fbpx
ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

غزة ونهاية الكابوس… هل نفرح؟

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

يا أهل غزة الجبارين العظماء… أدفنوا موتاكم وانتشروا في أرضكم، إفرحوا، لأنكم أنتم المنتصرون، طالما لم تقدر الحرب على إفنائكم… أدفنوا موتاكم وأكملوا حياتكم، لا تنتظروا إجابات لتفسير ما حصل، لا تلوموا ولا تعاتبوا، أديروا ظهوركم لهذا العالم الحقير، لا تسألوا عن الضمير الإنساني، أنتم تعرفون أنه مات ودُفن في أرض مجهولة…    

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

غزة بانتظار وقف إطلاق النار… ستكون نهاية الكابوس.

الآذان والأعين والحواس والجوارح ترنو إلى القاهرة، بانتظار لحظة إعلان القرار.

هل نفرح؟

الغزيون بدأوا بالاحتفال، سيستأنفون حياتهم من حيث أوقفها الوحش، سيعودون إلى منازلهم حتى المدمرة منها، سيلتقي الأهل والأقارب والأحباب، بعد فراق طويل، وموت كثير، سيعانقون بعضهم بعضاً، بالأذرع المبتورة، بالأعين المطفأة، بالقلوب المكسورة وبالأجساد المنهكة، سيتعانقون كثيراً وطويلاً وشديداً، كما لو أن العناق هو التعبير الوحيد عن النجاة، عن الحياة…

هل نفرح؟

الغزيون بدأوا بالإعداد لتشييع الجنازات، لإحصاء الضحايا، للبحث عن مفقودي الأثر، لجمع الأطراف المبتورة… هل من مقبرة تسع كل هذه الأجساد والأرجل والأصابع والراحات؟ هل توجد مقبرة في العالم تستقبل هذا العدد من الجثامين في وقت واحد؟ هل بإمكان القلوب أن تدفن هذا الأسى كله وتهيل عليه تراب النسيان إلى الأبد؟ 

هل نفرح؟

الغزيون بدأوا بالتعرف على ملامح مدنهم وبلداتهم وشوارعهم… اختفت الملامح، غابت التفاصيل، غزة من شمالها إلى جنوبها عبارة عن وجه ممسوح… يا الله كيف يمكن أن يتآلف المرء مع هذا الكم من الخراب؟

هل نفرح؟

الغزيون سيبقون في العراء، سينصبون الخيام فوق الركام…

يا الله كل من نجا منهم، هو هدية سماوية، معجزة تستحق السجود… 

يا الله من بقي منهم حياً ولد مرة ثانية، محتقراً الموت، متحدياً آلات الحضارة وفنونها في اختراع أساليب القتل والتدمير.

من بقي حياً منهم، سيكون أكثر كفاءة وجدارة من كل المواثيق والمعاهدات والاتفاقيات… في صنع الإنسانية وحمايتها.

كل من بقي حياً منهم، هو درس لوحش الحرب، أن الأرواح أكثر صلابة من الصخور، وأن الأجساد لا يمكن اقتلاعها، حتى لو استعملت أثقل ما تملك من علب البارود وأدوات الإبادة…

هل نفرح؟

الغزيون الآن يصلّون، إنهم منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر يصلّون، طالت الصلاة وطال وصولها… الغزيون الآن يبكون، منذ السابع من تشرين الأول يبكون، لكن بكاءهم لم يصل إلى مسامع أحد، سدت الدنيا آذانها. خمسة عشر شهراً من البكاء حتى جف الدمع وجف الدم، وما من أحد مسح دموعهم أو ربت على قلوبهم ليهدأ روعها… 

هل نفرح؟ 

الفرح ليس ممنوعاً، ليس محرماً، لكنه فرح مشوب بالأسى… فرح خرج من رحم القهر، وليس من رحم السعادة، فرح بلا رحمة، لأنه أتى من القسوة، فرح ليس له طعم سوى المرارة… هذا الفرح ليس احتفاء بالحياة، أي معنى للحياة وسط هذا الموت كله؟ هذا الفرح ليس احتفاء بالنجاة، لم ينجُ أحد حتى من بقي على قيد الحياة… هذا الفرح هو فرح فقط، بلا طعم ولا هدف ولا حتى معنى…

هل نفرح؟ 

سألت فداء (فداء زياد كاتبة من غزة) فأجابتني: “أتعرفين منذ بداية هذا الشهر، وفي بالي سياق أغنية فيروز “نسيوا بعضن وارتاحوا”، وفي الوقت نفسه، حالة أم كلثوم في “يا خوف فؤادي من غدِ”، ومنذ بداية الحرب والسؤال المطروح هو “كل دا كان ليه؟”… فعلاً “كل دا كان ليه”، من فعل هذا؟ من أجل أي إله؟ وهل من الممكن أن يُعاد مرة أخرى؟من يضمن إعادته من عدمها؟ طالما نحن لسنا أكثر من بيادق شطرنج تحركنا “أصابع الجريمة” يميناً ويساراً، صعوداً وهبوطاً!

هل نفرح؟

أنا شخصياً، لم أعد أملك مساحة للفرح في داخلي، كل المساحات التي أعددتها للفرح في سابق أيامي احتلها الحزن، واستوطنها اليأس… 

كانت غزة آخر المحتلين، كبلتني غزة بأصفاد من الشعور بالذنب، من الإحساس بالعدمية، حبستني داخل زنزانة من العجز، لا أقوى فيها على شيء، لا على الحياة لأعيش ولا على الموت لأرتاح.

كان صوت هند رجب الطفلة التي حاصرتها الدبابة واستنجدت بمسعفة الهلال الأحمر، ثم سمعنا الرصاصة التي قتلتها، آخر المستوطنين، وجه الحاج خالد نبهان جد ريم “روح الروح” أيضاً، نرمين شعث التي وضعوا جنينها وقدمها المبتورة في صندوق واحد ودفنوهما قرب الزوج والأولاد، صور يامن وكنان وأوركيدا وكرمل أطفال آلاء القطرواي الأربعة، رسائل أسماء لولديها عبود وآية، وجوه وأسماء وخيالات وقصص لا تكفيها مئات الأعوام، لنطفئ نار وجعنا، لنروي عنها طالما الدمع روى…

يا أهل غزة الجبارين العظماء… أدفنوا موتاكم وانتشروا في أرضكم، إفرحوا، لأنكم أنتم المنتصرون، طالما لم تقدر الحرب على إفنائكم… أدفنوا موتاكم وأكملوا حياتكم، لا تنتظروا إجابات لتفسير ما حصل، لا تلوموا ولا تعاتبوا، أديروا ظهوركم لهذا العالم الحقير، لا تسألوا عن الضمير الإنساني، أنتم تعرفون أنه مات ودُفن في أرض مجهولة…    

16.01.2025
زمن القراءة: 3 minutes

يا أهل غزة الجبارين العظماء… أدفنوا موتاكم وانتشروا في أرضكم، إفرحوا، لأنكم أنتم المنتصرون، طالما لم تقدر الحرب على إفنائكم… أدفنوا موتاكم وأكملوا حياتكم، لا تنتظروا إجابات لتفسير ما حصل، لا تلوموا ولا تعاتبوا، أديروا ظهوركم لهذا العالم الحقير، لا تسألوا عن الضمير الإنساني، أنتم تعرفون أنه مات ودُفن في أرض مجهولة…    

غزة بانتظار وقف إطلاق النار… ستكون نهاية الكابوس.

الآذان والأعين والحواس والجوارح ترنو إلى القاهرة، بانتظار لحظة إعلان القرار.

هل نفرح؟

الغزيون بدأوا بالاحتفال، سيستأنفون حياتهم من حيث أوقفها الوحش، سيعودون إلى منازلهم حتى المدمرة منها، سيلتقي الأهل والأقارب والأحباب، بعد فراق طويل، وموت كثير، سيعانقون بعضهم بعضاً، بالأذرع المبتورة، بالأعين المطفأة، بالقلوب المكسورة وبالأجساد المنهكة، سيتعانقون كثيراً وطويلاً وشديداً، كما لو أن العناق هو التعبير الوحيد عن النجاة، عن الحياة…

هل نفرح؟

الغزيون بدأوا بالإعداد لتشييع الجنازات، لإحصاء الضحايا، للبحث عن مفقودي الأثر، لجمع الأطراف المبتورة… هل من مقبرة تسع كل هذه الأجساد والأرجل والأصابع والراحات؟ هل توجد مقبرة في العالم تستقبل هذا العدد من الجثامين في وقت واحد؟ هل بإمكان القلوب أن تدفن هذا الأسى كله وتهيل عليه تراب النسيان إلى الأبد؟ 

هل نفرح؟

الغزيون بدأوا بالتعرف على ملامح مدنهم وبلداتهم وشوارعهم… اختفت الملامح، غابت التفاصيل، غزة من شمالها إلى جنوبها عبارة عن وجه ممسوح… يا الله كيف يمكن أن يتآلف المرء مع هذا الكم من الخراب؟

هل نفرح؟

الغزيون سيبقون في العراء، سينصبون الخيام فوق الركام…

يا الله كل من نجا منهم، هو هدية سماوية، معجزة تستحق السجود… 

يا الله من بقي منهم حياً ولد مرة ثانية، محتقراً الموت، متحدياً آلات الحضارة وفنونها في اختراع أساليب القتل والتدمير.

من بقي حياً منهم، سيكون أكثر كفاءة وجدارة من كل المواثيق والمعاهدات والاتفاقيات… في صنع الإنسانية وحمايتها.

كل من بقي حياً منهم، هو درس لوحش الحرب، أن الأرواح أكثر صلابة من الصخور، وأن الأجساد لا يمكن اقتلاعها، حتى لو استعملت أثقل ما تملك من علب البارود وأدوات الإبادة…

هل نفرح؟

الغزيون الآن يصلّون، إنهم منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر يصلّون، طالت الصلاة وطال وصولها… الغزيون الآن يبكون، منذ السابع من تشرين الأول يبكون، لكن بكاءهم لم يصل إلى مسامع أحد، سدت الدنيا آذانها. خمسة عشر شهراً من البكاء حتى جف الدمع وجف الدم، وما من أحد مسح دموعهم أو ربت على قلوبهم ليهدأ روعها… 

هل نفرح؟ 

الفرح ليس ممنوعاً، ليس محرماً، لكنه فرح مشوب بالأسى… فرح خرج من رحم القهر، وليس من رحم السعادة، فرح بلا رحمة، لأنه أتى من القسوة، فرح ليس له طعم سوى المرارة… هذا الفرح ليس احتفاء بالحياة، أي معنى للحياة وسط هذا الموت كله؟ هذا الفرح ليس احتفاء بالنجاة، لم ينجُ أحد حتى من بقي على قيد الحياة… هذا الفرح هو فرح فقط، بلا طعم ولا هدف ولا حتى معنى…

هل نفرح؟ 

سألت فداء (فداء زياد كاتبة من غزة) فأجابتني: “أتعرفين منذ بداية هذا الشهر، وفي بالي سياق أغنية فيروز “نسيوا بعضن وارتاحوا”، وفي الوقت نفسه، حالة أم كلثوم في “يا خوف فؤادي من غدِ”، ومنذ بداية الحرب والسؤال المطروح هو “كل دا كان ليه؟”… فعلاً “كل دا كان ليه”، من فعل هذا؟ من أجل أي إله؟ وهل من الممكن أن يُعاد مرة أخرى؟من يضمن إعادته من عدمها؟ طالما نحن لسنا أكثر من بيادق شطرنج تحركنا “أصابع الجريمة” يميناً ويساراً، صعوداً وهبوطاً!

هل نفرح؟

أنا شخصياً، لم أعد أملك مساحة للفرح في داخلي، كل المساحات التي أعددتها للفرح في سابق أيامي احتلها الحزن، واستوطنها اليأس… 

كانت غزة آخر المحتلين، كبلتني غزة بأصفاد من الشعور بالذنب، من الإحساس بالعدمية، حبستني داخل زنزانة من العجز، لا أقوى فيها على شيء، لا على الحياة لأعيش ولا على الموت لأرتاح.

كان صوت هند رجب الطفلة التي حاصرتها الدبابة واستنجدت بمسعفة الهلال الأحمر، ثم سمعنا الرصاصة التي قتلتها، آخر المستوطنين، وجه الحاج خالد نبهان جد ريم “روح الروح” أيضاً، نرمين شعث التي وضعوا جنينها وقدمها المبتورة في صندوق واحد ودفنوهما قرب الزوج والأولاد، صور يامن وكنان وأوركيدا وكرمل أطفال آلاء القطرواي الأربعة، رسائل أسماء لولديها عبود وآية، وجوه وأسماء وخيالات وقصص لا تكفيها مئات الأعوام، لنطفئ نار وجعنا، لنروي عنها طالما الدمع روى…

يا أهل غزة الجبارين العظماء… أدفنوا موتاكم وانتشروا في أرضكم، إفرحوا، لأنكم أنتم المنتصرون، طالما لم تقدر الحرب على إفنائكم… أدفنوا موتاكم وأكملوا حياتكم، لا تنتظروا إجابات لتفسير ما حصل، لا تلوموا ولا تعاتبوا، أديروا ظهوركم لهذا العالم الحقير، لا تسألوا عن الضمير الإنساني، أنتم تعرفون أنه مات ودُفن في أرض مجهولة…