fbpx
ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

غزّة: فصول الدهشة ومحاولات النجاة

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

غالبا ما تتصدّى فداء لمحاولات تصوير أهل غزّة بالأبطال الخارقين، الذين لا يهزمهم الموت، فتقدّمهم بصورهم الإنسانية الحقيقية، خائفين، متعبين، يائسين، معترضين على شروط هذه الحرب وظروفها، كما تتجنّب استخدام مفردات مثل البطولة والعزّة والمقاومة والانتصار، ضمن سياق سياسي وأيديولوجي، وفي يوم من أيّام الحرب كتبت تخاطب زعيماً سياسياً، على ما يبدو: “زي ما إنتَ شايف الحكي عن أحزاننا انهزام، احنا شايفين حكيك عن الصمود قلة حيا!”.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

إلى فداء زياد 


منذ ستين يوماً، توثّق فداء زياد وهي كاتبة فلسطينية، يوميّات الحرب على غزّة. تكتب على صفحتها في “فيسبوك”، مقاطع عن الموت والدم والدمار والرعب ومآسي النزوح وشوق العودة إلى الحياة العادية، عن الحرب التي محت كل شيء، البيوت والشوارع والذكريات، ووجوه الناس وأسماءهم وأحلامهم البسيطة وحكاياتهم. 

تروي لنا تفاصيل مدهشة عن غزّة، التي لا نعرف عنها سوى القليل، والتي نتذكّر وجودها وقت الحرب، وتضمّنها ذكرياتها عن البيت الذي كانت تسكنه قبل النزوح، والطريق المؤدّية إليه، وبحر غزّة الذي يلوح من شباكه، والدرج الذي اعتادت أن تكنسه بعد كل حرب، عن بيوت الحي التي تعجّ بالحب والصخب والحياة، وتختم كل ذلك بعبارة: غزّة، فصول الدهشة ومحاولات النجاة.

أتابع فداء منذ بدء العدوان، وينشغل بالي كلما تأخّرت في الظهور، فأراسلها بخجل، لأطمئن عليها، ومن خلال ما تكتبه عرفت أنها تعتني بثلاثة أطفال، من بينهم طفلة تتمنّى لو تملك قوقعة سلحفاة لتخبئ تحتها الناس، وأنها نزحت من الشمال إلى مكان أكثر أمانا، وأن غارة دمّرت بيتها في 13 تشرين/أكتوبر، وغارة أخرى هدّت الحائط الذي علّق عليه ياسر ابن شقيقها لوحاته، وغارة ثالثة مسحت الزاوية الدافئة التي نسّقتها مع ابنتي شقيقها ليليان وإيلين لاستقبال الخريف، وهنّ يغنين “في أمل إيه في أمل”.

فقدت فداء في هذه الحرب بيتها ومدينتها، وكل ما كان يشكّل حياة لها، وخسرت أقارب وأصدقاء وصديقات وجيران، عسى ألا تفقد الأمل.

من يومين وضعت فداء صورة لشابين هما محمد وعوض، وقالت إنهما توأما صديقتها هنادي، التي انتظرت قدومهما عشر سنوات. قضت هنادي مع زوجها ابراهيم وابنها عوض وخمسين شخصاً من أسرتها في إحدى مجازر مخيم جباليا، ظلّت جثّتها مجهولة الهويّة عشرة أيام، إلى أن تعرّف إليها الرجل الذي يكفّن الجثث في المستشفى الاندونيسي، من سلسلة في عنقها، لم ينجُ من المجزرة سوى ابنها محمد، الذي يرقد الآن في المستشفى الأوروبي جنوب غزّة، جريحاً محروق الوجه والجسد ووحيداً ويتيماً. 

تتناول فداء في ما تكتبه، كل ما يحيط بها من أحداث، وما ينتابها من انفعالات، تنقلها بنفَس كاتبة وعين صحافية، تنقل المشاعر بأمانة وصدق، والأخبار بشفافية ومصداقية، فتأتي على شكل مقاطع وجدانية أو مادة توثيقية وبلغة جذّابة ومؤثّرة.

بعد مرور شهر على العدوان، نقلت فداء، بكل جرأة وموضوعية، وبلا تلميع ولا تجميل للواقع بمفردات الصمود والعنفوان والنصر، صورة حقيقية عن الكارثة الإنسانية التي حلّت بغزّة وأهلها الأحياء منهم والأموات، منتقدة من ينقل صورة معاكسة، فكتبت: 

“المحظوظ بغزة من يجد كسرة خبز، رشة طحين، رشفة ماء، ماء للحمام، مكاناً لشحن البطاريات والجوالات، شبكة إنترنت صالحة ومتواصلة للاتصال، اتصال بالهاتف ويرد الرقم المتصل، خيطاً ببنج لتقطيب الجرح، سريراً بالمستشفى، مكاناً للنوم، مكاناً للفراش، مكاناً لإيواء النساء والأطفال، احتياجات النساء الشخصية ومستلزماتهن الصحية، أدوية وعلاجاً ومسكنات. 

الأكثر حظاً من يجد قبراً ليدفن الجثث، والأكثر من ذلك من استطاع انتشال جثث أهله وأصحابه من تحت الركام.

وهذا ما لاتوثقه الكاميرات وخطابات النصر”. 

ونشرت مرّة ما يشبه بياناً رسمياً، كتبت فيه عن انفجار حياة الغزّيين وتشظّيها، وتحوّل الحصول على الحاجات اليومية العادية، كالخبز والماء والنوم والنظافة الشخصية والعناية الطبية، إلى معارك وانتصارات وأعراس وزغاريد، بأسلوب حوى مزيجاً من السخرية اللاذعة والكوميديا السوداء والنقد السياسي المبطّن، وجاء في البيان: “باسم الله وباسم الشعب الغزي أعلن: 

صديق ابن اخوي قدر يتجاوز طوفان طابور الخبز على باب المخبز فبعد أن كان رقمه 133 اقترب الوعد وحقق النصر وصار 22. الجميع حين عرفوا حسدوه وقالوا له والله انك جدع!

أما عن زياد صديقه فقد استطاع أن يحصل على حمام ساخن بعد أربعة أيام كنا على وشك أن نزغرد له زغاريد عرس. 

وفي ملحق آخر استطاع زوج أختي الفوز بصندوق مياه معدنية بعد انقطاع السبل منذ ثلاث أيام ولولا الحرب لاستقبلته أختي وأولادها استقبال الفاتحين الغازين في روايات التاريخ. 

صديقتي أخبرتني عن انتصارها ونجاحها بتقطيب غرز في يد ابنها بعد أن وصلتها شظايا قصف وتوفر بنج لذلك. 

أما عن كاتب هذا النص فيا لحظّه لقد استطاع تجميع ساعة ونصفها للنوم على مدار ثلاثة أيام موزعة بالتساوي ووفق قواعد الصمود والتصدي نصف ساعة لكل يوم دون انقطاع”. 

وختمته “هذا لا توثقه لك الكاميرا، ولا تتمكن المذيعة من استضافة محلل في هذا الأمر لأسباب لا يعلمها أحد!”. 

غالبا ما تتصدّى فداء لمحاولات تصوير أهل غزّة بالأبطال الخارقين، الذين لا يهزمهم الموت، فتقدّمهم بصورهم الإنسانية الحقيقية، خائفين، متعبين، يائسين، معترضين على شروط هذه الحرب وظروفها، كما تتجنّب استخدام مفردات مثل البطولة والعزّة والمقاومة والانتصار، ضمن سياق سياسي وأيديولوجي، وفي يوم من أيّام الحرب كتبت تخاطب زعيماً سياسياً، على ما يبدو: “زي ما إنتَ شايف الحكي عن أحزاننا انهزام، احنا شايفين حكيك عن الصمود قلة حيا!”.

لا تحكي فداء باسمها فقط، بل باسم الفئة الصامتة، ترفع صوتها نيابة عنها، فكتبت مرّة، عقب خطاب حماسي لزعيم سياسي معروف: “أعرف أن هذا ليس موضع سخرية وقد تدهشك التفاصيل، ولكن لا أقذر من تلك السخرية سوى من يجلس في مكان ما ويقول عنا: إن شرف الأمة في رعايتنا، ولأننا في حالة حرب يخجلنا جداً أن نقول له أين يضع شرف الأمة؟! 

يعني ببساطة احنا مش عارفين وين نروح بحالنا لنقدر نرعالك شرف الأمة!”. 

وفي إحدى ليالي القصف العنيف، التي كانت المجازر تتنقّل فيها من بيت إلى بيت، انفطر قلب فداء على غزّة اليتيمة، التي تخلّى عنها أهلها وتنكّر لمأساتها العالم، فكتبت كمن تربّت على كتف فتاة صغيرة خائفة لتهدّئ من روعها وتعدها بالأمان والصباح:

“كم من موت مرق من فوقك ولسه بتطلعي وبتعاندي وبتقولي: هيني يا عمي !

مش لأنك جبارة بس لأنك صغيرة وبتحلمي بإنك عالحياة تضلك تتمختري

صغيرة ولسه بتحلمي تمشطي شعرك وتركضي

كسروا رجليكي ولسه بتحلمي

تلبسي فساتين مطرزة مش كفن

تهربي من مد الشط مش من شظية

ولك متصدقنيش صدقي إني متلك ولسه كنتِ ولا زلت بتحلمي!

صدقي إنو ولا مرة كان الصباح المشوه هاد حلمك”. 

في الحرب، يعيش النازح حياة مستعارة لا تشبهه، لذلك يشتاق إلى تفاصيل حياته السابقة، حتى تلك المملّة والمكرورة والمهملة أيضا، كتبت فداء شيئا بهذا المعنى، في مقطع تحدثت فيه عن تحوّل يومياتها العادية إلى مجموعة من الذكريات، وقالت إن رأسها أصبح مثل “صناديق الجدّات الممتلئة بالذكريات، تنقله من مكان إلى آخر وتمرّنه على التذكر”.

تتابع فداء الكلام عن ثقل الذكريات في رأسها، بعد النزوح “أفسحت فيه مكاناً لأسماء جديدة من الأشخاص وملامح بيت جديد، وصوت صباح الخير القلقة، وإذاعة أسماء البيوت التي قصفت، وشكل الشباك الخائف من الاهتزازات وملامح زجاجه المكسور، والاحتماء بكرسي قريب”، وكأنها تقصد العبارة الشهيرة “كي لا ننسى”، حين تقول: “كل يوم أطل على رأسي نكاية بالقتل”.

أحيانا، ومن واقع التجربة، يحنّ النازح حتى إلى التفاهات، ويضفي عليها قيمة معنوية نكاية بالقلق الوجودي الذي تفرضه الحرب، عن هذا التناقض كتبت فداء: “كان لدينا قلق غير هذا يا الله! غير هذا الذي لا نعرف ماهيته ولا شكل هيئته، نحن فجأة كنا في نوم واستيقظنا على حقل كبير مخيف من القلق “، في ختام هذا المقطع، توجّه فداء عتبها للسماء، التي وضعت على أكتاف شعبها هذا الحمل الثقيل علاوة على أحمال أخرى، فتسأل: “لقد أخذنا حصتنا الكافية من القلق الذي يعرفه الجميع، فلم صدقتنا حين قلنا لك نحن نستطيع أن نجرب غير ما يعرفه الجميع، لم يا الله؟”. 

المؤسف أن فداء اضطرت إلى نزوح ثانٍ، لكن هذه المرّة لم يكن بيتاً، بل مركز إيواء، لم تروِ عنه أية تفاصيل بعد، فقد يكون مدرسة من مدارس “الأونروا”، أو مقرّ منظمة دولية ما أو عنبر مستشفى، لا أعرف بالتحديد، ما عرفته أنها لم تكن وحدها، كان برفقتها مجموعة من “الصبايا الحلوات”، حوّلن بغنائهن مقطعاً من “يما مويل الهوى” مركز الإيواء، إلى منبع للأنس والسكينة.

لنغنِّ مع فداء والصبايا “ومشيت تحت الشتا/ والشتا رواني/ والصيف لما أتى/ ولع من نيراني/ بيظل عمر الفتى/ نذر للحرية”، على أمل أن تنجو غزّة المدهشة وتعود لتفاصيل الحبّ والحياة. 

إقرأوا أيضاً:

06.12.2023
زمن القراءة: 6 minutes

غالبا ما تتصدّى فداء لمحاولات تصوير أهل غزّة بالأبطال الخارقين، الذين لا يهزمهم الموت، فتقدّمهم بصورهم الإنسانية الحقيقية، خائفين، متعبين، يائسين، معترضين على شروط هذه الحرب وظروفها، كما تتجنّب استخدام مفردات مثل البطولة والعزّة والمقاومة والانتصار، ضمن سياق سياسي وأيديولوجي، وفي يوم من أيّام الحرب كتبت تخاطب زعيماً سياسياً، على ما يبدو: “زي ما إنتَ شايف الحكي عن أحزاننا انهزام، احنا شايفين حكيك عن الصمود قلة حيا!”.


إلى فداء زياد 


منذ ستين يوماً، توثّق فداء زياد وهي كاتبة فلسطينية، يوميّات الحرب على غزّة. تكتب على صفحتها في “فيسبوك”، مقاطع عن الموت والدم والدمار والرعب ومآسي النزوح وشوق العودة إلى الحياة العادية، عن الحرب التي محت كل شيء، البيوت والشوارع والذكريات، ووجوه الناس وأسماءهم وأحلامهم البسيطة وحكاياتهم. 

تروي لنا تفاصيل مدهشة عن غزّة، التي لا نعرف عنها سوى القليل، والتي نتذكّر وجودها وقت الحرب، وتضمّنها ذكرياتها عن البيت الذي كانت تسكنه قبل النزوح، والطريق المؤدّية إليه، وبحر غزّة الذي يلوح من شباكه، والدرج الذي اعتادت أن تكنسه بعد كل حرب، عن بيوت الحي التي تعجّ بالحب والصخب والحياة، وتختم كل ذلك بعبارة: غزّة، فصول الدهشة ومحاولات النجاة.

أتابع فداء منذ بدء العدوان، وينشغل بالي كلما تأخّرت في الظهور، فأراسلها بخجل، لأطمئن عليها، ومن خلال ما تكتبه عرفت أنها تعتني بثلاثة أطفال، من بينهم طفلة تتمنّى لو تملك قوقعة سلحفاة لتخبئ تحتها الناس، وأنها نزحت من الشمال إلى مكان أكثر أمانا، وأن غارة دمّرت بيتها في 13 تشرين/أكتوبر، وغارة أخرى هدّت الحائط الذي علّق عليه ياسر ابن شقيقها لوحاته، وغارة ثالثة مسحت الزاوية الدافئة التي نسّقتها مع ابنتي شقيقها ليليان وإيلين لاستقبال الخريف، وهنّ يغنين “في أمل إيه في أمل”.

فقدت فداء في هذه الحرب بيتها ومدينتها، وكل ما كان يشكّل حياة لها، وخسرت أقارب وأصدقاء وصديقات وجيران، عسى ألا تفقد الأمل.

من يومين وضعت فداء صورة لشابين هما محمد وعوض، وقالت إنهما توأما صديقتها هنادي، التي انتظرت قدومهما عشر سنوات. قضت هنادي مع زوجها ابراهيم وابنها عوض وخمسين شخصاً من أسرتها في إحدى مجازر مخيم جباليا، ظلّت جثّتها مجهولة الهويّة عشرة أيام، إلى أن تعرّف إليها الرجل الذي يكفّن الجثث في المستشفى الاندونيسي، من سلسلة في عنقها، لم ينجُ من المجزرة سوى ابنها محمد، الذي يرقد الآن في المستشفى الأوروبي جنوب غزّة، جريحاً محروق الوجه والجسد ووحيداً ويتيماً. 

تتناول فداء في ما تكتبه، كل ما يحيط بها من أحداث، وما ينتابها من انفعالات، تنقلها بنفَس كاتبة وعين صحافية، تنقل المشاعر بأمانة وصدق، والأخبار بشفافية ومصداقية، فتأتي على شكل مقاطع وجدانية أو مادة توثيقية وبلغة جذّابة ومؤثّرة.

بعد مرور شهر على العدوان، نقلت فداء، بكل جرأة وموضوعية، وبلا تلميع ولا تجميل للواقع بمفردات الصمود والعنفوان والنصر، صورة حقيقية عن الكارثة الإنسانية التي حلّت بغزّة وأهلها الأحياء منهم والأموات، منتقدة من ينقل صورة معاكسة، فكتبت: 

“المحظوظ بغزة من يجد كسرة خبز، رشة طحين، رشفة ماء، ماء للحمام، مكاناً لشحن البطاريات والجوالات، شبكة إنترنت صالحة ومتواصلة للاتصال، اتصال بالهاتف ويرد الرقم المتصل، خيطاً ببنج لتقطيب الجرح، سريراً بالمستشفى، مكاناً للنوم، مكاناً للفراش، مكاناً لإيواء النساء والأطفال، احتياجات النساء الشخصية ومستلزماتهن الصحية، أدوية وعلاجاً ومسكنات. 

الأكثر حظاً من يجد قبراً ليدفن الجثث، والأكثر من ذلك من استطاع انتشال جثث أهله وأصحابه من تحت الركام.

وهذا ما لاتوثقه الكاميرات وخطابات النصر”. 

ونشرت مرّة ما يشبه بياناً رسمياً، كتبت فيه عن انفجار حياة الغزّيين وتشظّيها، وتحوّل الحصول على الحاجات اليومية العادية، كالخبز والماء والنوم والنظافة الشخصية والعناية الطبية، إلى معارك وانتصارات وأعراس وزغاريد، بأسلوب حوى مزيجاً من السخرية اللاذعة والكوميديا السوداء والنقد السياسي المبطّن، وجاء في البيان: “باسم الله وباسم الشعب الغزي أعلن: 

صديق ابن اخوي قدر يتجاوز طوفان طابور الخبز على باب المخبز فبعد أن كان رقمه 133 اقترب الوعد وحقق النصر وصار 22. الجميع حين عرفوا حسدوه وقالوا له والله انك جدع!

أما عن زياد صديقه فقد استطاع أن يحصل على حمام ساخن بعد أربعة أيام كنا على وشك أن نزغرد له زغاريد عرس. 

وفي ملحق آخر استطاع زوج أختي الفوز بصندوق مياه معدنية بعد انقطاع السبل منذ ثلاث أيام ولولا الحرب لاستقبلته أختي وأولادها استقبال الفاتحين الغازين في روايات التاريخ. 

صديقتي أخبرتني عن انتصارها ونجاحها بتقطيب غرز في يد ابنها بعد أن وصلتها شظايا قصف وتوفر بنج لذلك. 

أما عن كاتب هذا النص فيا لحظّه لقد استطاع تجميع ساعة ونصفها للنوم على مدار ثلاثة أيام موزعة بالتساوي ووفق قواعد الصمود والتصدي نصف ساعة لكل يوم دون انقطاع”. 

وختمته “هذا لا توثقه لك الكاميرا، ولا تتمكن المذيعة من استضافة محلل في هذا الأمر لأسباب لا يعلمها أحد!”. 

غالبا ما تتصدّى فداء لمحاولات تصوير أهل غزّة بالأبطال الخارقين، الذين لا يهزمهم الموت، فتقدّمهم بصورهم الإنسانية الحقيقية، خائفين، متعبين، يائسين، معترضين على شروط هذه الحرب وظروفها، كما تتجنّب استخدام مفردات مثل البطولة والعزّة والمقاومة والانتصار، ضمن سياق سياسي وأيديولوجي، وفي يوم من أيّام الحرب كتبت تخاطب زعيماً سياسياً، على ما يبدو: “زي ما إنتَ شايف الحكي عن أحزاننا انهزام، احنا شايفين حكيك عن الصمود قلة حيا!”.

لا تحكي فداء باسمها فقط، بل باسم الفئة الصامتة، ترفع صوتها نيابة عنها، فكتبت مرّة، عقب خطاب حماسي لزعيم سياسي معروف: “أعرف أن هذا ليس موضع سخرية وقد تدهشك التفاصيل، ولكن لا أقذر من تلك السخرية سوى من يجلس في مكان ما ويقول عنا: إن شرف الأمة في رعايتنا، ولأننا في حالة حرب يخجلنا جداً أن نقول له أين يضع شرف الأمة؟! 

يعني ببساطة احنا مش عارفين وين نروح بحالنا لنقدر نرعالك شرف الأمة!”. 

وفي إحدى ليالي القصف العنيف، التي كانت المجازر تتنقّل فيها من بيت إلى بيت، انفطر قلب فداء على غزّة اليتيمة، التي تخلّى عنها أهلها وتنكّر لمأساتها العالم، فكتبت كمن تربّت على كتف فتاة صغيرة خائفة لتهدّئ من روعها وتعدها بالأمان والصباح:

“كم من موت مرق من فوقك ولسه بتطلعي وبتعاندي وبتقولي: هيني يا عمي !

مش لأنك جبارة بس لأنك صغيرة وبتحلمي بإنك عالحياة تضلك تتمختري

صغيرة ولسه بتحلمي تمشطي شعرك وتركضي

كسروا رجليكي ولسه بتحلمي

تلبسي فساتين مطرزة مش كفن

تهربي من مد الشط مش من شظية

ولك متصدقنيش صدقي إني متلك ولسه كنتِ ولا زلت بتحلمي!

صدقي إنو ولا مرة كان الصباح المشوه هاد حلمك”. 

في الحرب، يعيش النازح حياة مستعارة لا تشبهه، لذلك يشتاق إلى تفاصيل حياته السابقة، حتى تلك المملّة والمكرورة والمهملة أيضا، كتبت فداء شيئا بهذا المعنى، في مقطع تحدثت فيه عن تحوّل يومياتها العادية إلى مجموعة من الذكريات، وقالت إن رأسها أصبح مثل “صناديق الجدّات الممتلئة بالذكريات، تنقله من مكان إلى آخر وتمرّنه على التذكر”.

تتابع فداء الكلام عن ثقل الذكريات في رأسها، بعد النزوح “أفسحت فيه مكاناً لأسماء جديدة من الأشخاص وملامح بيت جديد، وصوت صباح الخير القلقة، وإذاعة أسماء البيوت التي قصفت، وشكل الشباك الخائف من الاهتزازات وملامح زجاجه المكسور، والاحتماء بكرسي قريب”، وكأنها تقصد العبارة الشهيرة “كي لا ننسى”، حين تقول: “كل يوم أطل على رأسي نكاية بالقتل”.

أحيانا، ومن واقع التجربة، يحنّ النازح حتى إلى التفاهات، ويضفي عليها قيمة معنوية نكاية بالقلق الوجودي الذي تفرضه الحرب، عن هذا التناقض كتبت فداء: “كان لدينا قلق غير هذا يا الله! غير هذا الذي لا نعرف ماهيته ولا شكل هيئته، نحن فجأة كنا في نوم واستيقظنا على حقل كبير مخيف من القلق “، في ختام هذا المقطع، توجّه فداء عتبها للسماء، التي وضعت على أكتاف شعبها هذا الحمل الثقيل علاوة على أحمال أخرى، فتسأل: “لقد أخذنا حصتنا الكافية من القلق الذي يعرفه الجميع، فلم صدقتنا حين قلنا لك نحن نستطيع أن نجرب غير ما يعرفه الجميع، لم يا الله؟”. 

المؤسف أن فداء اضطرت إلى نزوح ثانٍ، لكن هذه المرّة لم يكن بيتاً، بل مركز إيواء، لم تروِ عنه أية تفاصيل بعد، فقد يكون مدرسة من مدارس “الأونروا”، أو مقرّ منظمة دولية ما أو عنبر مستشفى، لا أعرف بالتحديد، ما عرفته أنها لم تكن وحدها، كان برفقتها مجموعة من “الصبايا الحلوات”، حوّلن بغنائهن مقطعاً من “يما مويل الهوى” مركز الإيواء، إلى منبع للأنس والسكينة.

لنغنِّ مع فداء والصبايا “ومشيت تحت الشتا/ والشتا رواني/ والصيف لما أتى/ ولع من نيراني/ بيظل عمر الفتى/ نذر للحرية”، على أمل أن تنجو غزّة المدهشة وتعود لتفاصيل الحبّ والحياة. 

إقرأوا أيضاً: