fbpx

“غبريال مارتينيز غرو” يقرأ تاريخ الإسلام برفقة ابن خلدون

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

يشير مارتينيز غرو إلى أنّ تعبير “الحضارة العربية- الإسلامية” يعاني من تناقض ظاهري إذ أنّى لـ”بدو” بناء حضارةٍ؟ غير أنّه يسارع إلى التذكير بدور الترجمة في حسم هذا التناقض

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

في النصف الثاني من القرن الحادي عشر الميلادي، ازداد وَهن الخلفاء العباسيّين العرب في بغداد ازدياداً نوعيّاً، بعد وقوعهم تحت وصاية السلاطين السلاجقة التُرك. وفي الحقبة ذاتها، تمّ تطويع الخلفاء الفاطميين العرب في القاهرة من قِبَل الحاكم العسكري اﻷرمني بدر الجمالي، متبوعاً بابنه “اﻷفضل”. أمّا خلفاء اﻷندلس اﻷمويون العرب، فكانوا اندثروا في النصف اﻷوّل من القرن المذكور، وذلك في سياق فتنةٍ كان من بين أبرز لاعبيها مسلمون ولكن من قوم “البربر”.

إنّ انتهاء أسبقيّة العرب في تلك الدول أو الممالك الإسلامية هو الذي جعل المؤرّخ الفرنسي غبريال مارتينيز-غرو يعتمد نهاية القرن الحادي عشر الميلادي حدّاً زمنياً لموضوع كتابه اﻷخير. والبحث، في قسمه اﻷكبر، عبارةٌ عن توليفة نوعيّة لفكر ابن خلدون وتحديداً للجزءين الثالث والرابع من “كتاب العِبَر”، اللذين لم تُنْقَل منهما إلى اللغة الفرنسية سوى مقاطع قليلة حتى اﻵن، وذلك بحجّة أنّ مؤسس علم العُمران اكتفى فيهما بنقل مصادر أسلافه ولم يأت بأي جديد. وهي حجّةٌ لا تُقْنِع الباحث الذي يغمز من قناة سذاجة بعض زملائه الذين لا يدرون أنّ أعمالهم تعاني من انعدام الفرادة، إذ إنّهم هم أيضاً يكتفون بالمعلومات الواردة في مصادرهم ولا يأتون بأيّ معطى إضافي.

الزمن التاريخي

من خلال عمله واستناداً إلى طروحات المؤرّخ الألماني راينهارت كوزيليك ونظيره الفرنسي فرنسوا هارتوغ، يسعى مارتينيز غرو إلى حثّ زملائه على تغيير طريقة النظر إلى الزمن التاريخي وإلى التراتبية بين الحاضر والماضي والمستقبل. فقبل الثورة الصناعية اﻷولى وعلى امتداد آلاف السنين، اعْتُبِرَ الماضي عصراً ذهبيّاً ولم يكن الحاضر سوى صدى خافت له. ثم انطلاقاً من النصف الثاني من القرن الثامن عشر، افْتُتِحَت حقبة تأريخيّة جديدة أضحى فيها المستقبل “المُضيء دوماً” مفتاح فهم الحاضر والماضي. ويرى الكاتب أنّ تلك الحقبة آيلة إلى الأفول اليوم، إذ إنّ التأريخ التقدّمي المهووس بالمستقبل وبالنموذج الغربي فقد الكثير من قدرته على الإقناع، وسط  زمنٍ لا يتميّز بأزمات الاقتصاد المُعَوْلَم المتكرّرة وبتداعياتها في مجالات الصحّة والبيئة والمناخ فحسب، بل يكشف محدوديّة تأثير اﻷنظمة السياسية الغربية في أكثر من منطقة في العالم.

 لذا، لا بدّ من قطيعة منهجية تنقلنا من الشغف بـ”مستقبلٍ ذي أغوارٍ مُتَعَذِّر سَبْرُها” إلى الالتفات إلى “ماضٍ ذي مُدَوَّنة مُحْكَمة” تُسهّل عمل المؤرّخ. ويبدو أنّ الاعتماد على إبن خلدون يساعدنا في ذلك. فخلافاً للزمن الذي نشأ فيه مارتينيز-غرو حيث لَحْظُ ظواهر التقدّم والتغيّر و”الارتعاش أمام آفاق لامتناهية” كانا سيّدي الموقف، تتيح العودة اليوم إلى كاتبٍ عاش في القرن الرابع عشر(1332-1406م) لَحْظ ظواهر أكثر بنيويّة بواسطة إطارات تحليل ومصطلحات تتبدّى مع اﻷيّام فائدتها في فهم عالمنا المعاصر

غرو في حديث اذاعي عن كتابه

وفي وجه الذين ينعتون بالـ”دَوريّ” مفهوم التاريخ عند إبن خلدون، ينبري الباحث لردّ “التهمة” ويشير إلى أنّ “الدورة” عند صاحب “كتاب العِبَر”، على غرار “البنية” عند عالم اﻹناسة الفرنسي كلود ليفي-ستروس(1908-2009)، تشكّل مُقتضى فهمٍ علمي ليس إلاّ. علاوة على ذلك، يصرّ مارتينيز-غرو على ضرورة التمييز بين “التكرار” و”التماثُل” ويعطي مثلاً ملموساً في توطئة القسم الثاني من الكتاب قبل أنّ يشرحه باستفاضة في الفصول اللاحقة. فعند ابن خلدون الذي يرى في قرون الاسلام اﻷولى سلسلة حَيَوات متتابعة يبلغ عمر كلّ واحدة منها 120 سنة تُقَسَّم إلى ثلاثة أجيال، يبلغ عمر الواحد منها 40 عاماً، تُميِّز عمليّة التَبَلْوُر الحضاري الجيل الثاني من كل حياة. غير أنّ معنى تلك العمليّة يختلف من قرن إلى آخر؛ ولئن تُرْجِمَ  التَبَلْوُر الحضاري اﻷوّل الذي حصل بين عامي 700 و740، بمبادرة الدولة اﻷمويّة إلى نزع سلاح قسم مُعْتَبَر من البدو الذين حلّوا في العراق آتين من صحراء شبه الجزيرة العربية قبل نحو نصف قرن وإلى إخضاعهم للضرائب، فقد تميّز التَبَلْوُر الحضاري الثاني الذي حدث بين عامي 820 و860 بانبثاقه عن عوام مدينة بغداد الذين عارضوا نهج الدولة العباسية الفكري، بشخص خليفتها المأمون ومن تولّى الحكم بعده، فساندوا رجال دين حاضرتهم في مقاومتهم غير المسلّحة، إلى أن نجحوا، مع تسلّم الخليفة المتوكّل مقاليد السلطة بعد محنة دامت زهاء 15 سنة، في إخضاع الدولة لمطالبهم، وعلى رأسها تحييد الشأن الديني عن سلطات الخليفة وتمتُّع فئة العلماء بالاستقلاليّة في هذا المجال.

إذاً، بين دولة تنزع سلاح معظم رعاياها وتجبي منهم اﻹتاوة ودولة تضطرّ إلى تلبية الأماني العقيديّة لسكّان عاصمتها غير المسلّحين، اختلف معنى التَبَلْوُر الحضاري من قرن إلى آخر ولم يكرّر التاريخ نفسه. فمفهوم التاريخ عند ابن خلدون، أقلَّهُ حتى نهاية القرن الحادي عشر، حلزونيٌّ أكثر منه دوريّز

ابن خلدون

من خلال تعويمه لجهود إبن خلدون، يتمايز الباحث الفرنسي عن زملائه المنتمين إلى تيّار “التاريخ العالمي” أو ” التاريخ  المترابط”. وإذ لا يَشُكُّ في حسن نيّتهم، فإنّه يُلمّح إلى سذاجتهم ﻷنّهم يبدون غير دارين بأنّ هذه المنهجية ستؤدي حتماً إلى اتّخاذ تاريخ الغرب، بما يحويه من سمات تفوّق واستثناء، معياراً للحكم على المسارات التاريخية للفضاءات الثقافية اﻷخرى. وتلافياً لهذا المنزلق، يدعو مارتينيز-غرو صراحةً إلى “فك روابط” تلك المسارات، وهو فكٌّ لا تترتّب عليه مصاعب عندما يتعلّق اﻷمر بالإسلام. فعلى غرار الغرب والصين، فكّر الإسلام في تاريخه وكانت الحصيلة نتاجاً كتابيّاً غزيراً أكبّ الباحث الفرنسي على قراءته فتنبّه إلى أهميّة الطبري(839-923) وابن اﻷثير (1160-1232 م) قبل أن يقع خياره اﻷخير على ابن خلدون، ويقرّر توليف فَصْلَي “كتاب العِبَر” المذكورَين أعلاه لاسهامهما في تقديم “تاريخٍ إسلاميٍّ للإسلام”، لعلّه يساهم في تبيان حدود السرديّات الغربية. فعلى رغم اختلافها في مسائل عدة كتحقيب تاريخ الإسلام وتقييم مضامينه الاجتماعية ووصف طبيعة العلاقة بين العرب والفرس، تتّفق تلك السرديّات، ومن حيث لا تدري، على اعتماد تاريخ الغرب  كـ”وجه ميداليّةٍ قفاها الاسلام أو كحلمٍ تحقّق كان الإسلام كابوسه”.

ولعلّ أنجع وسيلة لتذليل عقبة المقارنة مع الغرب تكمن في اللجوء إلى كتّاب كالطبري وإبن اﻷثير وابن خلدون، لم يكن بمقدورهم توقّع انتصار الغرب وفرضه قواعد اللعبة على العالم أجمع، فتمتّعوا وقتذاك بـ”سعادة جهل ما سوف يحدث لاحقاً”، على حدّ تعبير مارتينيز غرو. 

التاريخ الطبري

من تاريخ الطبري، سيستلهم ابن خلدون طريقة التحقيب وإن لم تتناسب أجيال حَيَواته الـ3 مع ثنائية الخلافة والولاية التي تُميّز قرون الاسلام اﻷولى عند سلفه. ولمّا كان الغرب الإسلامي شبه غائب في تاريخ الطبري، ارتكز ابن خلدون على عمل ابن اﻷثير الذي تناول المنطقة الممتدّة من الشام إلى اﻷندلس، في إطار تناظُرٍ مع الشرق الإسلامي الممتدّ من العراق إلى “بلاد ما وراء النهر” أو ما يُعْرَف اليوم بآسيا الوسطى.

والتناظُر هذا ليس جغرافيّاً بحتاً، إنّما هو تاريخيٌ أيضاً فمن خلال الانتقال الدوري من هيمنة الشرق الاسلامي إلى هيمنة الغرب الإسلامي يتمّ فهم تحقيب إبن اﻷثير للقرون الأربعة اﻷولى. وسوف يستعيد ابن خلدون في “كتاب العِبَر” منطق هذا التحقيب الذي تبدو تواريخ كلّ مرحلة فيه غير اعتيادية، كما سبق له أن استعاد في “مقدّمته” جغرافيا اﻹدريسي التي تجعل من نهر الفرات محور العالم القديم. 

والفرات كمحور، صورةٌ مكّنت الكاتب من إجراء مقارنة أخّاذة بتفاصيلها بين طرفي العالم الاسلامي في القرن العاشر (م.)، أي بين إمارة بُخارى السامانية وخلافة قُرطُبة اﻷمويّة. إلاّ أنّ الفرات كـ”حدّ يصرّ بعناد على الانبعاث من جديد بعد كلّ محاولة لتوحيد ضفّتيه”، صورةٌ تبدو أصدق تعبيراً في عيون الباحث الذي يُذكّر أكثر من مرّة بتقدّم الشرق الإسلامي على الغرب الاسلامي في مجال التحضّر ويُرجعه إلى خلل الفتوحات اﻷساسي. ففيما استطاع الفاتحون العرب القضاء على الدولة الفارسية الساسانية قضاءً سريعاً وتامّاً حتّم لاحقاً على نُخَبها الإسهام في بناء حضارة جديدة، أي الحضارة العربية، لم يُفلح الفاتحون “إيّاهم” في كبح صمود الدولة الرومانية البيزنطية التي احتفظت عموماً بزبدة نُخَبها، وإن ضاقت رقعتها الجغرافية على وجهٍ ملحوظ.

فإذا كان قرار الخليفة اﻷموي عبدالملك بن مروان تعريب إدارة الدولة انطلاقاً من الشام حاسماً في بناء حضارة عربية، فإنّ تلك اﻷخيرة مَدينةٌ، أقلّه في الجانب اللغوي، لنُخَب العراق الفارسية. وهنا تبرز فكرة مارتينيز غرو بتكرارها على امتداد صفحات الكتاب: خلافاً لقبائل أخرى في العالم ذابت ولو بعد حين في حضارة الشعوب المهزومة – وهو حال قبائل جرمانية مثلاً وهي التي انتهى بها اﻷمر، بعد غزوها الامبراطورية الرومانية، إلى اعتماد اللغة اللاتينية واعتناق الدين المسيحي-  لم يتبنّ العرب الدين واللغة السائدين في المجالات التي احتلّوها. بيد أنّ ذلك لا يعني أنّهم لم يتأثّروا بثقافة الشعوب التي خضعت لسيطرتهم. فالحضارة العربية الإسلامية التي نشأت في الشام، وبخاصة في العراق، حضارةٌ تتميّز بطابعها “المُتَرْجَم”. صحيحٌ أنّ العرب فرضوا تدريجياً على الشعوب المحتلّة لغةً جديدة، لكنّهم أبدوا استعداداً لاستيعابها خبرات تلك الشعوب بحيث أضحت جديدةً على الطرفين. فالعربيّة التي نظّمها ونمّقها وأغناها لغويّون وأدباء فرس كانوا لا يتحدّثون بها في حياتهم اليومية، ليست نفسها العربيّة التي كان يتكلّم بها الفاتحون. وليست مصادفة أن يكون أوّل عمل نثري عربي عبارة عن ترجمة قام بها الفارسي ابن المقفّع الذي نقل إلى العربية النسخة الفارسية من كتاب “كليلة ودمنة” الهندي.

وابن المقفّع الذي عاش في البصرة مثّل مدرسةً في النحو ركّزت على القواعد والانتظام واﻷناقة والتبسيط، في حين أصرّت مدرسة الكوفة على عدم التخلّي عن الغنى الهائل للمصطلحات التي تحتويها لهجات شبه الجزيرة العربية. في هذا السياق، يلاحظ الباحث الفرنسي أنّ اللغة العربية “الكلاسيكية” ناتجة عن توتّر خلاق بين تلك المدرستين: ” من جهة جملةٌ مُحْكَمةٌ وأشكالٌ قابلةٌ للشرح تُفرِح المُبتدئ. ومن جهة أخرى، بحرٌ من المفردات يُشجي المثقفين ويُفحِم العاميين”.

ثنائية البدو والحضارة

بالعودة إلى تكوين المجال العربي الاسلامي كمجال حضاري، يشير مارتينيز غرو إلى أنّ تعبير “الحضارة العربية- الإسلامية” يعاني من تناقض ظاهري إذ أنّى لـ”بدو” بناء حضارةٍ؟ غير أنّه يسارع إلى التذكير بدور الترجمة في حسم هذا التناقض وإلى التنويه بفضلها على ولادة كيان غير مسبوق في التاريخ يصفه الكاتب، على سبيل الدُعابة، بـ”حضارة البرابرة”. وإلى جانب “الحضارة المُتَرْجَمة”، ثمّة ظاهرةٌ أخرى احتلّت موقعاً محوريّاً في الكتاب وهي ظاهرة “الفتح بواسطة المهزومين”، وذلك منذ بدايات الإسلام وعلى امتداد قرونه اﻷولى. بالفعل، ففيما أضحى مهزومو بني أميّة على يد المسلمين في الحجاز في صُلب فتح الشام بعد اعتناقهم الدين الجديد، حلّ مهزومو “حروب الردّة” في المناطق الشرقية لشبه جزيرة العرب في صُلب فتح بلاد الرافدين بعد عودتهم عن “الارتداد”. ومن جهتهم، وغداة هزيمتهم على يد حسّان بن النعمان في المغرب اﻷدنى (أفريقيا) أواخر القرن السابع (م.)، شارك “البربر” في الفتح الإسلامي للمغرب اﻷوسط واﻷقصى. وفي ما بعد، شرع الخُراسانيون في فتح صقلية بعدما هزمهم اﻷغالبة في المغرب اﻷدنى. أمّا المرابطون الذين ولجوا دار الإسلام انطلاقاً من صحراء القارة الأفريقية في القرن الحادي عشر، فوسّعوا رقعة دولتهم في المغرب اﻷقصى على وقع هجماتٍ قادتها القبائل التي سبق وهُزِمَت على أيديهم.

 لجميع تلك الفتوحات منطقٌ يفسّره الباحث على الوجه الآتي:  لكي لا  يقوم المنتصرون بجباية اﻹتاوة من المهزومين، اعتنق اﻷخيرون عقيدة اﻷوّلين وانخرطوا كلّيًّا في فتوحاتهم العسكرية التي تجنّبوا بفضلها مخالفة قيمة ثقافية غالية في وجدانهم حيث يُعْتَبَر دافع الضريبة شخصاً مُهاناً.

وبغضّ النظر عن صوابيته، يلتقي جزئيّاً هذا التفسير اﻷنتروبولوجي مع طرح علي الوردي. ولعلّ أحد عيوب كتاب مارتينيز غرو يكمن في خلوّه من أي إشارة إلى أعمال عالم الاجتماع العراقي، بخاصة أنّ اﻷخير قارب مصطلح البداوة على وجهٍ يغاير بعض الشيء ما ذهب الباحث الفرنسي إليه. فخلافاً لمارتينيز-غرو، لم يكتف علي الوردي بالعامل السياسي  لتعريف البداوة كنظام يرفض الخضوع لسلطة الدولة ولنظامها الضريبي، بل شدّد على العامل الجغرافي إذ لا بداوة في نظره خارج البيئة الصحراوية 

مهما يكن هذا التباين في تأويل أفكار ابن خلدون، وهو ليس موضوع المقال، تنبغي الإشارة إلى غياب مراجع أخرى في الكتاب. وإذا كان مفهوماً، نظراً إلى اختلاف السياق، عدم ذكر جان باتيست دوروزيل، صاحب كتاب “مآل كل إمبراطورية الاندثار”، وذلك في معرض تكرار مارتينيز غرو قولاً معاكساً مفاده استحالة اندثار الممالك بأطرها ومدنها الرئيسيّة على رغم تبدّل السلالات الحاكمة واﻷنظمة السياسية، فإنّ عدم العثور على اسم إرنِسْت غِللنِر، حتىّ في قائمة المراجع، أمرٌ مثيرٌ للاستغراب نوعاً ما. 

صحيحٌ أنّ دراسة عالم اﻹناسة البريطاني من أصل تشيكي حول “أولياء اﻷطلس” اقتصرت مبدئيّاً على المغرب اﻷقصى، إلاّ  أنّها احتوت على تصنيفٍ للقبائل قد يكون، إلى حدٍّ ما، قابلاً للتعميم في المكان والزمان الإسلاميَين. في هذا العمل، وُصِفَت بـ”الخِرفان” القبائل المنزوعة السلاح والخاضعة لسلطة الدولة، وبـ”كلاب الرُعاة” القبائل التي تجبي اﻹتاوة لمصلحة الدولة، وبـ”الذئاب” القبائل التي ترفض النظام الضريبي برمّته وتعيش خارج كنف الدولة. 

بدوره، ميّز مارتينيز غرو بين “برابرة الداخل” و”كبار البرابرة”، متّبعاً بذلك منطق استعارة غِللنر الحيوانية وإن لم يتبنّها حرفيّاً. فالباحث الفرنسي أعطى أمثلة عدة تُظهر جيّداً كيف يقوم رعايا الدولة، عندما يضيقون ذرعاً بممارسات الطُغَم القبلية – العسكرية، باستدعاء قبائلَ أشدّ بأساً من تلك الطُغَم ولكن أقلّ اضطهاداً لهم. ولا تلبث تلك القبائل مع دخولها الحواضر أن تتصارع في ما بينها إلى أنّ يستتبّ اﻷمر لسلالة بعينها تقوم من أجل توطيد حُكمها بترحيل قسم مُعْتَبَر من أقاربها إلى مناطق طَرَفيّة. مع ذلك، تتحوّل تدريجيّاً تلك المناطق إلى ما يسمّيه مارتينيز غرو “مستودعات المملكة”، نظراً إلى حفاظها على عصبيّةٍ تُخوّلها لتكون على أتمّ الاستعداد لقيام المنفيين فيها بحملات جهادية لمصلحة الدولة. كما تجعل منها أكثر مناطق المملكة صموداً بعد دخول اﻷخيرة مرحلة الانحطاط. 

إضافة إلى النقص في المراجع، ثمّة هفوةٌ أخرى تكمن في عدم مواكبة الكاتب التطوّر التأريخي في بعض المواضيع. فعند تطرّقه للكيانَين العربيَين اللذين كانا يقعان جنوب الشام وجنوب الرافدين قبل ولادة الإسلام، أبقى  مارتينيز غرو، في نصّه وفي خرائطه، على تسميتَي “الغساسنة” و”اللخميين”، في حين يميل عددٌ متزايدٌ من زملائه الفرنسيين منذ بضع سنوات إلى استبدالهما تباعاً بـ”الجَفنيين” وبـ”النصريين”، كما يدلّ على ذلك كتاب الباحثة فرنسواز ميشو المرجعي حول بدايات الاسلام. وعند تناوله سياسة المأمون الدينية، يبدو مارتينيز غرو متفّقاً مع الذين لا يزالون يخلطون بين فرض الخليفة العباسي عقيدة “القرآن المخلوق”، وهو إجراءٌ لا شكّ في صحّة حدوثه، وانتماء الخليفة نفسه إلى عقيدة المعتزلة برمّتها، وهو أمرٌ يخضع اليوم للنقاش بين مؤرخين، كما يظهر ذلك في كتاب جماعي مهم أشرف على إعداده اﻷساتذة الجامعيون تييري بيانكيس وبيار غيشار وماتيو تيلييه.

قبل اختتام هذه المراجعة، لا بدّ من اﻹشارة إلى نقطة في الكتاب قد تكون اﻷكثر عرضةً لسوء الفهم وإثارةً للسجال بالتالي، وهي مفهوم مارتينيز غرو لعلاقة الدولة العباسيّة مع المذهب الشيعي.

إنّ المُعتاد عند تناول هذه المسألة هو عدم اعتبار انتقال المُلك من سلالة اﻷمويين إلى سلالة العباسيين انتقالاً من حُكم السنّة إلى حُكم الشيعة، وذلك حتى ولو ساهم تحالف أحفاد علي بن أبي طالب مع أحفاد العبّاس (عمّ محمّد، نبيّ المسلمين) في اﻹطاحة بالدولة اﻷموية. بالفعل، عشيّة ولادة الدولة الجديدة، نشأ خلافٌ بين فرعَي “العشيرة” الهاشمية تبعته لاحقاً تمرّدات “علويّة” – نسبةً إلى سلالة علي بن أبي طالب وليس إلى فرقة “الغُلاة” التي سوف تنشأ لاحقاً. ولئن حاول الخليفة المأمون في ما بعد مصالحة الفرعين عبر تعيينه أحد أحفاد الحسين وليّاً لعهده وتبنّيه لون العلويين اﻷخضر، فسرعان ما قام بفكّ ذلك التحالف بعد ممات وليّ العهد هذا وتبنّى مجدّداً لون العباسيين اﻷسود. 

مشكلة هذه الرواية، في نظر مارتينيز غرو، لا تكمن في وقائعها التي يقرّ الباحث بمعظمها ولا يبخل أبداً بإمدادنا بشتّى التفاصيل المتعلّقة بها. المشكلة بالنسبة إليه هي في حصر تلك الرواية تعريف آل البيت بالعلويين بينما يرى هو أنّ آل البيت هم جميع الهاشميين، بمن فيهم العباسيون. وأن تكون شيعيّاً في منتصف القرن الثامن، أي في زمنٍ لم تكن المذاهب الفقهية والعقيدية – شيعيّةً كانت أم سنيّة –  قد تبلورت فعليّاً بعد، هو أن تطالب باسترجاع حقّ آل البيت (بمفهومه الموسَّع) في الحكم. وعلى هذا المطلب، ارتكز فعلاً أحفاد العباس لِيُشَرْعِنوا تمرّدهم على اﻷمويين، حتى بعد نشوب خلافهم مع أحفاد علي بن أبي طالب.

والتذكير بأحقيّة الهاشميين بالخلافة استمرّ حتى بعد استقرار الدولة العبّاسية وبدا بالنسبة إلى مارتينيز غرو عنصراً جوهريّاً في تشكّل الفكر الشيعي كـ”مذهب المملكة الرسمي”. ولكن، عند وصول المتوكّل إلى سدّة الحكم في منتصف القرن التاسع، رضخ اﻷخير لمطلب العلماء السنّة بتحييد الشؤون الدينية عن مهمات الخليفة.

هذا المنحى الاستقلالي عند العلماء السنّة يذكره الباحث بإصرارٍ يجعل القارئ يظنّ أن أنصار “الدين المحض” في الإسلام هم السنّة، فيما الشيعة هم أنصار “دين الدولة”.

غير أنّ القصّة هنا هي قصّة تحديد مصطلحات. فإذا لم يتّفق قارئٌ ما مع توسيع مفهوم الشيعة على النحو الذي ذهب إليه الكاتب، مُفَضِّلاً حصر هذا المفهوم بالشيعة اﻹمامية، أي بالذين يتبعون نهج جعفر الصادق الداعي إلى فصل الشؤون الدينية عن الشؤون السياسية عبر تمييزه بين اﻹمامة والخلافة، يُضحي تعريف الشيعة بأنّهم أنصار “دين الدولة” تعريفاً غير صائبٍ. وإذا لم يقتنع قارئٌ آخر بحصر مفهوم السنّة بنتاج أتباع إبن حنبل من علماء أهل الحديث، مُفضّلاً توسيعه ليشمل نهج الخلفاء العبّاسيين، باستثناء المأمون والمعتصم والواثق، يُصبح تعريف السنّة بأنّهم أنصار “الدين المحض في الإسلام” غير صائبٍ بدوره…

في جميع اﻷحوال، على رغم هذه النقطة المُلتبسة والهفوات اﻵنفة الذكر، يبقى كتاب غبريال مارتينيز غرو عملاً شيّقاً، مضموناً وصوغاً، ويتّخذ فوق ذلك، وبشكلٍ غير مباشر، طابعَ الوصيّة. فكأنّما اﻷستاذ الباريسي المُحال لتوّه على التقاعد والذي تخرّج على يديه عددٌ من أبرز الباحثات والباحثين في مجال تاريخ الإسلام يقول: موضة “التاريخ العالمي” أو “التاريخ المترابط” جديرة بالمتابعة وأعمال الزملاء المنتمين إلى التيّارات التشكيكيّة مهمّة طبعاً، ولكن ليس على حساب المقاربة الذكيّة (لا الجامدة والببّغائية) للتراث العربي-الاسلامي، “احفظوا قديمكم، جديدكم لا يدوم”…

12.01.2020
زمن القراءة: 12 minutes

يشير مارتينيز غرو إلى أنّ تعبير “الحضارة العربية- الإسلامية” يعاني من تناقض ظاهري إذ أنّى لـ”بدو” بناء حضارةٍ؟ غير أنّه يسارع إلى التذكير بدور الترجمة في حسم هذا التناقض

في النصف الثاني من القرن الحادي عشر الميلادي، ازداد وَهن الخلفاء العباسيّين العرب في بغداد ازدياداً نوعيّاً، بعد وقوعهم تحت وصاية السلاطين السلاجقة التُرك. وفي الحقبة ذاتها، تمّ تطويع الخلفاء الفاطميين العرب في القاهرة من قِبَل الحاكم العسكري اﻷرمني بدر الجمالي، متبوعاً بابنه “اﻷفضل”. أمّا خلفاء اﻷندلس اﻷمويون العرب، فكانوا اندثروا في النصف اﻷوّل من القرن المذكور، وذلك في سياق فتنةٍ كان من بين أبرز لاعبيها مسلمون ولكن من قوم “البربر”.

إنّ انتهاء أسبقيّة العرب في تلك الدول أو الممالك الإسلامية هو الذي جعل المؤرّخ الفرنسي غبريال مارتينيز-غرو يعتمد نهاية القرن الحادي عشر الميلادي حدّاً زمنياً لموضوع كتابه اﻷخير. والبحث، في قسمه اﻷكبر، عبارةٌ عن توليفة نوعيّة لفكر ابن خلدون وتحديداً للجزءين الثالث والرابع من “كتاب العِبَر”، اللذين لم تُنْقَل منهما إلى اللغة الفرنسية سوى مقاطع قليلة حتى اﻵن، وذلك بحجّة أنّ مؤسس علم العُمران اكتفى فيهما بنقل مصادر أسلافه ولم يأت بأي جديد. وهي حجّةٌ لا تُقْنِع الباحث الذي يغمز من قناة سذاجة بعض زملائه الذين لا يدرون أنّ أعمالهم تعاني من انعدام الفرادة، إذ إنّهم هم أيضاً يكتفون بالمعلومات الواردة في مصادرهم ولا يأتون بأيّ معطى إضافي.

الزمن التاريخي

من خلال عمله واستناداً إلى طروحات المؤرّخ الألماني راينهارت كوزيليك ونظيره الفرنسي فرنسوا هارتوغ، يسعى مارتينيز غرو إلى حثّ زملائه على تغيير طريقة النظر إلى الزمن التاريخي وإلى التراتبية بين الحاضر والماضي والمستقبل. فقبل الثورة الصناعية اﻷولى وعلى امتداد آلاف السنين، اعْتُبِرَ الماضي عصراً ذهبيّاً ولم يكن الحاضر سوى صدى خافت له. ثم انطلاقاً من النصف الثاني من القرن الثامن عشر، افْتُتِحَت حقبة تأريخيّة جديدة أضحى فيها المستقبل “المُضيء دوماً” مفتاح فهم الحاضر والماضي. ويرى الكاتب أنّ تلك الحقبة آيلة إلى الأفول اليوم، إذ إنّ التأريخ التقدّمي المهووس بالمستقبل وبالنموذج الغربي فقد الكثير من قدرته على الإقناع، وسط  زمنٍ لا يتميّز بأزمات الاقتصاد المُعَوْلَم المتكرّرة وبتداعياتها في مجالات الصحّة والبيئة والمناخ فحسب، بل يكشف محدوديّة تأثير اﻷنظمة السياسية الغربية في أكثر من منطقة في العالم.

 لذا، لا بدّ من قطيعة منهجية تنقلنا من الشغف بـ”مستقبلٍ ذي أغوارٍ مُتَعَذِّر سَبْرُها” إلى الالتفات إلى “ماضٍ ذي مُدَوَّنة مُحْكَمة” تُسهّل عمل المؤرّخ. ويبدو أنّ الاعتماد على إبن خلدون يساعدنا في ذلك. فخلافاً للزمن الذي نشأ فيه مارتينيز-غرو حيث لَحْظُ ظواهر التقدّم والتغيّر و”الارتعاش أمام آفاق لامتناهية” كانا سيّدي الموقف، تتيح العودة اليوم إلى كاتبٍ عاش في القرن الرابع عشر(1332-1406م) لَحْظ ظواهر أكثر بنيويّة بواسطة إطارات تحليل ومصطلحات تتبدّى مع اﻷيّام فائدتها في فهم عالمنا المعاصر

غرو في حديث اذاعي عن كتابه

وفي وجه الذين ينعتون بالـ”دَوريّ” مفهوم التاريخ عند إبن خلدون، ينبري الباحث لردّ “التهمة” ويشير إلى أنّ “الدورة” عند صاحب “كتاب العِبَر”، على غرار “البنية” عند عالم اﻹناسة الفرنسي كلود ليفي-ستروس(1908-2009)، تشكّل مُقتضى فهمٍ علمي ليس إلاّ. علاوة على ذلك، يصرّ مارتينيز-غرو على ضرورة التمييز بين “التكرار” و”التماثُل” ويعطي مثلاً ملموساً في توطئة القسم الثاني من الكتاب قبل أنّ يشرحه باستفاضة في الفصول اللاحقة. فعند ابن خلدون الذي يرى في قرون الاسلام اﻷولى سلسلة حَيَوات متتابعة يبلغ عمر كلّ واحدة منها 120 سنة تُقَسَّم إلى ثلاثة أجيال، يبلغ عمر الواحد منها 40 عاماً، تُميِّز عمليّة التَبَلْوُر الحضاري الجيل الثاني من كل حياة. غير أنّ معنى تلك العمليّة يختلف من قرن إلى آخر؛ ولئن تُرْجِمَ  التَبَلْوُر الحضاري اﻷوّل الذي حصل بين عامي 700 و740، بمبادرة الدولة اﻷمويّة إلى نزع سلاح قسم مُعْتَبَر من البدو الذين حلّوا في العراق آتين من صحراء شبه الجزيرة العربية قبل نحو نصف قرن وإلى إخضاعهم للضرائب، فقد تميّز التَبَلْوُر الحضاري الثاني الذي حدث بين عامي 820 و860 بانبثاقه عن عوام مدينة بغداد الذين عارضوا نهج الدولة العباسية الفكري، بشخص خليفتها المأمون ومن تولّى الحكم بعده، فساندوا رجال دين حاضرتهم في مقاومتهم غير المسلّحة، إلى أن نجحوا، مع تسلّم الخليفة المتوكّل مقاليد السلطة بعد محنة دامت زهاء 15 سنة، في إخضاع الدولة لمطالبهم، وعلى رأسها تحييد الشأن الديني عن سلطات الخليفة وتمتُّع فئة العلماء بالاستقلاليّة في هذا المجال.

إذاً، بين دولة تنزع سلاح معظم رعاياها وتجبي منهم اﻹتاوة ودولة تضطرّ إلى تلبية الأماني العقيديّة لسكّان عاصمتها غير المسلّحين، اختلف معنى التَبَلْوُر الحضاري من قرن إلى آخر ولم يكرّر التاريخ نفسه. فمفهوم التاريخ عند ابن خلدون، أقلَّهُ حتى نهاية القرن الحادي عشر، حلزونيٌّ أكثر منه دوريّز

ابن خلدون

من خلال تعويمه لجهود إبن خلدون، يتمايز الباحث الفرنسي عن زملائه المنتمين إلى تيّار “التاريخ العالمي” أو ” التاريخ  المترابط”. وإذ لا يَشُكُّ في حسن نيّتهم، فإنّه يُلمّح إلى سذاجتهم ﻷنّهم يبدون غير دارين بأنّ هذه المنهجية ستؤدي حتماً إلى اتّخاذ تاريخ الغرب، بما يحويه من سمات تفوّق واستثناء، معياراً للحكم على المسارات التاريخية للفضاءات الثقافية اﻷخرى. وتلافياً لهذا المنزلق، يدعو مارتينيز-غرو صراحةً إلى “فك روابط” تلك المسارات، وهو فكٌّ لا تترتّب عليه مصاعب عندما يتعلّق اﻷمر بالإسلام. فعلى غرار الغرب والصين، فكّر الإسلام في تاريخه وكانت الحصيلة نتاجاً كتابيّاً غزيراً أكبّ الباحث الفرنسي على قراءته فتنبّه إلى أهميّة الطبري(839-923) وابن اﻷثير (1160-1232 م) قبل أن يقع خياره اﻷخير على ابن خلدون، ويقرّر توليف فَصْلَي “كتاب العِبَر” المذكورَين أعلاه لاسهامهما في تقديم “تاريخٍ إسلاميٍّ للإسلام”، لعلّه يساهم في تبيان حدود السرديّات الغربية. فعلى رغم اختلافها في مسائل عدة كتحقيب تاريخ الإسلام وتقييم مضامينه الاجتماعية ووصف طبيعة العلاقة بين العرب والفرس، تتّفق تلك السرديّات، ومن حيث لا تدري، على اعتماد تاريخ الغرب  كـ”وجه ميداليّةٍ قفاها الاسلام أو كحلمٍ تحقّق كان الإسلام كابوسه”.

ولعلّ أنجع وسيلة لتذليل عقبة المقارنة مع الغرب تكمن في اللجوء إلى كتّاب كالطبري وإبن اﻷثير وابن خلدون، لم يكن بمقدورهم توقّع انتصار الغرب وفرضه قواعد اللعبة على العالم أجمع، فتمتّعوا وقتذاك بـ”سعادة جهل ما سوف يحدث لاحقاً”، على حدّ تعبير مارتينيز غرو. 

التاريخ الطبري

من تاريخ الطبري، سيستلهم ابن خلدون طريقة التحقيب وإن لم تتناسب أجيال حَيَواته الـ3 مع ثنائية الخلافة والولاية التي تُميّز قرون الاسلام اﻷولى عند سلفه. ولمّا كان الغرب الإسلامي شبه غائب في تاريخ الطبري، ارتكز ابن خلدون على عمل ابن اﻷثير الذي تناول المنطقة الممتدّة من الشام إلى اﻷندلس، في إطار تناظُرٍ مع الشرق الإسلامي الممتدّ من العراق إلى “بلاد ما وراء النهر” أو ما يُعْرَف اليوم بآسيا الوسطى.

والتناظُر هذا ليس جغرافيّاً بحتاً، إنّما هو تاريخيٌ أيضاً فمن خلال الانتقال الدوري من هيمنة الشرق الاسلامي إلى هيمنة الغرب الإسلامي يتمّ فهم تحقيب إبن اﻷثير للقرون الأربعة اﻷولى. وسوف يستعيد ابن خلدون في “كتاب العِبَر” منطق هذا التحقيب الذي تبدو تواريخ كلّ مرحلة فيه غير اعتيادية، كما سبق له أن استعاد في “مقدّمته” جغرافيا اﻹدريسي التي تجعل من نهر الفرات محور العالم القديم. 

والفرات كمحور، صورةٌ مكّنت الكاتب من إجراء مقارنة أخّاذة بتفاصيلها بين طرفي العالم الاسلامي في القرن العاشر (م.)، أي بين إمارة بُخارى السامانية وخلافة قُرطُبة اﻷمويّة. إلاّ أنّ الفرات كـ”حدّ يصرّ بعناد على الانبعاث من جديد بعد كلّ محاولة لتوحيد ضفّتيه”، صورةٌ تبدو أصدق تعبيراً في عيون الباحث الذي يُذكّر أكثر من مرّة بتقدّم الشرق الإسلامي على الغرب الاسلامي في مجال التحضّر ويُرجعه إلى خلل الفتوحات اﻷساسي. ففيما استطاع الفاتحون العرب القضاء على الدولة الفارسية الساسانية قضاءً سريعاً وتامّاً حتّم لاحقاً على نُخَبها الإسهام في بناء حضارة جديدة، أي الحضارة العربية، لم يُفلح الفاتحون “إيّاهم” في كبح صمود الدولة الرومانية البيزنطية التي احتفظت عموماً بزبدة نُخَبها، وإن ضاقت رقعتها الجغرافية على وجهٍ ملحوظ.

فإذا كان قرار الخليفة اﻷموي عبدالملك بن مروان تعريب إدارة الدولة انطلاقاً من الشام حاسماً في بناء حضارة عربية، فإنّ تلك اﻷخيرة مَدينةٌ، أقلّه في الجانب اللغوي، لنُخَب العراق الفارسية. وهنا تبرز فكرة مارتينيز غرو بتكرارها على امتداد صفحات الكتاب: خلافاً لقبائل أخرى في العالم ذابت ولو بعد حين في حضارة الشعوب المهزومة – وهو حال قبائل جرمانية مثلاً وهي التي انتهى بها اﻷمر، بعد غزوها الامبراطورية الرومانية، إلى اعتماد اللغة اللاتينية واعتناق الدين المسيحي-  لم يتبنّ العرب الدين واللغة السائدين في المجالات التي احتلّوها. بيد أنّ ذلك لا يعني أنّهم لم يتأثّروا بثقافة الشعوب التي خضعت لسيطرتهم. فالحضارة العربية الإسلامية التي نشأت في الشام، وبخاصة في العراق، حضارةٌ تتميّز بطابعها “المُتَرْجَم”. صحيحٌ أنّ العرب فرضوا تدريجياً على الشعوب المحتلّة لغةً جديدة، لكنّهم أبدوا استعداداً لاستيعابها خبرات تلك الشعوب بحيث أضحت جديدةً على الطرفين. فالعربيّة التي نظّمها ونمّقها وأغناها لغويّون وأدباء فرس كانوا لا يتحدّثون بها في حياتهم اليومية، ليست نفسها العربيّة التي كان يتكلّم بها الفاتحون. وليست مصادفة أن يكون أوّل عمل نثري عربي عبارة عن ترجمة قام بها الفارسي ابن المقفّع الذي نقل إلى العربية النسخة الفارسية من كتاب “كليلة ودمنة” الهندي.

وابن المقفّع الذي عاش في البصرة مثّل مدرسةً في النحو ركّزت على القواعد والانتظام واﻷناقة والتبسيط، في حين أصرّت مدرسة الكوفة على عدم التخلّي عن الغنى الهائل للمصطلحات التي تحتويها لهجات شبه الجزيرة العربية. في هذا السياق، يلاحظ الباحث الفرنسي أنّ اللغة العربية “الكلاسيكية” ناتجة عن توتّر خلاق بين تلك المدرستين: ” من جهة جملةٌ مُحْكَمةٌ وأشكالٌ قابلةٌ للشرح تُفرِح المُبتدئ. ومن جهة أخرى، بحرٌ من المفردات يُشجي المثقفين ويُفحِم العاميين”.

ثنائية البدو والحضارة

بالعودة إلى تكوين المجال العربي الاسلامي كمجال حضاري، يشير مارتينيز غرو إلى أنّ تعبير “الحضارة العربية- الإسلامية” يعاني من تناقض ظاهري إذ أنّى لـ”بدو” بناء حضارةٍ؟ غير أنّه يسارع إلى التذكير بدور الترجمة في حسم هذا التناقض وإلى التنويه بفضلها على ولادة كيان غير مسبوق في التاريخ يصفه الكاتب، على سبيل الدُعابة، بـ”حضارة البرابرة”. وإلى جانب “الحضارة المُتَرْجَمة”، ثمّة ظاهرةٌ أخرى احتلّت موقعاً محوريّاً في الكتاب وهي ظاهرة “الفتح بواسطة المهزومين”، وذلك منذ بدايات الإسلام وعلى امتداد قرونه اﻷولى. بالفعل، ففيما أضحى مهزومو بني أميّة على يد المسلمين في الحجاز في صُلب فتح الشام بعد اعتناقهم الدين الجديد، حلّ مهزومو “حروب الردّة” في المناطق الشرقية لشبه جزيرة العرب في صُلب فتح بلاد الرافدين بعد عودتهم عن “الارتداد”. ومن جهتهم، وغداة هزيمتهم على يد حسّان بن النعمان في المغرب اﻷدنى (أفريقيا) أواخر القرن السابع (م.)، شارك “البربر” في الفتح الإسلامي للمغرب اﻷوسط واﻷقصى. وفي ما بعد، شرع الخُراسانيون في فتح صقلية بعدما هزمهم اﻷغالبة في المغرب اﻷدنى. أمّا المرابطون الذين ولجوا دار الإسلام انطلاقاً من صحراء القارة الأفريقية في القرن الحادي عشر، فوسّعوا رقعة دولتهم في المغرب اﻷقصى على وقع هجماتٍ قادتها القبائل التي سبق وهُزِمَت على أيديهم.

 لجميع تلك الفتوحات منطقٌ يفسّره الباحث على الوجه الآتي:  لكي لا  يقوم المنتصرون بجباية اﻹتاوة من المهزومين، اعتنق اﻷخيرون عقيدة اﻷوّلين وانخرطوا كلّيًّا في فتوحاتهم العسكرية التي تجنّبوا بفضلها مخالفة قيمة ثقافية غالية في وجدانهم حيث يُعْتَبَر دافع الضريبة شخصاً مُهاناً.

وبغضّ النظر عن صوابيته، يلتقي جزئيّاً هذا التفسير اﻷنتروبولوجي مع طرح علي الوردي. ولعلّ أحد عيوب كتاب مارتينيز غرو يكمن في خلوّه من أي إشارة إلى أعمال عالم الاجتماع العراقي، بخاصة أنّ اﻷخير قارب مصطلح البداوة على وجهٍ يغاير بعض الشيء ما ذهب الباحث الفرنسي إليه. فخلافاً لمارتينيز-غرو، لم يكتف علي الوردي بالعامل السياسي  لتعريف البداوة كنظام يرفض الخضوع لسلطة الدولة ولنظامها الضريبي، بل شدّد على العامل الجغرافي إذ لا بداوة في نظره خارج البيئة الصحراوية 

مهما يكن هذا التباين في تأويل أفكار ابن خلدون، وهو ليس موضوع المقال، تنبغي الإشارة إلى غياب مراجع أخرى في الكتاب. وإذا كان مفهوماً، نظراً إلى اختلاف السياق، عدم ذكر جان باتيست دوروزيل، صاحب كتاب “مآل كل إمبراطورية الاندثار”، وذلك في معرض تكرار مارتينيز غرو قولاً معاكساً مفاده استحالة اندثار الممالك بأطرها ومدنها الرئيسيّة على رغم تبدّل السلالات الحاكمة واﻷنظمة السياسية، فإنّ عدم العثور على اسم إرنِسْت غِللنِر، حتىّ في قائمة المراجع، أمرٌ مثيرٌ للاستغراب نوعاً ما. 

صحيحٌ أنّ دراسة عالم اﻹناسة البريطاني من أصل تشيكي حول “أولياء اﻷطلس” اقتصرت مبدئيّاً على المغرب اﻷقصى، إلاّ  أنّها احتوت على تصنيفٍ للقبائل قد يكون، إلى حدٍّ ما، قابلاً للتعميم في المكان والزمان الإسلاميَين. في هذا العمل، وُصِفَت بـ”الخِرفان” القبائل المنزوعة السلاح والخاضعة لسلطة الدولة، وبـ”كلاب الرُعاة” القبائل التي تجبي اﻹتاوة لمصلحة الدولة، وبـ”الذئاب” القبائل التي ترفض النظام الضريبي برمّته وتعيش خارج كنف الدولة. 

بدوره، ميّز مارتينيز غرو بين “برابرة الداخل” و”كبار البرابرة”، متّبعاً بذلك منطق استعارة غِللنر الحيوانية وإن لم يتبنّها حرفيّاً. فالباحث الفرنسي أعطى أمثلة عدة تُظهر جيّداً كيف يقوم رعايا الدولة، عندما يضيقون ذرعاً بممارسات الطُغَم القبلية – العسكرية، باستدعاء قبائلَ أشدّ بأساً من تلك الطُغَم ولكن أقلّ اضطهاداً لهم. ولا تلبث تلك القبائل مع دخولها الحواضر أن تتصارع في ما بينها إلى أنّ يستتبّ اﻷمر لسلالة بعينها تقوم من أجل توطيد حُكمها بترحيل قسم مُعْتَبَر من أقاربها إلى مناطق طَرَفيّة. مع ذلك، تتحوّل تدريجيّاً تلك المناطق إلى ما يسمّيه مارتينيز غرو “مستودعات المملكة”، نظراً إلى حفاظها على عصبيّةٍ تُخوّلها لتكون على أتمّ الاستعداد لقيام المنفيين فيها بحملات جهادية لمصلحة الدولة. كما تجعل منها أكثر مناطق المملكة صموداً بعد دخول اﻷخيرة مرحلة الانحطاط. 

إضافة إلى النقص في المراجع، ثمّة هفوةٌ أخرى تكمن في عدم مواكبة الكاتب التطوّر التأريخي في بعض المواضيع. فعند تطرّقه للكيانَين العربيَين اللذين كانا يقعان جنوب الشام وجنوب الرافدين قبل ولادة الإسلام، أبقى  مارتينيز غرو، في نصّه وفي خرائطه، على تسميتَي “الغساسنة” و”اللخميين”، في حين يميل عددٌ متزايدٌ من زملائه الفرنسيين منذ بضع سنوات إلى استبدالهما تباعاً بـ”الجَفنيين” وبـ”النصريين”، كما يدلّ على ذلك كتاب الباحثة فرنسواز ميشو المرجعي حول بدايات الاسلام. وعند تناوله سياسة المأمون الدينية، يبدو مارتينيز غرو متفّقاً مع الذين لا يزالون يخلطون بين فرض الخليفة العباسي عقيدة “القرآن المخلوق”، وهو إجراءٌ لا شكّ في صحّة حدوثه، وانتماء الخليفة نفسه إلى عقيدة المعتزلة برمّتها، وهو أمرٌ يخضع اليوم للنقاش بين مؤرخين، كما يظهر ذلك في كتاب جماعي مهم أشرف على إعداده اﻷساتذة الجامعيون تييري بيانكيس وبيار غيشار وماتيو تيلييه.

قبل اختتام هذه المراجعة، لا بدّ من اﻹشارة إلى نقطة في الكتاب قد تكون اﻷكثر عرضةً لسوء الفهم وإثارةً للسجال بالتالي، وهي مفهوم مارتينيز غرو لعلاقة الدولة العباسيّة مع المذهب الشيعي.

إنّ المُعتاد عند تناول هذه المسألة هو عدم اعتبار انتقال المُلك من سلالة اﻷمويين إلى سلالة العباسيين انتقالاً من حُكم السنّة إلى حُكم الشيعة، وذلك حتى ولو ساهم تحالف أحفاد علي بن أبي طالب مع أحفاد العبّاس (عمّ محمّد، نبيّ المسلمين) في اﻹطاحة بالدولة اﻷموية. بالفعل، عشيّة ولادة الدولة الجديدة، نشأ خلافٌ بين فرعَي “العشيرة” الهاشمية تبعته لاحقاً تمرّدات “علويّة” – نسبةً إلى سلالة علي بن أبي طالب وليس إلى فرقة “الغُلاة” التي سوف تنشأ لاحقاً. ولئن حاول الخليفة المأمون في ما بعد مصالحة الفرعين عبر تعيينه أحد أحفاد الحسين وليّاً لعهده وتبنّيه لون العلويين اﻷخضر، فسرعان ما قام بفكّ ذلك التحالف بعد ممات وليّ العهد هذا وتبنّى مجدّداً لون العباسيين اﻷسود. 

مشكلة هذه الرواية، في نظر مارتينيز غرو، لا تكمن في وقائعها التي يقرّ الباحث بمعظمها ولا يبخل أبداً بإمدادنا بشتّى التفاصيل المتعلّقة بها. المشكلة بالنسبة إليه هي في حصر تلك الرواية تعريف آل البيت بالعلويين بينما يرى هو أنّ آل البيت هم جميع الهاشميين، بمن فيهم العباسيون. وأن تكون شيعيّاً في منتصف القرن الثامن، أي في زمنٍ لم تكن المذاهب الفقهية والعقيدية – شيعيّةً كانت أم سنيّة –  قد تبلورت فعليّاً بعد، هو أن تطالب باسترجاع حقّ آل البيت (بمفهومه الموسَّع) في الحكم. وعلى هذا المطلب، ارتكز فعلاً أحفاد العباس لِيُشَرْعِنوا تمرّدهم على اﻷمويين، حتى بعد نشوب خلافهم مع أحفاد علي بن أبي طالب.

والتذكير بأحقيّة الهاشميين بالخلافة استمرّ حتى بعد استقرار الدولة العبّاسية وبدا بالنسبة إلى مارتينيز غرو عنصراً جوهريّاً في تشكّل الفكر الشيعي كـ”مذهب المملكة الرسمي”. ولكن، عند وصول المتوكّل إلى سدّة الحكم في منتصف القرن التاسع، رضخ اﻷخير لمطلب العلماء السنّة بتحييد الشؤون الدينية عن مهمات الخليفة.

هذا المنحى الاستقلالي عند العلماء السنّة يذكره الباحث بإصرارٍ يجعل القارئ يظنّ أن أنصار “الدين المحض” في الإسلام هم السنّة، فيما الشيعة هم أنصار “دين الدولة”.

غير أنّ القصّة هنا هي قصّة تحديد مصطلحات. فإذا لم يتّفق قارئٌ ما مع توسيع مفهوم الشيعة على النحو الذي ذهب إليه الكاتب، مُفَضِّلاً حصر هذا المفهوم بالشيعة اﻹمامية، أي بالذين يتبعون نهج جعفر الصادق الداعي إلى فصل الشؤون الدينية عن الشؤون السياسية عبر تمييزه بين اﻹمامة والخلافة، يُضحي تعريف الشيعة بأنّهم أنصار “دين الدولة” تعريفاً غير صائبٍ. وإذا لم يقتنع قارئٌ آخر بحصر مفهوم السنّة بنتاج أتباع إبن حنبل من علماء أهل الحديث، مُفضّلاً توسيعه ليشمل نهج الخلفاء العبّاسيين، باستثناء المأمون والمعتصم والواثق، يُصبح تعريف السنّة بأنّهم أنصار “الدين المحض في الإسلام” غير صائبٍ بدوره…

في جميع اﻷحوال، على رغم هذه النقطة المُلتبسة والهفوات اﻵنفة الذكر، يبقى كتاب غبريال مارتينيز غرو عملاً شيّقاً، مضموناً وصوغاً، ويتّخذ فوق ذلك، وبشكلٍ غير مباشر، طابعَ الوصيّة. فكأنّما اﻷستاذ الباريسي المُحال لتوّه على التقاعد والذي تخرّج على يديه عددٌ من أبرز الباحثات والباحثين في مجال تاريخ الإسلام يقول: موضة “التاريخ العالمي” أو “التاريخ المترابط” جديرة بالمتابعة وأعمال الزملاء المنتمين إلى التيّارات التشكيكيّة مهمّة طبعاً، ولكن ليس على حساب المقاربة الذكيّة (لا الجامدة والببّغائية) للتراث العربي-الاسلامي، “احفظوا قديمكم، جديدكم لا يدوم”…