حين عاد زوجي المصري من سوق الشجاعية بمدينة غزة، قال لي: “اتعلمت النهاردة كلمة جديدة”. فسألته عنها، ليرد – ولا يزال الاستغراب على وجهه –: “مبيوعة. كنت بسأل صاحب بسطة عن حاجة عاوز أشتريها، فقالي: مبيوعة”. ضحكت وقلت له: “معقول أول مرة تسمعها؟” فأكّد، هازًّا رأسه بالموافقة: “كلمة عجيبة”.
كان هذا الاكتشاف قبل حرب 2014 بأشهر قليلة، وقبل طلاقنا بأشهرٍ أقل، حيث كنا نقيم في مدينة غزة.
عادت إلى ذهني هذه الذكرى حين رأيت عددًا من الرسائل والمنشورات لأصدقاء وصديقات من سكان القطاع، يذكرون فيها أن غزة “مبيوعة” بعدما احتُلت في غالبيتها ودُمِّرت.
وكأن قطاع غزة قد بيع مسبقًا، هكذا يتراءى الأمر لكثر من المظلومين الضعفاء هناك، بينما يقول كثرٌ من المحللين السياسيين إنّ حماس لم تستعد أو تتوقع أن يصل ردّ فعل إسرائيل إلى هذه الدرجة من الوحشية، بل وصل الانتقام إلى دولٍ مجاورة.
لكن متى استعدّت حماس لأي حربٍ مسبقًا حتى لو أرادت ذلك؟ فهي لم تكتسب الخبرة طوال خمس حروبٍ في تسعة عشر عامًا، ولم تتعلم الدروس. مثلًا، لم تبنِ ملجأً واحدًا لحماية المدنيين في قطاع غزة، ولم تضع خطة إنقاذ تُرشد من خلالها المتخبطين من النازحين والمحاصرين طوال عامين، أولئك الذين يركضون للنجاة بين الجنوب والشمال من دون أكلٍ أو شربٍ أو تعليم. لقد انتهت الحياة في غزة إلى الأبد، وأصبحت ساحةً لركض الفريسة ذهابًا وإيابًا، فيما الصيّاد متمكنٌ منها مهما اختبأت، فهو يملك السماء والبحر والأرض.
الجميع في ذهول: كيف لحركة حماس أن تقف مكتوفة الأيدي أمام دمار قطاع غزة ومقتلة أهله؟ والآن وصل الاحتراق إلى أحد أجمل سواحل البحر المتوسط، شاطئ مدينة غزة الذي يحمل ذكريات طفولتنا وشبابنا، التي لم يبقَ من أماكنها شيء. لم أقرأ من قبل عن بلاد أُبيدت كلها؛ ذاكرتك وأمانك، الوطن الذي كنت تُمنّي نفسك بأنك ستعود إليه يومًا ما.
وعد بنيامين نتانياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلي، عقب السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، أنه سيعيد غزة إلى القرون الوسطى، وبالفعل كان ما قال. عاد الناس الآن يبحثون عن الطرق البدائية لقضاء الحاجة وإشعال النار وصنع الطعام، وحماية أنفسهم من الشمس في الصيف والبرد القارس في الشتاء، إذ ينام أكثر من مليون ونصف المليون إنسان في العراء. أما وعود قادتنا فلم يتحقق منها شيء، ولم يبقَ حتى من أطلق تلك الوعود على قيد الحياة. قامت حماس بأكبر خطوة تدميرٍ ذاتي مع ما حولها، وبقي على الأرض اللصوص والمحتكرون وكُتّاب البيانات النارية، ومات الفدائيون.
سيقول لي أحدهم: “لكن ماذا كان يمكن أن يفعلوا؟” كان يمكن أن يُوقفوا الحرب منذ البداية، وكان يجب أن يعترفوا أنّ هناك خللًا وفوضى حدثت خلال عملية السابع من أكتوبر منذ الأيام الأولى التي تلت العملية، وأنهم لم يتعمّدوا استهداف المدنيين، لا بعد ذلك بشهورٍ في بيانٍ متأخر نشرته حركة حماس في شباط/ فبراير 2024، سُمّي بـ”وثيقة طوفان الأقصى”.
كان يمكن، في كلّ مرة اقتربت فيها الصفقة، أن يخفّفوا العناد ويقلّلوا الغرور والتصريحات التي لا تحمل سوى أوهام النصر الورقية. ربما في تلك اللحظة كانوا سينقذون الشهداء والجرحى، وقادتهم العسكريين والسياسيين الذين اغتالهم العدو على مدار عامين بشكلٍ ممنهج ومدروس.
ماذا تتوقعون من دولةٍ مجرمة خارجةٍ عن القانون كإسرائيل، تقتل أهلنا بأحدث الأسلحة وأعتاها؟ أنْ تترجّاهم كي يوقّعوا الصفقة وينفّذوا طلباتكم؟ ألا يوجد في العالم ميزان قوى سمعتم به؟ كيف تتركون أهل بيتكم ضحايا لذاك الوحش؟
كيف يمكن أن نطلب من مجرمٍ مجنونٍ يرتكب جرائم الحرب كلَّ دقيقة أن يُخفّف من قتلنا، في حين يمكن أن نطلب ممّن يشبهنا ذلك؟ بل نعاتبه، ننتقده، نشتمه؛ لماذا تركتم أهلكم الضعفاء بمواجهة آلة القتل وحدهم؟
إقرأوا أيضاً:
هل لأنكم آخرويون؟ تبتغون الآخرة لأنفسكم؟ لطالما أعلنتموها منذ تأسيس الحركة: “أسمى أمانينا الموت في سبيل الله”.
لكن ماذا عن البقية؟ ماذا عن تقرير مصير مليوني إنسان وإنسانة لا ينتمون الى النهج ذاته؟ بل إنّهم يحبون الحياة.
تبغون الآخرة ومتّسقون مع أيديولوجيتكم، نعم، لكن ماذا عمّن يؤيدكم ولا يؤمن أساسًا بالآخرة؟ هل لأنهم عدميون بطريقتهم أيضًا ولا يرون دمنا فضيحة؟
لماذا تركتمونا وحدنا؟ هذا السؤال لا يُوجّه إلى العرب والمسلمين، بل إلى أبناء وطننا قبلهم.
ولا أحد يسمع: لا رئيس السلطة الفلسطينية يسمع، ولا قادة الفصائل الإسلامية واليسارية الفلسطينية يسمعون.
بل دأبت حماس على الإخلاص لسماع جماهيرها الإخوانية واليسارية في العالم، أكثر من سماعها لأهلها في غزة الذين اختاروها في انتخاباتٍ ديموقراطية عام 2006. فلماذا لم ترد لهم الجميل يومًا؟ بل أثخنتهم بجراح الانقسام والحروب والفقر.
فجأةً أمطرت كثيرًا وأنا أكتب. كنت أحاول أن أبعد الأغراض من شرفتي. عادةً ما يحدث أن تمطر في أيلول/ سبتمبر في تولوز الفرنسية.
من باب الشرفة إلى خارجها تبدو الأمور هادئة ومسالمة، لا يحدث الكثير، لكن ما إن تجتاز الشرفة إلى داخل المنزل، تسمع رنين الحرب، صراخ الأطفال، صوت المجاعة، ورعب القصف. إنها غزّتي الصغيرة، التلفاز الذي يأخذني إلى هناك.
مذيع الأخبار يعلن أنّ الجيش الإسرائيلي يحتل أكثر من نصف مدينة غزة. أفتح الهاتف وأشاهد مقاطع فيديو لجرائم حربٍ جديدة من أحياء غزة العتيقة: الصبرة والزيتون، وقد انتقلت الآن إلى الشيخ رضوان وتل الهوى والشاطئ؛ قصفٌ عشوائي، وعائلات تُقتل بالكامل إلى الأبد، لن يشهدوا معنا أبدًا فرحة انتهاء الحرب، لن يأكلوا الكنافة التي اشتاقوا إليها، أو العنب الذي يشتهونه.
أرى غزة أمامي في منزل الغربة، إنها تمرّ بذاكرتي وكأنني على وشك الموت، أو هي على وشك الموت.
أولًا ذراعها صعدت، ثم ساقها، ساقها الأخرى، رأسها، صدرها، لكن قلبها لا يزال عندي.
أتأمل جدراني الباردة، وأرى على بياضها حي الرمال وأشجار الكينيا العريقة على طول شارعه.
أجلس على الكنبة وكأني أجلس على الحجارة أمام مكتبة النور التابعة للكنيسة الأرثوذكسية ومبناها القديم في الجندي المجهول، وقطرات المطر على النباتات والأشجار حولها.
أذهب إلى المطبخ وأنا أرى بخار القهوة بالهيل الساخن يتصاعد من يدي، واقفةً على مفترق شارع الوحدة.
أنظر إلى سقف غرفتي، فأرى سماء غزة في الصيف قبالة الميناء، ويلتقي الأزرقان: السماء والبحر على امتداد البصر.
تخلّينا عن غزة والبحر والمطر وكل جمالها، وعن أنفسنا أيضًا، قبل أن يتخلى عنا العالم – كما ندّعي –. لقد تنصّلنا من مسؤوليتنا، وتركنا غزة للقتل، ونحن الذين من المفترض أننا خبرنا وحشية العدو الذي قتل منا في حروبٍ سابقة أكثر من أربعة آلاف ضحية. فكيف تركنا له غزة هكذا عارية أمام الانتقام، ثم صدّقنا أننا نعيش بطولةً تشبه مدينة ستالينغراد؟
ماذا كان يمكن أن يفعل العالم أكثر مما فعل؟ خرج بالملايين إلى الشوارع، ناموا في المحطات والشوارع والجامعات، اعتصم المتضامنون في كل مكانٍ، حتى فوق ساعة بيغ بن في لندن، ثم حرّكوا أخيرًا القوارب إلى بحر غزة. فعلوا كل ما يجب فعله، لكن هل فعل قادتنا ما عليهم؟
أخلصوا لحلفائهم خارج مدينتنا أكثر مما فعلوا لأهلهم، مدّوا فروعهم خارج غزة كما كانت دومًا جذورهم. لذلك، نعم، “مبيوعة” منذ عقودٍ، وليس منذ أنْ اكتشف زوجي السابق هذه “الكلمة العجيبة”.
إقرأوا أيضاً:











