عدد الأطفال والطفلات الذين استهدفتهم الحرب في غزة مرعب، وبات يشكل سابقة على مستوى الانحدار الأخلاقي العالمي، الذي أشاح بنظره، وربما ساهم في استباحة أرواح الأطفال والطفلات، ما أتاح الانقضاض الوحشي على من هم في أمسّ الحاجة إلى الحماية.
14000 طفل وطفلة فقدوا الحياة منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، وذلك وفقاً لوزارة الصحة في غزة، التي تشير إلى أن نحو نصف القتلى لم تُحدَّد هوياتهم بالكامل، إنما بشكل جزئي، بسبب تضرر جثثهم إلى حد لا يسمح بتحديد هوية الجثة. كما أن المقابر الجماعية التي كُشف عنها أخيراً، تضم عدداً من الجثث العائدة إلى أطفال وطفلات، ظهرت عليها علامات التعذيب والإعدامات السريعة، وكذلك حالات محتملة لأشخاص دُفنوا أحياء.
لكن الموت، في ما يبدو، ليس المصير الموحش الوحيد، الذي يواجهه الأطفال والطفلات في غزة، فهناك 21,000 طفل وطفلة في عداد المفقودين، في فوضى الحرب الإسرائيلية الوحشية التي لا قعر لها.
كثيرون منهم محاصرون تحت الأنقاض، محتجزون، مدفونون في قبور مجهولة، أو منفصلون عن أسرهم، هذا ما خلص إليه تقرير “منظمة إنقاذ الطفولة” الصادر في 24 حزيران/ يونيو 2024، الذي أشار إلى أن فرق حماية الطفل التابعة للمنظمة، تُؤكد أن النزوح الأخير الناتج من الهجوم في رفح، قد تسبب بفصل المزيد من الأطفال والطفلات عن البيئة العائلية.
وعلى رغم أن عدداً غير محدد من الأطفال والطفلات، وجد بيئة حاضنة في الأسرة الممتدة أو الجيران، إلا أن هذه الأسر باتت عاجزة عن توفير الحد الأدنى من الاحتياجات الأساسية لأفراد عائلتها، وهذا ما يشكل ضغطاً كبيراً على الاستمرار بحضانة الأطفال والطفلات غير المصاحبين والمصاحبات.
وهنا لا بد من التأكيد أن حالات النزوح والترحال المتكررة نتيجة المخاطر الأمنية، التي لا طاقه لنا حتى على مشاهدتها على شاشات التلفزيون، تزيد من مخاطر تعرض الأطفال والطفلات لسوء المعاملة والانتهاكات المفتوحة على احتمالات مخيفة، ليس أقلها الخوف من القصف والجوع ومشاهدة أشلاء الأم والأب والأخ والأخت.
وعلى رغم صعوبة الوصول إلى إحصاءات دقيقة حول أرقام الإصابات والوفيات، لكن تقاطع المعلومات الصادرة عن المنظمات الدولية يشير إلى أن هناك نحو 17,000 طفل وطفلة غير مصاحبين أو مفصولين كلياً عن البيئة العائلية، وأن هناك 4,000 طفل يُعتقد أنهم مفقودون تحت الأنقاض، وربما يكون أخطر ما أشار إليه التقرير الصادر عن “منظمة إنقاذ الطفولة” هو أن عدداً غير معروف من الأطفال والطفلات مدفون في المقابر الجماعية.
كما أن آخرين وأخريات قد اختفوا قسرياً، وربما هناك أطفال وطفلات قيد الاحتجاز، أو جرى نقلهم قسرياً من غزة، ومكانهم غير معروف لعائلاتهم، وسط تقارير عن سوء المعاملة والتعذيب الذي يتعرضون لها في الاحتجاز.
إقرأوا أيضاً:
وحديثاً، شهد العالم على محرقة جديدة إثر الهجوم المتوحش على مخيمات النزوح في رفح؛ هي محرقة الألفية الثانية، إذ أُبلغ عن سقوط عدد كبير من الضحايا، معظمهم من الأطفال والطفلات، أحرقتهم وهم أحياء، قنابل الجيش الإسرائيلي.
ولعل أقسى العذابات، أنه حتى في الموت، لا يتاح للأهالي دفن أطفالهم، نتيجة تشوّه الجثث إلى درجة انعدام القدرة على التعرف على هوياتها، والعذاب الأكثر إيلاماً الذي يصيب العائلات التي فقدت الاتصال مع أطفالها، هو عدم معرفة مصير الطفل أو الطفلة المفقودين.
تاريخ استهداف الأطفال والطفلات كأداة حرب خلال الإبادات الجماعية، حافل بانتهاكات مشابهة، ففي عام 2021، اكتُشفت مقابر جماعية لأطفال وطفلات من الشعب الأصيل في كندا، في أراضٍ تابعة للمدارس الداخلية الكندية، وهي مؤسسات لبست لباس التبشير، إلا أنها كانت تهدف إلى تفكيك الهوية والانقضاض على مجتمعات الشعب الأصيل، عبر خطف الأطفال والطفلات وإيداعهم في مدارس داخلية على شكل سجون. وهدفت هذه المدارس، أو ما يعرف بالمؤسسات الرعائية، إلى دمج الأطفال والطفلات الأصليين في المجتمع الكندي الجديد بالقوة. وفي عام 2015، أقدم حوالى 6000 ممن اختبروا المؤسسات الرعائية في كندا، على تقديم شهادات تؤكد تعرضهم إلى اعتداءات جنسية وضرب وإذلال، ما أدى إلى اعتراف كندا والكنيسة الكاثوليكية بأن هذه الممارسات التي بدأت مع استعمار أراضي الشعوب الأصيلة منذ 1900، شكلت إبادة ثقافية للشعوب الأصيلة في كندا.
هذه المدارس شهدت حالات موت عدة للأطفال والطفلات، بسبب سوء المعاملة والإهمال والأمراض، ومن ثم دفن المستعمر، عمداً، هؤلاء الأطفال والطفلات في قبور مجهولة بعيداً عن أسرهم. وشكل اكتشاف ما يقارب 7000 جثة في مقابر مجهولة، صدمة كبيرة فتحت جروحاً قديمة، ما زال الشعب الأصيل في كندا يرزح تحتها، لأن الأطفال والطفلات محور المجتمعات، وقتلهم يعني قتل أساس المجتمعات الأصيلة.
وفي الأرجنتين، وبعد الانقلاب العسكري الفاشي عام 1976، فرضت الحكومة العسكرية نظاماً قمعياً شديد الوحشية، إذ لاحقت القوات العسكرية معارضي النظام وعذّبتهم وقتلتهم، وخُطف آلاف الأشخاص من منازلهم وأماكن عملهم وشوارعهم، من دون أية محاكمة أو تهم رسمية، الكثير منهم اختفوا تماماً ولم يُعرف مصيرهم إلى الآن.
آنذاك، سحق الجيش معارضيه بوحشية، وأخذ ما لا يقل عن 500 طفل وطفلة من أسرهم، وسلّمهم لأزواج عسكريين لتربيتهم، ولا يزال كثر منهم يعيشون غير مدركين هويتهم الحقيقية.
أما في فيتنام ومع نهاية الحرب، نظم الجيش الأميركي عمليات لنقل الأطفال والطفلات إلى الولايات المتحدة، حيث وُضعوا في دور رعاية أو مع عائلات أميركية، وواجه الكثير منهم صعوبات في التكيف مع البيئة الجديدة والاختلافات الثقافية الكبيرة بين فيتنام والولايات المتحدة. وبعد مرور السنين، بدأ بعضهم في البحث عن عائلاتهم البيولوجية في فيتنام.
قتل الأطفال والطفلات في غزة وفصلهم عن عائلاتهم والتنكيل بهم وحجز حريتهم ودفنهم في مقابر غير معلومة، هذه الممارسات كلها حدثت عمداً وليست بخطأ عرضي أو أثمان موازية. هي استراتيجية قتال كرستها الحروب من دون حساب أو مساءلة قانونية.
إقرأوا أيضاً: