إنّها حرب غير متوازنة، ليس فقط عسكريّاً بالعتاد والجيش والسلاح، لا بل الأهم إعلاميًّا بالتغطية والتشويه والكيل بمكيالين!
وجدت وسائل إعلام غربية في هجوم حماس على أهداف اسرائيلية ومقتل مدنيين بينهم عائلات وأطفال وأخذ مجموعات منهم رهائن عنواناً وحيداً لمقاربة القضية الفلسطينية.
انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي في فرنسا بشكلِ خاص في الأيام الأخيرة مقطع فيديو للبوفيسور والباحث السياسي اللبناني المقيم في فرنسا زياد ماجد وهو يتحدث في برنامج حواري على القناة الخامسة الفرنسية بينما يقاطعه المحاور مرّات عدّة بحدّة وتوتّر لدى حديثه عن القضية الفلسطينية وحق الفلسطينيين والظلم الذي يتعرّض له قطاع غزّة المحاصر.
يقول البروفيسور والباحث السياسي زياد ماجد، في مقابلة لـ “درج”، “نتعرض بكثير من المقابلات لنوع من التحقيق، فهل المحاور صحافي أم قاضي تحقيق أم شرطي ليتعامل معي بهذه الطريقة … هل يسأل إسرائيلي واحد إذا كان بيستنكر جرائم الحرب التي ينفذها الجيش الإسرائيلي والمستوطنين… أم يسألني أنا فقط وكأنني متّهم… هو ليس قاضي تحقيق ليضعني بموقع اتهامي واضطر أن أبرّر… وهذا ما يسبّب أحيانًا ردود فعل، موقفي واحد، ولست مضطرًّا للتبرير وأن أبدأ كل مرّة بالإدانة حتى أكسب صك براءة”.
تعمل بعض الشخصيات الحاضرة في المجال العام وجهات حقوقية ورقمية على مواجهة هذا الخطاب كما تسعى وسائل إعلامية ذات الانتشار على محاولة مواجهة هذا الضخّ من التهميش للقضية الفلسطينية وشيطنة الحق الفلسطيني وتوثيق جرائم الحرب والتذكير بسياق القضية المستمر منذ ٧٥ عاماً!
من الشخصيات التي برزت في الأيام الأخيرة في محاولة لمواجهة الخطاب الغربي هو حسام زملط، سفير فلسطين في بريطانيا، الذي انتقد عدّة وسائل إعلامية غربية مديناً ازدواجية معاييرها على الهواء مباشرةً معتبرًا أساس طرحهم للأسئلة غير متوازن أو محايد إذ تتم استضافتهم لمحاولة استخلاص إدانة لما قامت به حركة حماس في هجومها وتجاوز مأساة الشعب الفلسطيني الذي يكابد مرارة الفصل العنصر والاحتلال والتمييز على مدار ما يزيد عن سبعة عقود.
قال زملط الـ CNN “العالم والمجتمع الدولي يغضان نظرهما ويصمان آذانهما عن انتهاكات الاحتلال بحق المدنيين الفلسطينيين لعقود، ويتحدث عند مقتل الإسرائيليين فقط”، في حين رفض على منصّات أخرى الإجابة عن السؤال على مبدأ أنّ مؤيدي أحقية القضية الفلسطينية لا يجب أن يوضعوا دائما في موقع الدفاع عن النفس.
لا شكّ أن السنوات الأخيرة ومع انتشار الهواتف الذكية وتوّسع قدرات المحتوى الرقمي تمكن ناشطون وناشطات فلسطينيين من فرض روايتهم بشأن القضية الفلسطينية.
من أبرز الأمثلة قصّة حي الشيخ جرّاح في القدس الشرقية الذي عمل ناشطون فيه على كشف هجمات المستوطنين وكيف يطردون فلسطيني القدس الشرقية من منازلهم.
“مرت فترة ظهر فيها انّ الـ New York Times، الـ CNN، الـ Washington Post قد تحرروا من قوالب قديمة كانت موجودة، من خلال تنوع أصوات ضيوفهم ومقارباتهم، في مقالات انتقادية”، وفقًا لماجد الذي يذكر حينما كرّست صحيفتي الغارديان وNew York Times في أيار/ مايو عام 2021، صفحتيهما الأولى لصور الأطفال الفلسطينيين الذين قتلهم الجيش الإسرائيلي والمستوطنين في القدس الشرقية والضفة الغربية وقطاع غزة. أمّا اليوم فما حصل هو “تبدّل بالصيغة وبأولويات التغطية وحرب الصور وكمية الصور التي أتت من إسرائيل في اليوم الأول”.
كشفت الأحداث الأخيرة اختلالًا هائلًا في مقاربة الإعلام الغربي للقضية الفلسطينية، نجد فيها الخطاب المعادي للقضية والداعم لإسرائيل إلى أبعد الحدود، وكأنما هناك حملة عالمية لشيطنة الفلسطينيين وإعطاء ذريعة لكل الجرائم الاسرائيلية ضدهم.
يذكر ماجد بـ “إزدواجية المعايير المروّعة” في مقاربة القضية الفلسطينية ومقارنتها مثلًا بالحرب الروسية – الأوكرانية، والتعامل بمكيالين بين بين الضحايا المدنيين المستوطنين وأولئك الفلسطينيين.
ما يضاعف من مشكلة الانحياز هو حين يكون الانحياز مبنياً على معلومات كاذبة أو متسرعة كما حصل في اليومين الأخيرين حيث نقل عدد من وسائل الإعلام الغربية خبر قيام مقاتلي حركة حماس بقطع رؤوس أطفال خلال هجومهم، وتبيّن أنّ الخبر غير دقيق بحيث تمّ التراجع عنه في عدد من وسائل الإعلام الغربية كما نُقل عن الجيش الاسرائيلي أنه غير موثوق.
إنّها حرب غير متوازنة، ليس فقط عسكريّاً بالعتاد والجيش والسلاح، لا بل الأهم إعلاميًّا بالتغطية والتشويه والكيل بمكيالين!
حرب رقمية غير معلنة!
وسط استقطاب سياسي حاد يحكم وسائل الإعلام التقليدية في المنطقة، وجد الفلسطينيون في وسائل التواصل الاجتماعي مساحة لنقل قضاياهم ومعاناتهم لكن منذ سنوات شهدت الساحات الرقمية تضييقاً واسعاً ضد المحتوى الفلسطيني.
حصل ذلك تحديدًا بعد عام 2016 الذي شهد “انقلابًا في سياسة فيسبوك في تعاملها مع المحتوى العربي وخصوصا الفلسطيني منه”، بحسب تحقيق لـ “ما خفي أعظم” على الجزيرة.
تشنّ مواقع التواصل الاجتماعي حرباً أخرى غير معلنة على القضية الفلسطينية، الّا أنّ هذه الحرب ليست بجديدة، فلطالما حاربت هذه المواقع الصفحات التي تنشر محتوى فلسطيني، بحجّة أنّ المحتوى معادٍ للسامية أو داعم لجماعات إرهابية.
تتحدّث خبيرة في مواقع التواصل الاجتماعي، غوى أبي حيدر، عن ما يُعرف بالـ social media oppression أو قمع مواقع التواصل الاجتماعي القائم بشكل كبير على ما يسمّى الـ shadowbanning أو الحدّ من وصول المحتوى إلى الجمهور الذي بات يستهدف الكثير من المحتوى الداعم لفلسطين بشكل غير معلن وصريح. “الواضح أنّ ذلك يحصل عبر الـ bot وليس عبر الإبلاغ الفردي عن محتوى غير مناسب، لا بل منصّات ميتا نفسها تخفي هذا المحتوى”. تحدّثت أبي حيدر عن ازدواجية المعايير بين السماح للمؤثرين بالنشر والتسويق للمحتوى المدافع عن اسرائيل، في مقابل إمّا الحدّ من وصول أو إلغاء المحتوى المؤيد للقضية الفلسطينية. “هم لديهم المؤثرين متل الـ Kardashians وجاستن بيبر وغيره، ونحن لدينا شخصيات في غزة بالكاد لديها وصول للانترنت حتى”.
تعزو أبي حيدر أسباب ذلك بسبب اعتبار حماس منظّمة إرهابية وباعتبار أنّ الجانب الإسرائيلي ليس إرهابيًّا، أما جانب حماس فهو إرهابي، وأي دعم له هو دعم للإرهاب، ممّا يخالف قواعد سلوك المنصّات التابعة لميتا. لكن هذا المنع بات عشوائياً ليطال أي محتوى داعم للحق الفلسطيني.
في مقابلة للجزيرة، “تؤكد الناشطة الحقوقية الأميركية، جيليان يورك أن المحتوى العربي على منصات التواصل الاجتماعي يخضع للرقابة أكثر بكثير من المحتوى الذي ينشر باللغة العبرية”، في حين “كشف أشرف زيتون، مدير سياسات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في فيسبوك سابقا أنه في نهاية عام 2016 قامت إسرائيل بتحديد شركات الإعلام الاجتماعي وشبكات التواصل الاجتماعي بقانون جديد يضع عقوبات مالية كبيرة جدا على الشركات التي تتعامل بسرعة مع الطلبات المقدمة من الحكومة الإسرائيلية لحذف المحتوى الفلسطيني الذي يعتبرونه معاديا للسامية ومشجعا على الكراهية”، بحسب تحقيق “ما خفي أعظم”.
حذر الاتحاد الأوروبي مؤسس منصة ميتا مارك زوكربيرغ بشأن انتشار “ترويج الأخبار الزائفة” على منصات وسائل التواصل الاجتماعي التابعة لشركة ميتا بعد عملية حركة حماس. أخبر الاتحاد الأوروبي، الذي تمتلك ميتا التي تمتلك فيسبوك وإنستغرام، أنه “لديه 24 ساعة” للرد والامتثال للقانون الأوروبي.
كما أرسل المفوض الأوروبي تييري بريتون رسالة إلى مالك منصة X أو تويتر سابقاً إيلون ماسك تحذره فيها من أن الجهات التنظيمية لديها “مؤشرات” تشير إلى أن الموقع قد ينتهك قوانين الاتحاد الأوروبي بشأن المحتوى العنيف والإرهابي، وكذلك مكافحة نشر المعلومات الكاذبة، الّا أنّ ماسك رفض التهديد.
نظرياً، يمكن عبر منصات ميتا (فايسبوك وانستغرام) وغوغل (ويوتيوب) التضامن مع إسرائيل وأيضا التعبير عن الأسف على مأساة الفلسطينيين، ولكن يُمنع التعبير عن دعم حركة حماس، بحسب مقال للواشنطن بوست، إذ إنّ الشركتين تعتبران حماس منظّمة إرهابية.
منصّة تيك توك أكّدت لصحيفة “واشنطن بوست” أن حماس ممنوعة على منصته أيضًا. أمّا تيليغرام فمراقبته للمحتوى محدودة جدًا في حين أصبحت منصة “إكس” مركزًا للمشاركات ومقاطع الفيديو التي تم حذفها من منصات أخرى بسبب انتهاكها لقواعد المنصات ضد العنف أو خطاب الكراهية.
ممّا لا شكّ فيه، بحسب أبي حيدر، أنّ ميتا تتبع أجندة الدول الغربية الأقوى تحديدًا الولايات المتحدة الأميركية والدول الأوروبية، بالرغم ممّا يقولونه عن أهمية حرية التعبير.
تنتقد أبي حيدر وسائل التواصل الاجتماعي معتبرة أنّها تعمل أكثر في إخفاء المحتوى الفلسطيني بدلًا من مواجهة الأخبار المزيّفة وغير الدقيقة، كخبر قيام حماس بقطع رأس الأطفال والذي تبيّن أنّه غير صحيح، بعد أن انتشر انتشارًا واسعًا على منصّات التواصل.
الّا أنّه رغم كل هذا اليأس في المشهد، تقول أبي حيدر أنّ ميتا لديها قاعدة أنّ “كلما زادت المشاركات على المحتوى، نتمكّن، من تشتيت الروبوت. المحتوى هو الملك (content is king)، بحسب ميتا، إذا كان محتوانا جيد، فلن يهم ما يحدث، سيصل دائمًا إلى الجمهور. لدينا كاتبو محتوى جيدون، إنها معركة بين البشر والروبوتات، والبشر سيكونون دائمًا أفضل من الروبوتات، وستكون أعدادنا أكبر ويمكننا خداع خوارزميات ميتا”. كما ترى أبي حدير أنه من الأفضل نشر المحتوى الفلسطيني بالإنجليزية للوصول إلى الأجانب، أما بالنسبة للعرب، “فنحن معظمنا على دراية بقضية الفلسطينيين”، هذا بالإضافة إلى أهمية الضغط الفلسطيني على المنصّات أو المؤثرين الذي ينشرون محتوى داعم لإسرائيل لأن ذلك أثبت أنّه مجدي في بعض الأحيان فمثلًا مؤثرين ككايلي جينير وجاستن بيبر ألغوا منشوراتهم المضلّلة بعد الضغط.
إقرأوا أيضاً: