fbpx
ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

غزة ليست وحدها: العالم كلّه تحت تهديد ترامب!

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

عندما يتحدث دونالد ترامب عن “فتح أبواب الجحيم”، فهو لا يتحدث عن غزة وحدها، بل عن العالم كله، بما في ذلك سكان الولايات المتحدة الذين يتعاملون يومياً مع قرارات عبثية تترك تأثيراً مباشراً على حياتهم!

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

يعتقد الرئيس الأميركي دونالد ترامب أن بإمكانه تحويل قطاع غزة، الذي تبلغ مساحته 360 كيلومتراً مربعاً، إلى منتجع سياحي كبير، وأن تهجير سكانه، الذين يتجاوز عددهم المليوني نسمة ونقلهم قسرياً إلى بلدان أخرى، أمرٌ طبيعي وبإمكانه تنفيذه من دون تبعات سياسية. بل إنه يعتقد أنه قادر على “انتزاع” غزة من بين يدي رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو الذي حاول ولا يزال تدمير مقومات الحياة فيها بغية احتلالها، وتحويلها إلى منطقة تديرها الولايات المتحدة رغم الإرادة الإسرائيلية. لكن اعتقاد ترامب يحمل خطراً حقيقياً لمجرد كونه رئيساً لأكبر قوة اقتصادية وعسكرية في العالم. من هذا الموقع، يمكن لأي طرح يبدو مستحيلاً أو غير قابل للتصديق أن يتحوّل إلى أمرٍ قابلٍ للتطبيق.

يهدف مخطط ترامب لتهجير سكان غزة إلى إلغاء الحق الفلسطيني في إقامة دولة مستقلة عبر تغيير الواقع الديموغرافي، حتى لو كان ذلك يعني إقامة تلك الدولة على 20 في المئة فقط من الأراضي الفلسطينية التاريخية. الهدف هو تقويض أي أمل حتى لو كان ذلك في تحقيق حل الدولتين. يثير هذا المخطط صداماً مباشراً مع الدول الأعضاء في كل من جامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي، كما أنه ينتهك بشكل صارخ مجموعة واسعة من الاتفاقيات الدولية التي تحظر التهجير القسري للسكان، وتؤكد حق الشعوب في تقرير مصيرها.

من الناحية الجيوسياسية، فإن تنفيذ مثل هذا المخطط قد يؤدي إلى تفجير الوضع في منطقة الشرق الأوسط، حيث أن القضية الفلسطينية تظل قضية حساسة بالنسبة الى الجزء الأكبر من الشعوب العربية والإسلامية، على الرغم من العوامل القاهرة من تراجع الدعم الرسمي والدولي، والانقسام بين الفصائل الفلسطينية، والتغيرات السياسية الكبيرة في ظل التفوق العسكري والتكنولوجي الإسرائيلي.

ترامب وحربه على القانون الدولي

يحاول ترامب شطب حصيلة 80 عاماً من الجهد السياسي والقانوني لدول العالم، بما في ذلك الولايات المتحدة نفسها، وعقوداً طويلة من تضحيات الشعوب التي لولاها لما توصل المجتمع الدولي إلى صياغة القواعد التي تنظم العلاقات الدولية، التي تمنع، إلى هذا الحد أو ذاك، توسع الحروب واستمرارها إلى ما لا نهاية، كما كان الحال عليه في زمن الإمبراطوريات. على رغم أن تناقضات الرأسمالية نفسها تدفع بشكل متسارع نحو حروب عالمية جديدة ذات طابع إمبريالي، إلا أن وجود القانون الدولي يظل أحد “مكابح” الحروب، سواء من ناحية إبطائها ومنع تفاعل عوامل تفاقمها، أو من ناحية إيجاد حلول وسط ترضي الأطراف المتنازعة.

تستمر محاولات ترامب لاستبدال القانون الدولي بقانون الغاب على المستويات كافة وفي جميع العلاقات الدولية. في ما يتعلق بغزة، فإن خطته تتعارض تماماً مع ما تنص عليه المادة رقم 49 من اتفاقية جنيف عام 1949 حول حظر “النقل الجبري الجماعي أو الفردي للأشخاص المحميين أو نفيهم من الأراضي المحتلة إلى أراضي دولة الاحتلال أو إلى أراضي أي دولة أخرى، محتلة أو غير محتلة، أياً كانت دواعيه”. كما تتعارض مع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948، والذي نص بوضوح في المادة رقم 9 على أنه لا يجوز نفي أي إنسان تعسفاً، وأكّد في المادة رقم 13 حق كل فرد “في حرية التنقل واختيار مكان إقامته” و”مغادرة أي بلد، بما في ذلك بلده، والعودة إلى بلده”. وتتعارض أيضاً مع ما تنص عليه المادة رقم  12 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية عام 1966 حول حق كل فرد بحرية التنقل وحرية اختيار مكان إقامته، وعدم جواز تقييد تلك الحقوق، إضافة إلى عدم جواز “حرمان أحد، تعسفاً، من حق الدخول إلى بلده”.

إضافة إلى ذلك، تتعارض الخطة مع عدد من المواد في إعلان الأمم المتحدة بشأن حقوق الشعوب الأصلية عام 2007، إذ يؤكد الإعلان في المادتين رقم 3 و4 حق الشعوب الأصلية في تقرير مصيرها، وأن تحصل على الحق بالاستقلال والحكم الذاتي. وفي المادة رقم 8 نصّ على رفض النقل القسري للسكان والتعرض للإدماج الجبري والتدمير الثقافي ونزع ملكية الأراضي والأقاليم والموارد. وفي المادة رقم 10 نصّ على رفض الترحيل القسري وعدم جواز “النقل إلى مكان جديد من دون إعراب الشعوب الأصلية المعنية عن موافقتها الحرة والمسبقة والمستنيرة وبعد الاتفاق على تعويض منصف وعادل، والاتفاق، حيثما أمكن، على خيار العودة”. وفي المادة رقم 26 نص على حق الشعوب الأصلية “في الأراضي والأقاليم والموارد التي امتلكتها أو شغلتها بصفة تقليدية، أو التي استخدمتها أو اكتسبتها بخلاف ذلك”. وفي المادة رقم 30 نصّ على عدم جواز “القيام بأنشطة عسكرية في أراضي الشعوب الأصلية أو أقاليمها، ما لم تبررها مصلحة عامة وجيهة، أو ما لم تقر ذلك أو تطلبه بحرية الشعوب الأصلية المعنية”.

علاوة على ما سبق، يحظر القانون الدولي بشكل حاسم عمليات الإخلاء القسري ويعتبرها انتهاكاً صارخاً لحقوق الإنسان، وذلك ما تؤكده وثيقة أصدرها مكتب المفوضية السامية للأمم المتحدة عام 2014 بعنوان “الإخلاء القسري“، والتي تتناول مجمل الظروف المسببة والآثار الناتجة من تلك العمليات. وتميّز الوثيقة بين أنواع عمليات الإخلاء القسري التي يتراوح نطاقها بين إخلاء فرد واحد أو أسرة أو مجموعة أو جماعة واحدة إلى حي بكامله، وصولاً إلى عمليات ترحيل واسعة النطاق تشمل عشرات آلاف السكان، وهو ما يُخطط له فعلياً من إدارة ترامب في غزة. وتتناول الوثيقة بوضوح مسألة التهجير القسري في فترة ما بعد النزاعات والكوارث واستخدامها ذريعة لإخلاء المنازل من أصحابها وترحيلهم، وهذا ما ينطبق أيضاً على حالة قطاع غزة بعد الحرب الإسرائيلية المدمرة والخطاب الذي يستخدمه ترامب لأنسنة مخططه بحجة وجود مبررات إنسانية تتعلق بحاجة سكان غزة للأمان والابتعاد عن منطقة النزاع.

الولايات المتحدة تسير نحو العزلة الدولية

يخلق ترامب أعداءً لا حصر لهم في فترة قياسية. فخطابه المتطرف في ما يتعلق بغزة لا يقتصر على تهجير سكانها، بل يتعدى ذلك إلى إعلان العداء الصريح للمجتمع الدولي من موقع رئاسة الولايات المتحدة الأميركية، وهو أمرٌ غير مألوف في تاريخ السياسة الدولية، إذ اعتادت الولايات المتحدة على تجاوز القانون الدولي أو عرقلة إصدار قرارات مجلس الأمن عبر استخدام حق النقض. لكن في حالة ترامب، تتجه الولايات المتحدة بخطى ثابتة نحو العزلة الدولية، وربما إلى الانسحاب من المجتمع الدولي، على غرار ما فعلته ألمانيا تحت حكم أدولف هتلر عندما انسحبت من عصبة الأمم عام 1933. وإذا واصل ترامب هذا النهج الانعزالي، فسيضع الولايات المتحدة في أزمة شرعية دولية.

يتحدث ترامب عن إلغاء اتفاق وقف إطلاق النار و”فتح أبواب الجحيم” على غزة إذا لم تسلم حركة “حماس” جميع الأسرى الإسرائيليين بحلول ظهر يوم السبت في  15 شباط/ فبراير 2025، وكأنه بذلك يُخرِج ورقة أخرى من جيبه لتسريع تنفيذ خططه العقارية في غزة، وفي الوقت نفسه يهدّد سيادة عدد من الدول العربية بأسلوب مهين ومذلٍّ لم يسبق للحكومات العربية أن اختبرت مثله. هو في الحقيقة يضع الدول العربية، وبخاصة الأردن ومصر والسعودية، أمام خيارين كلاهما مرٌّ، لكن أفضلهما هو توحيد الموقف للتصدّي والرفض المطلق لمشروع ترامب لعقلنته وإجباره على التراجع، خصوصاً وأن الظروف الدولية الحالية تسمح بذلك، كون ترامب يستجدي عداء كل العالم بما في ذلك أقرب حلفائه في حلف الشمال الأطلسي.

يكشف مخطط ترامب لغزة عن رؤية قصيرة النظر تضع المصالح السياسية والاقتصادية فوق القيم الإنسانية الأساسية بشكل مطلق. الجانب الإنساني لا يقتصر فقط على حق سكان غزة في حياة آمنة وسكن لائق، فالتهجير الجماعي القسري يعني تدمير مجتمع غزة، وحرمان الأجيال القادمة من حقها في العيش على أرضها، والتمتع بحقوقها الثقافية والتاريخية. ولدى الشعب الفلسطيني في الشتات جرح عميق في ذاكرته الجماعية بسبب هذه القضية بالذات. وإذا نجح ترامب في تنفيذ مخططه في غزة، فستكون هذه سابقة تنذر بانهيار الاستقرار العالمي، إذ ستسمح كل الدول “القوية” لنفسها بانتهاك القانون الدولي بالطريقة نفسها، والتسبب بإحداث موجات كبيرة من التهجير القسري لعدد من الشعوب تحت ذريعة أنها تعرف ما هو الأفضل لها.

إعادة هيكلة السيطرة وتفكيك أدوات السيطرة القديمة

ما يميز ترامب عن الرؤساء السابقين هو سعيه الدؤوب، بمشاركة إيلون ماسك، إلى السيطرة على المجتمع الأميركي قبل العالم. يتم ذلك من خلال إغراق الأميركيين بقرارات سياسية وإدارية واقتصادية مفاجئة يومياً، فيحولهم إلى متلقين عاجزين عن استيعاب الكم الهائل من التغيرات والتفاعل معها بوعي ومرونة وعدم تسرّع. لا يستريح ترامب، ويتعمد إصابة المجتمع الأميركي بالشلل السياسي، كوسيلة للسيطرة على الرأي العام، ما سيعزز في النهاية الهيمنة الاقتصادية والسياسية للحلف الأوليغارشي الذي يمثله.

لكن الأسوأ من بين سلسلة القرارات التي اتخذها ترامب حتى اللحظة يتمحور حول تفكيك أدوات السيطرة الناعمة، داخل الولايات المتحدة وخارجها على حد سواء، ما سيدفع تدريجياً إلى اعتماد أساليب عسكرية مباشرة حول العالم لتدعيم السيطرة الأميركية. فلا يوجد بديل للتأثير في القرار السياسي لدول العالم الفقيرة والنامية عبر إغراقها بالمساعدات المالية والإنسانية غير استخدام لغة القوة والضغط المباشر. إضافة إلى زيادة تركيز السلطة بيد الحلف الأوليغارشي داخل الولايات المتحدة نفسها، ما سيترك تأثيرات سلبية مباشرة على الحياة السياسية الديمقراطية، وسيترجم عملياً إلى تقييد متزايد للحريات، وبخاصة الحريات النقابية، وتحكم في وسائل الإعلام، وتهميش أكبر للفئات الاجتماعية الضعيفة، والتي وثقت شرائح كبيرة منها بوعود ترامب وانتخبته ظناً منها أنه باندفاعه وحزمه يمثل الخلاص من براثن الإهمال والاستغلال.

يعيد ترامب تعريف السياسة الأميركية من خلال استراتيجيات الصدم والتشتيت، مسبباً بتحويل الولايات المتحدة والعالم إلى مسرح دائم من الفوضى. وفي الوقت عينه، يحاول فرض توجهاته ومخططاته، محولاً القنوات الدبلوماسية إلى أدوات لفرض مطالبه بالقوة. لم يعد بالإمكان تحديد أي من مخططات ترامب أكثر جنوناً، فهو يستيقظ من نومه يومياً ليذهل العالم بفكرة جديدة  تبدو للوهلة الأولى غير قابلة للتطبيق، لكن إصراره واستغلاله موقعه ونقاط قوته يجبران حكومات العالم على إعادة التفكير والبحث في البديهيات. فيما يلعب إيلون ماسك دوراً محورياً في تعزيز استراتيجية ترامب، بصفته أحد أقطاب التكنولوجيا ووسائل التواصل.

“أبواب الجحيم”: تهديد للعالم بأسره وليس فقط لغزة

عندما يتحدث ترامب عن “فتح أبواب الجحيم”، فهو لا يتحدث عن غزة وحدها، بل عن العالم كله، بما في ذلك سكان الولايات المتحدة الذين يتعاملون يومياً مع قرارات عبثية تترك تأثيراً مباشراً على حياتهم. يطرق ترامب على “أبواب الجحيم” في العالم كله ليس فقط لكون غزة واحدة من مصادر عدم الاستقرار في العالم، ولأن ما يحصل في غزة ينعكس، بشكل أو بآخر، وإلى هذا الحد أو ذاك، على كل العالم، وبخاصة منطقة الشرق الأوسط، بل لأن ترامب يهدّد عدداً من دول العالم مباشرة.

فها هو يوجه أنظاره نحو ضم كندا وجعلها الولاية رقم 51، وضم غرينلاند، ما جعل الدنمارك تتأهب عسكرياً بدعم من الاتحاد الأوروبي، ويقرر انسحاب الولايات المتحدة من منظمة الصحة العالمية، وهي أكبر مساهم في ميزانيتها، ويوقف المساعدات لعدد من دول العالم الفقيرة والنامية بغية فرض المزيد من الشروط السياسية عليها، ومن بينها مصر والأردن لفرض تهجير سكان غزة إليهما، ويصدر قراراً بإغلاق الوكالة الأميركية للتنمية الدولية وتجميد المساعدات الخارجية، ما يسبب كوارث إنسانية ويعرض عشرات آلاف الأشخاص إلى الموت، بخاصة مع إغلاق برامج فيروس نقص المناعة البشرية وبرامج التغذية في أكثر الدول فقراً، فيما يستمر باستفزاز كل دول العالم عبر رفع التعريفات الجمركية، وغيرها الكثير من القرارات.

باختصار، يريد ترامب أن يجعل “الولايات المتحدة عظيمة مجدداً”، لكن على حساب العالم كله، عبر تهشيم النظام النيوليبرالي العالمي من طرف واحد، إذ هدد بفرض رسوم جمركية بنسبة مئة في المئة على الدول التي تتخلى عن التعامل بالدولار الأميركي. عملياً، هو يسعى الى إخضاع العالم وإذلاله، وليس الارتقاء بالولايات المتحدة على أساس المعايير الدولية الموحدة.

في الميثولوجيا الإغريقية، كان فتح “أبواب الجحيم” يمثل انتقال الأرواح من عالم الأحياء إلى العالم السفلي المظلم والمرعب، وكان الإله الإغريقي “هيدز” يحكم هذا العالم المغلق الذي سمي على اسمه، ويحفظ النظام فيه، إذ تفتح بوابته للدخول إليه فقط، بما يضمن التوازن بين العالمين.

 أما في حالة ترامب، فالمقارنة بين الجحيم الذي يهدد بفتح أبوابه وبين الجحيم الذي كان هيدز يوصد أبوابه، فيها ظلم للإله الإغريقي. فـ “الإله الأميركي” الذي يصب الزيت على نار الأزمات الدولية مدعياً نيته إنهاء الحروب، والذي يفاقم التوترات العسكرية حتى بين الحلفاء، ويضاعف من أثر الأزمات الاقتصادية عبر انقضاضه على اتفاقيات التجارة الحرة التي كانت الولايات المتحدة أول من دعا إلى إقامتها بعد انهيار الكتلة الشرقية من دون تقديم بديل اقتصادي قابل للحياة على المدى الطويل، يهدد بفتح “أبواب الجحيم” الحقيقية عبر نسف التوازن الهش الذي يقوم عليه عالمنا الحقيقي، ما قد يؤدي إلى فوضى لا تحمد عقباها على نطاق العالم بوسعه. وهنا أتحدث عن فوضى تعيد إنتاج نفسها باستمرار وبأشكال تافهة وغير منطقية، واحتمالات أن تقود إلى كوارث كبرى أكبر من احتمال أن تنتج منها حركات مقاومة شعبية ونضالية منظمة. وربما هذا هو بالضبط ما يريده ترامب، الذي يحاول “إدارة العالم” بعقلية التاجر الرأسمالي الذي يملك أكبر ترسانة عسكرية، ومن خلفه إيلون ماسك الذي يحاول السيطرة على كل شيء، حرفياً.

نجيب جورج عوض - باحث سوري | 21.03.2025

هيئة تحرير الشام، الطائفية، و”ميتريكس” سوريا الموازية

في سوريا الحالية الواقعية، لا يوجد خيار ولا كبسولتان ولا حتى مورفيوس: إما أن تنصاع لحقيقة هيمنة ميتريكس سوريا الافتراضية الموازية الذي أحضرته الهيئة معها من تجربة إدلب، أو عليك أن تتحول إلى ضحية وهدف مشروعين أمام خالقي الميتريكس وحراسه في سبيل ترسيخ وتحقيق هيمنة الميتريكس المذكور على الواقع.
15.02.2025
زمن القراءة: 9 minutes

عندما يتحدث دونالد ترامب عن “فتح أبواب الجحيم”، فهو لا يتحدث عن غزة وحدها، بل عن العالم كله، بما في ذلك سكان الولايات المتحدة الذين يتعاملون يومياً مع قرارات عبثية تترك تأثيراً مباشراً على حياتهم!

يعتقد الرئيس الأميركي دونالد ترامب أن بإمكانه تحويل قطاع غزة، الذي تبلغ مساحته 360 كيلومتراً مربعاً، إلى منتجع سياحي كبير، وأن تهجير سكانه، الذين يتجاوز عددهم المليوني نسمة ونقلهم قسرياً إلى بلدان أخرى، أمرٌ طبيعي وبإمكانه تنفيذه من دون تبعات سياسية. بل إنه يعتقد أنه قادر على “انتزاع” غزة من بين يدي رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو الذي حاول ولا يزال تدمير مقومات الحياة فيها بغية احتلالها، وتحويلها إلى منطقة تديرها الولايات المتحدة رغم الإرادة الإسرائيلية. لكن اعتقاد ترامب يحمل خطراً حقيقياً لمجرد كونه رئيساً لأكبر قوة اقتصادية وعسكرية في العالم. من هذا الموقع، يمكن لأي طرح يبدو مستحيلاً أو غير قابل للتصديق أن يتحوّل إلى أمرٍ قابلٍ للتطبيق.

يهدف مخطط ترامب لتهجير سكان غزة إلى إلغاء الحق الفلسطيني في إقامة دولة مستقلة عبر تغيير الواقع الديموغرافي، حتى لو كان ذلك يعني إقامة تلك الدولة على 20 في المئة فقط من الأراضي الفلسطينية التاريخية. الهدف هو تقويض أي أمل حتى لو كان ذلك في تحقيق حل الدولتين. يثير هذا المخطط صداماً مباشراً مع الدول الأعضاء في كل من جامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي، كما أنه ينتهك بشكل صارخ مجموعة واسعة من الاتفاقيات الدولية التي تحظر التهجير القسري للسكان، وتؤكد حق الشعوب في تقرير مصيرها.

من الناحية الجيوسياسية، فإن تنفيذ مثل هذا المخطط قد يؤدي إلى تفجير الوضع في منطقة الشرق الأوسط، حيث أن القضية الفلسطينية تظل قضية حساسة بالنسبة الى الجزء الأكبر من الشعوب العربية والإسلامية، على الرغم من العوامل القاهرة من تراجع الدعم الرسمي والدولي، والانقسام بين الفصائل الفلسطينية، والتغيرات السياسية الكبيرة في ظل التفوق العسكري والتكنولوجي الإسرائيلي.

ترامب وحربه على القانون الدولي

يحاول ترامب شطب حصيلة 80 عاماً من الجهد السياسي والقانوني لدول العالم، بما في ذلك الولايات المتحدة نفسها، وعقوداً طويلة من تضحيات الشعوب التي لولاها لما توصل المجتمع الدولي إلى صياغة القواعد التي تنظم العلاقات الدولية، التي تمنع، إلى هذا الحد أو ذاك، توسع الحروب واستمرارها إلى ما لا نهاية، كما كان الحال عليه في زمن الإمبراطوريات. على رغم أن تناقضات الرأسمالية نفسها تدفع بشكل متسارع نحو حروب عالمية جديدة ذات طابع إمبريالي، إلا أن وجود القانون الدولي يظل أحد “مكابح” الحروب، سواء من ناحية إبطائها ومنع تفاعل عوامل تفاقمها، أو من ناحية إيجاد حلول وسط ترضي الأطراف المتنازعة.

تستمر محاولات ترامب لاستبدال القانون الدولي بقانون الغاب على المستويات كافة وفي جميع العلاقات الدولية. في ما يتعلق بغزة، فإن خطته تتعارض تماماً مع ما تنص عليه المادة رقم 49 من اتفاقية جنيف عام 1949 حول حظر “النقل الجبري الجماعي أو الفردي للأشخاص المحميين أو نفيهم من الأراضي المحتلة إلى أراضي دولة الاحتلال أو إلى أراضي أي دولة أخرى، محتلة أو غير محتلة، أياً كانت دواعيه”. كما تتعارض مع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948، والذي نص بوضوح في المادة رقم 9 على أنه لا يجوز نفي أي إنسان تعسفاً، وأكّد في المادة رقم 13 حق كل فرد “في حرية التنقل واختيار مكان إقامته” و”مغادرة أي بلد، بما في ذلك بلده، والعودة إلى بلده”. وتتعارض أيضاً مع ما تنص عليه المادة رقم  12 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية عام 1966 حول حق كل فرد بحرية التنقل وحرية اختيار مكان إقامته، وعدم جواز تقييد تلك الحقوق، إضافة إلى عدم جواز “حرمان أحد، تعسفاً، من حق الدخول إلى بلده”.

إضافة إلى ذلك، تتعارض الخطة مع عدد من المواد في إعلان الأمم المتحدة بشأن حقوق الشعوب الأصلية عام 2007، إذ يؤكد الإعلان في المادتين رقم 3 و4 حق الشعوب الأصلية في تقرير مصيرها، وأن تحصل على الحق بالاستقلال والحكم الذاتي. وفي المادة رقم 8 نصّ على رفض النقل القسري للسكان والتعرض للإدماج الجبري والتدمير الثقافي ونزع ملكية الأراضي والأقاليم والموارد. وفي المادة رقم 10 نصّ على رفض الترحيل القسري وعدم جواز “النقل إلى مكان جديد من دون إعراب الشعوب الأصلية المعنية عن موافقتها الحرة والمسبقة والمستنيرة وبعد الاتفاق على تعويض منصف وعادل، والاتفاق، حيثما أمكن، على خيار العودة”. وفي المادة رقم 26 نص على حق الشعوب الأصلية “في الأراضي والأقاليم والموارد التي امتلكتها أو شغلتها بصفة تقليدية، أو التي استخدمتها أو اكتسبتها بخلاف ذلك”. وفي المادة رقم 30 نصّ على عدم جواز “القيام بأنشطة عسكرية في أراضي الشعوب الأصلية أو أقاليمها، ما لم تبررها مصلحة عامة وجيهة، أو ما لم تقر ذلك أو تطلبه بحرية الشعوب الأصلية المعنية”.

علاوة على ما سبق، يحظر القانون الدولي بشكل حاسم عمليات الإخلاء القسري ويعتبرها انتهاكاً صارخاً لحقوق الإنسان، وذلك ما تؤكده وثيقة أصدرها مكتب المفوضية السامية للأمم المتحدة عام 2014 بعنوان “الإخلاء القسري“، والتي تتناول مجمل الظروف المسببة والآثار الناتجة من تلك العمليات. وتميّز الوثيقة بين أنواع عمليات الإخلاء القسري التي يتراوح نطاقها بين إخلاء فرد واحد أو أسرة أو مجموعة أو جماعة واحدة إلى حي بكامله، وصولاً إلى عمليات ترحيل واسعة النطاق تشمل عشرات آلاف السكان، وهو ما يُخطط له فعلياً من إدارة ترامب في غزة. وتتناول الوثيقة بوضوح مسألة التهجير القسري في فترة ما بعد النزاعات والكوارث واستخدامها ذريعة لإخلاء المنازل من أصحابها وترحيلهم، وهذا ما ينطبق أيضاً على حالة قطاع غزة بعد الحرب الإسرائيلية المدمرة والخطاب الذي يستخدمه ترامب لأنسنة مخططه بحجة وجود مبررات إنسانية تتعلق بحاجة سكان غزة للأمان والابتعاد عن منطقة النزاع.

الولايات المتحدة تسير نحو العزلة الدولية

يخلق ترامب أعداءً لا حصر لهم في فترة قياسية. فخطابه المتطرف في ما يتعلق بغزة لا يقتصر على تهجير سكانها، بل يتعدى ذلك إلى إعلان العداء الصريح للمجتمع الدولي من موقع رئاسة الولايات المتحدة الأميركية، وهو أمرٌ غير مألوف في تاريخ السياسة الدولية، إذ اعتادت الولايات المتحدة على تجاوز القانون الدولي أو عرقلة إصدار قرارات مجلس الأمن عبر استخدام حق النقض. لكن في حالة ترامب، تتجه الولايات المتحدة بخطى ثابتة نحو العزلة الدولية، وربما إلى الانسحاب من المجتمع الدولي، على غرار ما فعلته ألمانيا تحت حكم أدولف هتلر عندما انسحبت من عصبة الأمم عام 1933. وإذا واصل ترامب هذا النهج الانعزالي، فسيضع الولايات المتحدة في أزمة شرعية دولية.

يتحدث ترامب عن إلغاء اتفاق وقف إطلاق النار و”فتح أبواب الجحيم” على غزة إذا لم تسلم حركة “حماس” جميع الأسرى الإسرائيليين بحلول ظهر يوم السبت في  15 شباط/ فبراير 2025، وكأنه بذلك يُخرِج ورقة أخرى من جيبه لتسريع تنفيذ خططه العقارية في غزة، وفي الوقت نفسه يهدّد سيادة عدد من الدول العربية بأسلوب مهين ومذلٍّ لم يسبق للحكومات العربية أن اختبرت مثله. هو في الحقيقة يضع الدول العربية، وبخاصة الأردن ومصر والسعودية، أمام خيارين كلاهما مرٌّ، لكن أفضلهما هو توحيد الموقف للتصدّي والرفض المطلق لمشروع ترامب لعقلنته وإجباره على التراجع، خصوصاً وأن الظروف الدولية الحالية تسمح بذلك، كون ترامب يستجدي عداء كل العالم بما في ذلك أقرب حلفائه في حلف الشمال الأطلسي.

يكشف مخطط ترامب لغزة عن رؤية قصيرة النظر تضع المصالح السياسية والاقتصادية فوق القيم الإنسانية الأساسية بشكل مطلق. الجانب الإنساني لا يقتصر فقط على حق سكان غزة في حياة آمنة وسكن لائق، فالتهجير الجماعي القسري يعني تدمير مجتمع غزة، وحرمان الأجيال القادمة من حقها في العيش على أرضها، والتمتع بحقوقها الثقافية والتاريخية. ولدى الشعب الفلسطيني في الشتات جرح عميق في ذاكرته الجماعية بسبب هذه القضية بالذات. وإذا نجح ترامب في تنفيذ مخططه في غزة، فستكون هذه سابقة تنذر بانهيار الاستقرار العالمي، إذ ستسمح كل الدول “القوية” لنفسها بانتهاك القانون الدولي بالطريقة نفسها، والتسبب بإحداث موجات كبيرة من التهجير القسري لعدد من الشعوب تحت ذريعة أنها تعرف ما هو الأفضل لها.

إعادة هيكلة السيطرة وتفكيك أدوات السيطرة القديمة

ما يميز ترامب عن الرؤساء السابقين هو سعيه الدؤوب، بمشاركة إيلون ماسك، إلى السيطرة على المجتمع الأميركي قبل العالم. يتم ذلك من خلال إغراق الأميركيين بقرارات سياسية وإدارية واقتصادية مفاجئة يومياً، فيحولهم إلى متلقين عاجزين عن استيعاب الكم الهائل من التغيرات والتفاعل معها بوعي ومرونة وعدم تسرّع. لا يستريح ترامب، ويتعمد إصابة المجتمع الأميركي بالشلل السياسي، كوسيلة للسيطرة على الرأي العام، ما سيعزز في النهاية الهيمنة الاقتصادية والسياسية للحلف الأوليغارشي الذي يمثله.

لكن الأسوأ من بين سلسلة القرارات التي اتخذها ترامب حتى اللحظة يتمحور حول تفكيك أدوات السيطرة الناعمة، داخل الولايات المتحدة وخارجها على حد سواء، ما سيدفع تدريجياً إلى اعتماد أساليب عسكرية مباشرة حول العالم لتدعيم السيطرة الأميركية. فلا يوجد بديل للتأثير في القرار السياسي لدول العالم الفقيرة والنامية عبر إغراقها بالمساعدات المالية والإنسانية غير استخدام لغة القوة والضغط المباشر. إضافة إلى زيادة تركيز السلطة بيد الحلف الأوليغارشي داخل الولايات المتحدة نفسها، ما سيترك تأثيرات سلبية مباشرة على الحياة السياسية الديمقراطية، وسيترجم عملياً إلى تقييد متزايد للحريات، وبخاصة الحريات النقابية، وتحكم في وسائل الإعلام، وتهميش أكبر للفئات الاجتماعية الضعيفة، والتي وثقت شرائح كبيرة منها بوعود ترامب وانتخبته ظناً منها أنه باندفاعه وحزمه يمثل الخلاص من براثن الإهمال والاستغلال.

يعيد ترامب تعريف السياسة الأميركية من خلال استراتيجيات الصدم والتشتيت، مسبباً بتحويل الولايات المتحدة والعالم إلى مسرح دائم من الفوضى. وفي الوقت عينه، يحاول فرض توجهاته ومخططاته، محولاً القنوات الدبلوماسية إلى أدوات لفرض مطالبه بالقوة. لم يعد بالإمكان تحديد أي من مخططات ترامب أكثر جنوناً، فهو يستيقظ من نومه يومياً ليذهل العالم بفكرة جديدة  تبدو للوهلة الأولى غير قابلة للتطبيق، لكن إصراره واستغلاله موقعه ونقاط قوته يجبران حكومات العالم على إعادة التفكير والبحث في البديهيات. فيما يلعب إيلون ماسك دوراً محورياً في تعزيز استراتيجية ترامب، بصفته أحد أقطاب التكنولوجيا ووسائل التواصل.

“أبواب الجحيم”: تهديد للعالم بأسره وليس فقط لغزة

عندما يتحدث ترامب عن “فتح أبواب الجحيم”، فهو لا يتحدث عن غزة وحدها، بل عن العالم كله، بما في ذلك سكان الولايات المتحدة الذين يتعاملون يومياً مع قرارات عبثية تترك تأثيراً مباشراً على حياتهم. يطرق ترامب على “أبواب الجحيم” في العالم كله ليس فقط لكون غزة واحدة من مصادر عدم الاستقرار في العالم، ولأن ما يحصل في غزة ينعكس، بشكل أو بآخر، وإلى هذا الحد أو ذاك، على كل العالم، وبخاصة منطقة الشرق الأوسط، بل لأن ترامب يهدّد عدداً من دول العالم مباشرة.

فها هو يوجه أنظاره نحو ضم كندا وجعلها الولاية رقم 51، وضم غرينلاند، ما جعل الدنمارك تتأهب عسكرياً بدعم من الاتحاد الأوروبي، ويقرر انسحاب الولايات المتحدة من منظمة الصحة العالمية، وهي أكبر مساهم في ميزانيتها، ويوقف المساعدات لعدد من دول العالم الفقيرة والنامية بغية فرض المزيد من الشروط السياسية عليها، ومن بينها مصر والأردن لفرض تهجير سكان غزة إليهما، ويصدر قراراً بإغلاق الوكالة الأميركية للتنمية الدولية وتجميد المساعدات الخارجية، ما يسبب كوارث إنسانية ويعرض عشرات آلاف الأشخاص إلى الموت، بخاصة مع إغلاق برامج فيروس نقص المناعة البشرية وبرامج التغذية في أكثر الدول فقراً، فيما يستمر باستفزاز كل دول العالم عبر رفع التعريفات الجمركية، وغيرها الكثير من القرارات.

باختصار، يريد ترامب أن يجعل “الولايات المتحدة عظيمة مجدداً”، لكن على حساب العالم كله، عبر تهشيم النظام النيوليبرالي العالمي من طرف واحد، إذ هدد بفرض رسوم جمركية بنسبة مئة في المئة على الدول التي تتخلى عن التعامل بالدولار الأميركي. عملياً، هو يسعى الى إخضاع العالم وإذلاله، وليس الارتقاء بالولايات المتحدة على أساس المعايير الدولية الموحدة.

في الميثولوجيا الإغريقية، كان فتح “أبواب الجحيم” يمثل انتقال الأرواح من عالم الأحياء إلى العالم السفلي المظلم والمرعب، وكان الإله الإغريقي “هيدز” يحكم هذا العالم المغلق الذي سمي على اسمه، ويحفظ النظام فيه، إذ تفتح بوابته للدخول إليه فقط، بما يضمن التوازن بين العالمين.

 أما في حالة ترامب، فالمقارنة بين الجحيم الذي يهدد بفتح أبوابه وبين الجحيم الذي كان هيدز يوصد أبوابه، فيها ظلم للإله الإغريقي. فـ “الإله الأميركي” الذي يصب الزيت على نار الأزمات الدولية مدعياً نيته إنهاء الحروب، والذي يفاقم التوترات العسكرية حتى بين الحلفاء، ويضاعف من أثر الأزمات الاقتصادية عبر انقضاضه على اتفاقيات التجارة الحرة التي كانت الولايات المتحدة أول من دعا إلى إقامتها بعد انهيار الكتلة الشرقية من دون تقديم بديل اقتصادي قابل للحياة على المدى الطويل، يهدد بفتح “أبواب الجحيم” الحقيقية عبر نسف التوازن الهش الذي يقوم عليه عالمنا الحقيقي، ما قد يؤدي إلى فوضى لا تحمد عقباها على نطاق العالم بوسعه. وهنا أتحدث عن فوضى تعيد إنتاج نفسها باستمرار وبأشكال تافهة وغير منطقية، واحتمالات أن تقود إلى كوارث كبرى أكبر من احتمال أن تنتج منها حركات مقاومة شعبية ونضالية منظمة. وربما هذا هو بالضبط ما يريده ترامب، الذي يحاول “إدارة العالم” بعقلية التاجر الرأسمالي الذي يملك أكبر ترسانة عسكرية، ومن خلفه إيلون ماسك الذي يحاول السيطرة على كل شيء، حرفياً.

15.02.2025
زمن القراءة: 9 minutes

اشترك بنشرتنا البريدية