انتهت الحرب، لكن أثرها لن ينتهي قريبًا. غزة اليوم ليست كما عرفتها الأيام السابقة، بل أصبحت مدينة مكسورة، صامتة، يلفّها الغبار ورائحة الموت.
خلال الحرب، لم يفكر الغزيون إلا بالنجاة. النجاة من القصف، من الجوع، من العطش، من كل ما يعنيه الفقد اليومي. في اليوم التالي للحرب، لا صوت إلا صوت الركام وهو يُقلَب بحثاً عن بقايا حياة. المدينة التي كانت تضجّ بالحركة تحوّلت إلى مساحة رمادية، ميتة الملامح. لا بيوت، لا مدارس، لا طرقات سالكة، ولا لحظات من الأمان.
آلاف العائلات أبيدت، وآلاف الرجال والنساء والأطفال فقدوا أطرافهم أو أحبتهم أو كل شيء. أكثر من 67 ألف قتيل، 169 ألف جريح، وما يزيد عن 10 آلاف مفقود. أرقام لا يمكن لعقل أن يستوعبها بسهولة، لكنها صارت تفاصيل يومية في حديث الناس.
من المنتصر ومن الخاسر؟
الحرب انتهت على الورق، لكن من المنتصر؟ من الخاسر؟ المنتصر غائب في هذه المعادلة، والخاسر واضح في كل وجه، في كل دمعة، في كل يدٍ تبحث عمّن تبقّى. الأطفال الذين كانوا يملؤون الشوارع بأصواتهم، يواجهون الآن صمتاً خانقاً ووجوهاً متعبة. النساء اللواتي فقدن الأزواج والأبناء يواجهن مجتمعاً يطالبهن بالصمود، وكأن الصمود فرضٌ أبديّ. الرجال الذين فقدوا أعزاءهم وأعمالهم وجنى عمرهم يقفون على أطلال الحياة، يتساءلون إن كانت هناك بداية ممكنة بعد هذا الخراب.
أطفال غزة: جيل بلا ذاكرة آمنة
ضحكات الأطفال تحوّلت إلى ذكريات. أصوات اللعب انطفأت في الشوارع التي صارت خرائب. كل طفل في غزة سيحمل في عينيه قصة موت رآها، صورة جسد لم يغادر مخيلته. لا دروس في المدارس، بل دروس في البقاء، في كيفية النجاة من الصدمة.
إقرأوا أيضاً:
هؤلاء الأطفال سيكبرون وهم يتحدثون لغة الحرب قبل لغتهم الأم، سيكبرون وهم يحفظون شكل المسيرات والصواريخ والطائرات الحربية أكثر من شكل الطيور.
نساء غزة: ذاكرة الفقد الطويلة
النساء في غزة اليوم لن يحملن فقط أعباء البيت، بل عبء المدينة كلّها. في كل بيت حكاية عن أم فقدت، وأخرى ما زالت تبحث عن ابنٍ تحت الركام، أو زوج أو أخ أو قريب في كل زاوية، امرأة تنفض الغبار عن صورةٍ علّها تشمّ منها رائحة من رحل. سيبدأن من الصفر، يعلّمن أبناءهن، يعملن في كل المجالات، يحاولن أن يزرعن في الأطفال شيئاً من الحياة رغم أنهن فقدنها. الصمود ليس خياراً بطولياً، بل غريزة البقاء في مدينة لا تترك مجالاً للانهيار.
رجال غزة: ما بعد الرجولة المكسورة
رجال غزة الذين اعتادوا أن يكونوا عماد البيت والمجتمع سيجدون أنفسهم اليوم أمام اختبار قاسٍ: أن يبنوا من جديد في مدينة بلا أدوات. المصانع والمتاجر والمزارع التي كانت مصدر رزقهم تحوّلت إلى رماد. بعضهم سيبيع ما تبقى من معداته في محاولات لإعادة الحياة، وآخرون سيعملون في إزالة الركام كأنهم يزيلون عن صدورهم أثقالاً من الحزن. الرجولة هنا لم تعد تعني القوة، بل القدرة على الاستمرار رغم العجز.
غزة بين الأمس واليوم: أرض بلا ملامح
غزة اليوم تبدو غريبة على نفسها، كأنها فقدت ذاكرتها. الشوارع التي كانت مسرحاً للحياة صارت متاهات. المآذن والجدران والبحر، كلها تشهد على مدينة تحاول أن تتذكر ماضيها لكنها لا تستطيع. الناس يسيرون بين الأنقاض كما لو أنهم يسيرون في حلم ثقيل، يبحثون عن معانٍ لأماكن لم تعد موجودة.
من يواسي الصغار في حرب الكبار؟
حرب الكبار انتهت، ولكن من يواسي الصغار؟ من يعيد إليهم حياتهم، أطرافهم، مَن فقدوهم، آمالهم وأحلامهم؟ كيف يمكن لطفل أن يفهم أن بيته لن يعود، أن أصدقاءه رحلوا، وأن العالم يشاهد من بعيد؟ الكبار وقّعوا السلام وتبادلوا الأنخاب، لكن على أرض غزة تُقام جنازات الصمت. السلام لا يعني شيئاً هنا، لأن ما فقده الناس لا يُعوّض.
ما بعد الحرب: الحاجة إلى العدالة
أكبر مأساة في غزة اليوم ليست فقط الخراب المادي، بل غياب العدالة. من سيحاسب على هذا الكمّ من الأرواح المهدورة؟ من سيعالج ما لا يُرى: الخوف المزمن، الاكتئاب، الصدمات النفسية، فقدان الإيمان بالإنسانية؟ الحرب لم تنتهِ فعلاً، لأنها تركت خلفها مجتمعاً يعيش في دائرة الفقد. غزة ليست مجرد مدينة مدمّرة، بل شهادة حيّة على هشاشة العالم أمام الألم الإنساني.
إقرأوا أيضاً:











