اختلالاً في توازن القوى لمصلحة الدولة، ما يجعل من الصعب إحداث تغيير عبر الاحتجاج، لأنّ الحرّيات السياسية لا تزال محدودة.

في السنوات الأخيرة

بدأت احتجاجات عام 2011 في مسقط في كانون الثاني/ يناير 2011 ثم امتدت إلى مدينة صحار الصناعية في شباط/ فبراير، وكذلك إلى صلالة في الجنوب، وإلى المناطق النائية. وفي صحار، حشد آلاف العُمّال الصناعيين أنفسهم للمطالبة بإصلاحات اجتماعية واقتصادية، مثل ارتفاع أجور المعيشة وخفض الأسعار وإيجاد حل للبطالة. وفي مسقط، تعاون مثقفون ونظّموا عريضة طلبوا فيها من السلطان بإجراء إصلاحات سياسية، أي إبعاد المسؤولين الفاسدين وإتاحة مجال سياسي أكثر انفتاحاً. وقد شمل هذا المطلب إصلاح القانون الأساسي ومنح السلطة التشريعية للمجلس المنتخب (مجلس الشورى). كان هناك أيضاً آلاف المتظاهرين المتعلّمين ومُعظمهم من الطبقة العاملة الذين نزلوا إلى الشوارع، بما فيهم الطلاب وموظفو الوزارات. كانت الحركة سلميةً إلى حد كبير، باستثناء مناسبات قليلة، لا سيما في صحار حيث أضرم المتظاهرون النار في سوبر ماركت، ورشقوا قوات الأمن بالحجارة.

وبعد تجاهُل الاحتجاجات الأولية الأصغر حجماً في مسقط، رد النظام بمزيج من التسهيلات النقدية والإصلاحات السياسية مصحوبة بجرعات من القمع لإرضاء المحتجين من جهة، وردع المزيد من الاحتجاجات من جهة ثانية. أولاً، وبدءاً من 26 شباط (بعد شهر من بدء الاحتجاجات الأولى في مسقط)، أجرى السلطان تعديلاً وزارياً، وأبعدَ شخصيات مستهدفة، وحلّ وزارة الاقتصاد الوطني التي كان يُنظر إليها على أنها فاسدة، ووعد باستقلالية المدعي العام، واقترح إصلاحات جديدة للقانون الأساسي لعام 1996، إلا أن تلك الإصلاحات لم تَحدّ من صلاحياته الواسعة، لكنها أدخلت إصلاحات مدنية مهمة مثل إنشاء هيئة مستقلة لحماية المستهلك. وتضمنت التسهيلات النقدية استحداث 50 ألف وظيفة جديدة في القطاع العام، وإعانات بطالة شهرية جديدة بقيمة 390 دولاراً أميركياً، وخفض معدلات المساهمة في المعاشات التقاعدية لموظفي الخدمة المدنية، وزيادة الحد الأدنى للأجور في القطاع الخاص، وبدلات أعلى للطلاب الذين يعيشون بعيداً من بيوتهم، وتأمين رواتب لتغطية تكاليف معيشة أفراد الجيش والأمن، وزيادة بنسبة 100 في المئة في معاشات المسجلين في وزارة التنمية الاجتماعية، والتعهد بزيادة النفقات بنسبة 26 في المئة لتوفير المزيد من مزايا الرعاية الاجتماعية.

في صحار، فضّت قوات الأمن الاحتجاجات باستخدامها القوة والرصاص المطاطي والغاز مسيّل الدموع، واعتُقِل عشرات المتظاهرين، وقُتل اثنان. وفي الأشهر التالية، تم قمعُ أو اعتقال المتظاهرين الذين خرجوا أو نظّموا اعتصامات في مسقط وصور وصحار وصلالة. وفي 1 و28 آذار/ مارس، استخدم الجيش الذخيرة الحية والدبابات العسكرية، ثم وُضعت صحار تحت السيطرة العسكرية لمدة أسبوع. وعندما اندلعت تظاهرة تطالب بالمزيد من الوظائف وزيادة الأجور في صلالة في 14 أيار/ مايو، تدخّل الجيش وقطعت السلطات الاتصال بالإنترنت. وفي حزيران/ يونيو 2011، تلقّى أكثر من عشرة متظاهرين معتقلين أحكاماً بالسجن بتهمة قطع الطرق، وإهانة موظفي الخدمة المدنية، وإغلاق العمل في مؤسسة حكومية. تراوحت هذه الأحكام بين ستة أشهر وخمس سنوات. كما استُهدف الأشخاص الذين انتقدوا النظام ولكنهم لم يحتجوا عليه. في أيلول/ سبتمبر 2011، على سبيل المثال، اُلقِي القبض على محرر صحيفة اتهم وزارة العدل بالفساد وحُكم عليه بالسجن خمسة أشهر. وبعد شهر، صدر مرسوم ملكي يقيّد حرية التعبير، وبهذه الاستراتيجية، احتوى النظام الحدث الفوري وردَع المزيد من الاحتجاج في المستقبل. وكان الاحتجاج قد خمد بحلول منتصف نيسان/ أبريل 2011، على رغم تجدد بعض الاحتجاجات على نطاق أصغر في عامي 2012 و2013 وتم قمعها أيضاً.

في فترة ما بعد الربيع العربي، تغيّرت العلاقة بين الدولة والمجتمع، إذ زادت خيبة أمل عموم السكان، ولا سيّما الشباب، بالنظام، خصوصاً في ما يتعلّق بوعود الانفتاح السياسي وتوفير فرص العمل.

اندلعت احتجاجات وأعمال شغب وإضرابات وتجمّعات على مستوى البلاد رداً على الصعوبات الاقتصادية في كانون الثاني 2018 وكانون الأول/ ديسمبر 2018 وكانون الثاني 2019. وقد شملت مسقط وصحار وصور وصلالة، وشارك فيها آلاف الخريجين الجُدد والشباب العاطلين من العمل. واحتجّ المتظاهرون على معدلات البطالة المرتفعة والتدابير التقشفية التي اعتمدها النظام في كانون الثاني 2017 للتعويض عن انخفاض أسعار النفط وإنفاقه الزائد، لاحتواء انتفاضات 2011. وتضمّنت هذه الإجراءات خفض الإنفاق الحكومي على الإعانات بأكثر من 500 مليون ريال عماني في عامي 2015-2016. وتُمثّل البطالة مشكلة كبيرة في السلطنة، اذ تصل إلى نسبة 15 في المائة على الصعيد الوطني وشملت أكثر من 30 في المائة من شريحة الشباب عام 2017.

احتوى النظام هذه الاحتجاجات كلها، من خلال الحوافز المالية إلى جانب قمع المعارضة المستمرة على المدَيَين القصير والطويل. وثبّت النظام سعر البنزين العادي، فيما أبقى على ربط سِعرَي الديزل والبنزين الممتاز بأسعار النفط الخام العالمية. كما وعد بتوفير فرص عمل خلال 6 أشهر، وتقييد توظيف العمالة الأجنبية عام  2018، وإنشاء مركز وطني للبطالة عام 2019.  كما قمع المتظاهرين الذين ظلوا غير راضين وغير مقتنعين بهذه الوعود. وفي المدن الجنوبية، اعتُقل متظاهرون فور وصولهم إلى مواقع الاحتجاج، ومن غير الواضح ما إذا كان أُطلِق سراحهم لاحقاً أم لا يزالون قيد الاعتقال حتى الآن. كما واجه آخرون وحشية شرطة مكافحة الشغب، ووفقاً لـ”منظمة العفو الدولية”، اعتُقِل ما لا يقل عن 30 شخصاً ممن احتجوا على البطالة ثم أطلق سراحهم لاحقاً عام 2018.  وفي كانون الثاني 2019، اعتقلت قوات الشرطة صحفِيّين إذاعيين كانا يغطيان احتجاجاً ضد البطالة في مسقط، وبحسب التقارير فقد أُجبِر مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي الذين شاركوا في الاحتجاج على حذف الصور ومقاطع الفيديو التي التقطوها.  انتهت هذه الاحتجاجات في كانون الثاني 2019.

نظرة مستقبلية: علاقة الدولة والمجتمع بعد 2011

في فترة ما بعد الربيع العربي، تغيّرت العلاقة بين الدولة والمجتمع، إذ زادت خيبة أمل عموم السكان، ولا سيّما الشباب، بالنظام، خصوصاً في ما يتعلّق بوعود الانفتاح السياسي وتوفير فرص العمل. وفي الواقع، بلغت نسبة المشاركة في الانتخابات التشريعية الأخيرة عام 2015، 57 في المئة، مقارنة بـ76 في المئة عام 2011، ما يشير إلى أن العمانيين يشعرون بخيبة أمل من وعود التغيير السياسي أكثر مما كانوا عليه عام 2011.

بعد عشر سنوات من انتفاضات 2011، أصبح من الواضح إن الإصلاحات المحدودة التي أجراها النظام كانت تهدف إلى استرضاء المُحتجين واحتواء تهديد الاحتجاجات. وتُظهر الاعتقالات المتكرّرة للمتظاهرين والنشطاء والقيود المفروضة على حرية التعبير في عامي 2011 و2012، أن النظام يأبى التخلّي عن احتكاره السلطة (من خلال مشاركتها مع الهيئة التشريعية أو من خلال فتح المجال السياسي). ويدلُّ قمع النظام للمتظاهرين عامي 2018 و2019، إلى جانب الوعود بتوفير الوظائف، التي لم ينفذها بعد، على مشكلة رئيسة: لا تزال العلاقة بين الدولة والمجتمع في عُمان محكومة بنموذج الدولة شبه الريعية الذي لا يستطيع النظام تحمُّل الإبقاء عليه، ومن دون توفُّر الأموال لاسترضاء المتظاهرين، قد يلجأ النظام إلى زيادة القمع.

يواجه النظام استياءً متزايداً ناجماً عن الصعوبات الاجتماعية والاقتصادية، بخاصة أن الدولة تبنّت استراتيجية لخفض الإنفاق العام منذ عام  2014 ما سيضطرها إلى اعتماد إجراءات تقشفية، بسبب انخفاض أسعار النفط والتأثير الاقتصادي لجائحة “كورونا”. ومن المرجح أيضاً أن يواجه النظام خيبةَ أملٍ شعبية متزايدة من جراء عدم الوفاء بوعود الإصلاح التي قُطِعَت منذ عام 2011. ولن يكون الفاعلون الرئيسيون في الاحتجاج رؤساء القبائل أو الزعماء الدينيين أو الضباط العسكريين أو نخب رجال الاعمال، فكلهم يهدفون إلى الحفاظ على الوضع الراهن. بدلاً من ذلك، سيأتي الاحتجاج من الشباب العمانيين المتعلمين ومن الطبقة العاملة.

* تنشر مبادرة الإصلاح العربي هذه المقالة بالتعاون مع “تشاتام هاوس“، وهي جزء من سلسلة تتناول مستقبل الحوكمة والأمن في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وتأثيرهما في دور الدولة في المنطقة.

إقرأوا أيضاً: