طلب الرجل دواء لوجع الرأس من الصبية الواقفة وراء الصندوق، التفتت خلفها، تناولت علبتين وضعتهما أمامه قائلة بطريقة شبه أوتوماتيكية، ومن دون أن تنظر إليه: 13 يورو. أعطاها بطاقته الائتمانية مبتسماً، بإشارة من يدها ومرة أخرى من دون أن تنظر إليه، طلبت منه وضعها في المكان المخصص داخل الآلة التي كانت عقمتها مرات متكررة خلال دقائق قليلة.
“لماذا لا تبتسمين يا آنسة، إنه مجرد يوم آخر، لماذا لا أحد يريد الابتسام اليوم؟”.
للمرة الأولى نظرت الصبية إلى الواقف أمامها. لعيونهما خضرة مشابهة، هي في مقتبل العمر وهو في منتصفه.
وجدت نفسي أنتظر رداً توقعته حاداً أنا التي لطالما اذهلتني قدرة الباريسيين على الرد السريع اللاذع من دون الخروج عن الأدب.

ترددت الصبية للحظات مرت سريعاً وحملت ما حملته من تغيير في تعابير وجهها، قررت بعدها وببساطة أن تستسلم لنوبة بكاء جعلتها مثل طفلة صغيرة لا تعرف ما عليها فعله. تحاول أن تخرج الكلمات من قلب الدموع: “ولكنك لا تعرف يا سيدي ما معنى أن تكون موظفاً في المطار… ليس بدهياً أن تكون موظفاً في المطار في مثل هذه الأيام”.
أمام تفهم الرجل وابتسامتي أنا الواقفة بقربه راحت تضحك وهي تقول، “سامحوني، لا أعرف ماذا أفعل”.
مازحتها قائلة، “يا إلهي، باريسية لا تعرف ما عليها فعله! ماذا نفعل نحن، أهل الكوكب الآخرون الذين لا يملكون ملكة البارسيين بمعرفة كل شيء؟”.
“اضحكي يا آنسة اضحكي ودعيني أقول لك إنك جميلة… إذا كانت نهاية العالم اقتربت فعلاً، فالأفضل لنا جميعاً أن نبتسم وأن نقول لبعضنا بعضاً أشياء جميلة”، قال الرجل.
خرجت من الصيدلية باتجاه بوابات المغادرة، تعلو وجهي ابتسامة حائرة. متى أعود إلى باريس؟ متى تكون رحلتي التالية؟ المؤتمرات والفعاليات التي كان يفترض أن أشارك فيها خلال هذه السنة تم إلغاؤها. أعرف جيداً أن هذه رحلتي الأخيرة قبل احتواء الفايروس. لا نزال في البداية، وستمر أشهر قبل عودة الأمور إلى طبيعتها.
ليس بعيداً مني، فريق تلفزيوني في نقل مباشر، بعد ساعات قليلة على إعلان ترامب منع الرحلات الآتية من فرنسا التي “لا تقوم بواجباتها كما يجب”.
أجد نفسي أدندن أغنية وردة الجزائرية: “اه لو تعرف بس يا غالي… كله جديد بجديد”.
كل شيء من حولي جديد فعلاً. مطار شارل ديغول الذي عرفته على مدى سنوات وفي أوقات ومناسبات مختلفة لم أره يوماً بهذا السكون… المسافرون ومن دون أي إرشاد من أحد، يحافظون على مسافة أكثر من متر بين بعضهم، يتحركون بهدوء. لا أحد يبدو مستعجلاً. مسؤولو الأمن يمررون “السكانرز” باستعجال مهذب، لا شيء يحمله أي مسافر يمكن أن يكون أخطر من الفايروس… قد يكون هذا هو الوقت المناسب لتهريب الممنوعات على أنواعها.
واضح أنني لست الوحيدة التي تشعر بأن هذه رحلتها الأخيرة إلى بعد حين. على رغم الخوف، أجد في هدوء من حولي ما يطمئنني. خلال الأشهر المقبلة، لن يكون بإمكان أي منا محاولة مسابقة الزمن في السعي إلى تحقيق شيء ما. أي شيء.
كل ما علينا فعله الآن هو الذهاب الى منازلنا والتزامها حماية لأنفسنا وللآخرين… قبالتي على لوحة عملاقة رحلات إلى اغلب مدن العالم، تحمل آلاف المسافرين العائدين إلى بلدانهم في رحلتهم الأخيرة في زمن “كورونا”.
في الأمر بعض من عدالة لم أشعر بها في حياتي، وبعض المنطق. عالمنا هذا الذي كنا نعيش فيه كنا نعرف جيداً أنه لا يملك مقومات البقاء وكان لا بد من صفعة لنستفيق.
“كوروناً لم يأتِ من مخيلة قوى شريرة تعيش على كوكب آخر. “كورونا” صنيعتنا. صنيعة عقود من الجشع والاستبداد والظلم والجهل والتخلف والتهاون والخوف.
الطبيعة من حولنا أرسلت كل أنواع الإنذارات ولكننا أبينا أن نسمع، وها هي الطبيعة تنتصر مرة أخرى. ها نحن أمام فايروس هو بحسب العلماء أقل خطورة على استمرار البشرية من التغيير المناخي أو من حرب نووية، نقف مدهوشين عاجزين.
كلنا نقف لأننا جميعاً معرضون ومتساوون، بضعفنا وخوفنا وعجزنا وموتنا.
في الأمر بعض العدالة وبعض المنطق.
في هلع الخائفين من انقطاع أوراق التواليت تذكير بأن في هذا العالم لاجئين استكثر عليهم الخوف ومحاولة الهرب بعدما فقدوا كل شيء. وفي خوف المعارضين على عزل دولهم من انهيارات أسواق البورصة تذكير بأن هناك مدناً مثل غزة معزولة منذ سنوات ولا من يبالي.
لا بأس من التوقف وبعض المراجعة وحتى بعض الضحك فلبعض النكات أبعاد فلسفية قد يكون من المفيد التوقف عند معانيها، مثل أن يسقط ترامب بسبب فايروس صنع في الصين ويحمل اسم بيرة مكسيكية.
لا بأس من بعض الوقت نمضيه في منازلنا، عيوننا وعقولنا وقلوبنا مع العلماء نتابع أبحاثهم بدل متابعة نقاشات أهل السياسة العقيمة، نستمع إلى إرشاداتهم تقنع ذكاءنا بدل مواعظ رجال دين تلعب على عواطفنا، نؤمن بعلمهم ليجد دواء ينقذ حياتنا بدل أن ننتظر معجزة نُسكت بها عقولنا…
عالمنا هذا الذي كنا نعيش فيه كنا نعرف جيداً أنه لا يملك مقومات البقاء وكان لا بد من صفعة لنستفيق.
أصل إلى بيروت في رحلتي الأخيرة لفترة لا أعرف كم ستدوم.
يستقبلنا على باب الطيارة فريق مجهز بمعدات أظهرتنا على شاشات ملونة تلتقط حرارة أجسامنا، علمت لاحقاً بأن لبنان تلاقاها من الصين خلال الأيام التي كنت فيها خارج البلاد. المعدات وصلت ولكن الرحلات من والي إيران لا تزال مستمرة والخبر الأول الذي أسمعه لدى وصولي عن طبيب يحاكم لانتقاده وزير الصحة… لا مكان للحزن هنا، فعلى الهلع أن يبقى سيد الموقف.
أستعيد تفاصيل رحلتي الأخيرة.
أندم على ساعات أمضيتها أتابع ما يحصل في بيروت لمعرفة ما إذا كان عليّ قطع رحلتي. أهنئ نفسي لأنني قررت البقاء.
كم كان جميلاً التعرف إلى آن ماري، صحافية فرنسية مكسيكية في الثالثة والسبعين من عمرها ذكرتني بكم أحب مهنتي وكم أنا محظوظة لأنني صحافية… متى نلتقي مجدداً؟ هل نلتقي مجدداً؟ هل حقاً سنكون بخير؟ هل حقاً سنعرف كيف نستعيد ما نحب في حياتنا؟ ربما لا ولكن لا بأس لتتغير حياتنا فهي لم تكن مثالية.
حتى باريس، ليست نهاية الدنيا، إن لم تكن تشبه نفسها، فهي ساحرة وإن تغيرت.
في البيسترو الباريسي، اخبرت أرليت عن الثورة المستمرة في بيروت وعن مخاوفي وآمالي، وأخبرتني هي كم تثق بأن الأمور ستكون بخير في فرنسا، كم يريحها استدعاء الأطباء والممرضين المتقاعدين لتجنب ما حصل في إيطاليا ولكن أيضاً كم تشتاق إلى لبنان حتى وإن كانت لا تجد لها مكاناً فيه بعد…
في البيسترو الباريسي نبيذنا كان أطيب، وقتنا كان أبطأ، نادلنا كان أهدأ، صاحبة المكان كانت ألطف… مازحتنا بعدما ذهب زبائنها الآخرون قبل موعدهم، سمحت لنا بالتدخين في الداخل وشاركتنا سيجارة وأطراف حديث… في هذه اللحظة، كانت باريس أجمل من نفسها.
كان هذا قبل ساعات على إعلان إيمانويل ماكرون القرار بإغلاق المدارس ثم الإعلان عن إغلاق المطاعم والمسارح والملاعب… متى تعود الأمور إلى مجاريها؟ هل هي أسابيع؟ هل هي أشهر؟ لا أحد يعرف.
في صيدلية شارل ديغول، تقول لي صبية إن لا “جيل” للتعقيم لديها ولا كمامات، لكنها تنصحني باستخدام كريم سيحسن من التعب الظاهر على بشرتي.
“غداً ينتهي كل شيء، وسنعود إلى همومنا الصغيرة” تقول لي ممازحة وأقتنع. أشتري “كريم” للوجه وأحاول مع رجل غريب التخفيف من حيرة صبية خائفة.