ليست الديموقراطية في أحسن حالاتها في الغرب.
صعود اليمين الشعبوي بموازاة سوء الأوضاع الاقتصادية، وتجربة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب السلبية مع المؤسسات في أميركا، والأسئلة التي طرحتها إجراءات “كورونا”، كلها مؤشرات، إلى مشكلة تتبلور أكثر وأكثر داخل الدول الغربية. لكن انعكاس هذه المشكلة يتبدى بشكل آخر على عدد من المثقفين والمحللين العرب، إذ إن هؤلاء لا يبنون مقاربتهم على أسباب ضعف الديموقراطية، قياساً بشرط الداخل الغربي فقط، وإنما بتعامل الحكومات الغربية مع الشرق الأوسط، و”تهاونها” مع المستبدين فيه، وقبولها التعامل معهم. فتكمل بالنتيجة، صورة تسفيه الديموقراطية، وعزلها عن أي صراع أو صدام، فالغرب يعاني في ديموقراطيته، ويتجاهل معاناتنا مع “مستبدينا”، ويضع يده بيدهم.
وعليه، الديموقراطية بلا معنى، وجميع القوى متشابهة والمصالح هي الأساس. هذا التحليل برز بشكل لافت، عند مقاربة الغزو الروسي البوتيني لأوكرانيا، وتحكّم بالكثير من المواقف، التي تسابق أصحابها للحديث عن الغاز ومخاوف موسكو من انضمام كييف إلى حلف الناتو، والتاريخ المشترك بين البلدين وتداخل التراكيب السكانية، في تغييب متعمد لطبيعة النظام الغازي وطبيعة الدولة التي تتعرض للغزو، واقتراب كل منهما من تطبيق الديموقراطية، وابتعاده منها.
أصحاب هذا التحليل، يتجاهلون أن الديموقراطية في الغرب ليست قيمة مجردة أو معزولة، بل هي مرتبطة بالشرط السياسي والاقتصادي، فصعود اليمين وتراجع الاقتصاد، قد يضعفانها، وتقدم الوسطيين والليبراليين، وازدهار الاقتصاد يجعلانها أقوى. ويتجاهلون أيضاً أن الديموقراطية لا تحل المشكلات بقدر ما تسمح بتظهيرها وإدارتها ضمن تسويات ومن دون عنف. في أذهان هؤلاء، الديموقراطية، ليست ديناميكيات تتأثر ببنى، هي تجريد شعاراتي، يشبه ذلك الذي درج مع بداية الربيع العربي، حين راحت النخب تتحدث عن ضرورة الديموقراطية، من دون ربطها بأوضاع الجماعات وحساسياتها.
مسألة الهوية التي يبيعها الرئيس الروسي لشعبه، لا يمكن مقاربتها بمعزل عن الديمقراطية، إذ يستخدمها بوتين ضمن عدته، ولا تتطور بشكل طبيعي مثلما يمكن أن يحدث في أوكرانيا .
الفهم الثابت، للديموقراطية، يمكن أن يساعد، على فهم النقد الذي نوجهه للغرب في التعامل مع النظم الديكتاتورية في منطقتنا، فهو يوازن بين مصالحه وقيمه، وتتفاوت مواقفه تبعاً لهوية من يحكم وظروفه، إلى عوامل أخرى. هذا، ليس لتبرير مواقف مدانة، بطبيعة الحال، طالما أنها، تتهاون مع المستبدين، لكنها محاولة لربط هذه المواقف مع ديناميكيات الداخل الغربي وتفاعلاته، والتي، تؤثر أيضاً في الديموقراطية، قوة وضعفاً. وبالنتيجة، تغييب مسألة الديموقراطية انطلاقاً من ضعف هذه القيمة في الغرب، مبني على فهم مغلوط، واستنتاجات متسرعة، تفصل الديموقراطية عن الشرطين السياسي والاقتصادي، وتحيل الغرب إلى مبشر دائم بها.
لكن حتى ثنائية ديمقراطية – دكتاتورية، تحتاج لتطوير لمقاربة مجدية للغزو الروسي لأوكرانيا. فالأخيرة، ليست دولة ناجزة ديمقراطياً، مسارها الفعلي بهذا الشأن بدأ عام 2014، في الوقت نفسه روسيا البوتينية ليست دكتاتورية كلاسيكية، هي دكتاتورية توسعية معطوفة على نزوع إمبراطوري متخيل، تستخدم مرتزقة هنا وهناك، وتشن هجمات الكترونية وتتدخل في مصائر الانتخابات في عدة دول.
دكتاتورية بوتين تجنح نحو التوتاليتارية دون أن تكونها بالضرورة. شبه توتاليتارية تستفيد من التكنولوجيا ومواقع التواصل للتضليل والتأثير على الرأي العام الغربي، وكذلك من أسواق المال عبر زرع شركات في بورصات الغرب تخدم مصالح الكرملين. نظام بوتين يتغذى من عناصر حديثة، دون أن يتخلى أن عناصر توتاليتارية كلاسيكية تتعلق بقضم بلدان مجاورة. من هنا، فإن غزو بوتين لأوكرانيا مرتبط بطبيعة نظامه، أكثر مما هو مرتبط بالتحليلات الإستراتيجية التي انتشرت بكثافة في الصحف، خلال الأيام الماضية.
إقرأوا أيضاً:
الأرجح أن المسألة معكوسة، بمعنى، أن التحليل الاستراتيجي بكل عناصره، يمكن أن يدرج ضمن أجندة بوتين شبه التوتاليتارية، الغاز والثروات لتمويل مشاريع التوسع، والتناقضات والاختلافات المتعلقة بالسكان، ذرائع للتدخل، والخوف من “الناتو”، عائق أمام المشروع الإمبراطوري. وكل ذلك، لحرف الانتباه عن مشاكل الداخل وإقناع الروس بأوهام تاريخية، على حساب حريتهم وازدهارهم الاقتصادي، تمهيداً لفضلهم عن واقعهم الموضوعي وخلق واقع مواز مبني على صناعة الكذب البوتينية.
مسألة الهوية التي يبيعها الرئيس الروسي لشعبه، لا يمكن مقاربتها بمعزل عن الديمقراطية، إذ يستخدمها بوتين ضمن عدته، ولا تتطور بشكل طبيعي مثلما يمكن أن يحدث في أوكرانيا التي يتحسر الممانعين العرب على وجود قوميين فيها، هؤلاء القوميون يمكن أن تستوعبهم الديمقراطية الوليدة ومؤسساتها وتخفف تطرفهم، عكس الهوية في روسيا التي يتحكم فيها طموح بوتين السلطوي.
أسبقية عنصر الديمقراطية على التحليلات الاستراتيجية، تكشفت بوضوح أكثر، مع متابعة مقاومة الأوكرانيين لغزو بلادهم، إذ دافع أهالي كييف ومدن أخرى عن أنفسهم ضد التحليلات التي تسعى لتغييبهم، دافعوا عن حقهم بالأوربة وبتجربة الديمقراطية الوليدة التي حاول كثر تسخيفها.
في المقابل. تبدت التحليلات الاستراتيجية ، أقل معنى، خصوصا وأن بوتين، كشف عن نزوع غير عقلاني بعد تهديده بالنووي، وهذا سلوك لا يستقيم مع صانع استراتيجيات وخطط تتعلق بالثروات والتراكيب السكانية، بقدر ما ينطبق على دكتاتور يطمح لأن يكون توتاليتاريا، فيما الروس ضحاياه الأكثر تضرراً.
إقرأوا أيضاً: