في طروحات كل من دونالد ترامب وحركة “حماس”، يُغيَّب الغزّيون الذين يقارب عددهم المليونين، من المشهد، فهل تصل الأمور إلى حل وسط بين جنونيْن، يُتيح لأهل غزة عيش حد أدنى من حياة كريمة على أرضهم؟
مباشرةً عقب وقف الأعمال القتالية في غزة، خرجت حركة “حماس” في عراضات عسكرية أقامتها على هامش عمليات تسليم الأسرى، في رسالة تكشف رغبتها في البقاء في القطاع المدمّر، برغم ما جنته على أهله… وفي الرابع من شباط/ فبراير، أطلّ الرئيس الأميركي دونالد ترامب ليخبرنا أن “الولايات المتحدة ستتولّى السيطرة على قطاع غزة”… أما الغزّيون فواقعون بين هذين الجنونيْن.
بين تلك وذاك، يُغيَّب الغزّيون الذين يقارب عددهم المليونين قسراً من المشهد. مصيرهم ليس بين أيديهم! هم أشخاص لا رأي لهم بمَن يحكمهم في عُرف “حماس”، ولا أرض لهم في عُرف ترامب. القوي يخطط وهم يذعنون! والآن يجدون أنفسهم بين قويين: قوي محلي لا يتوانى عن استخدام أي أسلوب لفرض هيمنته عليهم، وقوي عالمي ظهر أخيراً ولا يتوانى عن استخدام أي أسلوب لفرض هيمنته على العالم كله، وليس فقط على غزة!
يبني ترامب تصوّره على حقيقة أن قطاع غزة هو عبارة عن “حفرة جحيم للأشخاص الذين يعيشون هناك”، ولكنه ينطلق من ذلك ليُطلق خطة لتهجير الغزّيين إلى “دول مجاورة”، وإعادة بناء القطاع المدمّر و”تطويره” ليصير “شيئاً يمكن للشرق الأوسط بأكمله أن يفخر به”، “وإيجاد تنمية اقتصادية… لسكان المنطقة”، ولكنه يترك تحديد هوية هؤلاء السكان للمجهول، فهم “الكثير من الناس” و”شعوب العالم”، وليس بالضرورة أن يكون الغزّيون بينهم.
أما “حماس” فترسم الأولويات بشكل معكوس. تبني سياستها على حقيقة أن سكان قطاع غزة هم أصحاب حق بأرضهم، وأصحاب حق بالعيش في أمان من دون حصار، وباتصال مع باقي الفلسطينيين المتبقين على أرض فلسطين في الضفة الغربية، ولكنها تنطلق من ذلك لتُطلق تصوّرات لا تهتم بتفاصيل حياة السكان، ولو أوصلتهم إلى البقاء في “حفرة جحيم”.
إقرأوا أيضاً:
أبطال المشهد الحمساوي في الأسبوعين الأخيرين، كانوا عناصر يرتدون زياً عسكرياً كاملاً و”أنيقاً”، لم نرَ مقاتلي الحركة يرتدون مثله خلال الحرب، فهو على ما يبدو للاستخدام حصراً أثناء التقاط الصور “الرمزية”. ظهر هؤلاء لإيصال رسالة سياسية مفادها أنهم لا يزالون يتحكّمون بأهل القطاع المكلومين، برغم كل ما جرى، وسيستمرون في ذلك. فـ”حماس” لم تعترف بعد ولن تعترف على الأرجح، بغباء عملية “السابع من أكتوبر” 2023، التي ساقت الغزّيين إلى اللحظة المصيرية الصعبة الراهنة المفتوحة على احتمال كوارث لا عودة منها، وتتعامل مع الحرب التي أرجعت القطاع عقوداً إلى الوراء ووضعته على شفير “نكبة” جديدة، على أنها من فعل القدر، أو من فعل المخططات التي تضعها إسرائيل في أدراجها، وكانت ستنفّذها بهجومٍ من “حماس” أو بدونه.
أما بطل المشهد الموازي فهو بطل الولايات المتحدة الأوحد دونالد ترامب، الذي يظنّ؛ وفي ظنّه بعض الحقيقة والكثير من سوء التقدير، أن أي كلمة يتفوّه بها يمكن تحويلها إلى واقع، حتى ولو كانت هراء. فواشنطن في عُرفه قادرة على فرض ما تريده على أيٍّ كان أينما كان، وفي غزة هي مستعدة لإرسال قوات عسكرية لفرض تصوّره “إذا كان ذلك ضرورياً”، والدول المجاورة لفلسطين ملزمة باستقبالهم و”ستفعل ذلك” حتى ولو دانت علناً هذيانه، لا بل إن بعض الدول المجاورة “ذات الثروة العظيمة” ستدفع ثمن تنفيذ طموحاته!
من نافل القول اعتبار انتصار أي جنون من هذين الجنونيْن سيفاقم مأساة الغزّيين، فلا خسارة الوطن يمكن احتمالها، ولا البقاء فيه بعد تحويله إلى “حفرة جحيم” أبدية، يمكن اختياره مصيراً.
يمكن الافتراض أن الغرض من طرح ترامب “الهذياني”، ليس أن يتحوّل إلى أمر واقع، خاصةً أن كل تفاصيله صعبة التحقق، من تهجير أبناء غزة، إلى إرسال قوات أميركية لتنفيذ جريمة ضد الإنسانية، إلى توفير مكان يستقبل المنتزَعين من أرضهم، إلى تمويل خطة تحويل غزة إلى “ريفييرا”، بل هو نوع من طرح لأقصى ما يمكن حصوله، في حال عدم التوصل إلى تسوية مرضية لواشنطن وإسرائيل في غزة.
ويمكن الافتراض أن طموحات “حماس” السياسية المبالَغ فيها، لا يمكن أن تتحقّق بعد تعريضها قطاع غزة للتدمير على يد إسرائيل، خاصةً وأن “الهدنة” الحالية يمكن أن تسقط بعد استعادة الدولة العبرية أسراها.
فهل تسير الأمور نحو وسط بين الجنونيْن، يُتيح لأبناء غزة عيش حد أدنى من حياة كريمة على أرضهم؟ هذا لا يمكن أن يتحقّق من دون تضافر جهود فلسطينية وعربية ودولية لإحباط جنون ترامب وجنون “حماس”.
إقرأوا أيضاً: