ما زالت مظاهر الاحتفال بسقوط نظام الأسد مستمرة في سوريا، وعلى رغم التطمينات والمشهدية السلمية التي أعقبت هذا السقوط، برزت بعض الحوادث التي قد تشكل تحدياً كبيراً لسوريا ما بعد الأسد، إذ يشهد عدد من المناطق السورية أعمالاً انتقامية وصلت حد القتل وأحداث شغب تتمثل في التخريب والنهب، آخرها كان الهجوم على مطرانية حماة، حيث أطلق شخصان النار على صليب المطرانية، وتم هدم بعض القبور وتكسير الصلبان والتماثيل..
يحيط الغموض بالكثير من الأخبار التي تتسرب إلى وسائل التواصل الاجتماعي، لكنها إلى الآن لا تعكس انتهاكات منظمة، إلا أن تكرارها يشي بأنها تتنامى، وقد تنفجر في أي وقت إن لم يتم تداركها، وبخاصة أن من بينها أعمالاً انتقامية على أساس طائفي.
انتهاكات مخاوف الأقليات
إدارة العمليات العسكرية بقيادة أحمد الشرع (الجولاني) تعهدت بعدم المساس بالأقليات أو معتقداتهم، لكن باتت أعمال الشغب والانتقام تثير المخاوف، بخاصة مع انتشار فيديوهات وقصص كثيرة ظهرت في بعضها عمليات تصفية لعناصر قيل إنهم تابعون للنظام السوري السابق، من دون أي معلومات واضحة سوى شهادات متفرقة على وسائل التواصل الاجتماعيّ تحاول رصد ما يحدث.
تنتشر هذه الأخبار بالتوازي مع عمليات “تسوية الوضع” التي تقوم بها الإدارة الجديدة، للنظر في مستقبل الآلاف من العساكر وموظفي الأمن الذين عفا عنهم الشرع ما إن وصل إلى السلطة، بصورة يمكن وصفها بالمتسرعة أو محاولة للحد من الانتقام وخلق اقتتال داخلي.
من المعروف خلال حكم آل الأسد استخدام ورقة الطائفية طويلاً في حكمه، خصوصاً أن الأسرة تنحدر من الأقلية العلوية المتمركزة في الساحل الشمالي للبلاد، وتشكل نحو عشرة بالمئة من سكان سوريا، وانتشرت أخبار عن فرار الكثير من عناصر النظام وأسرهم إلى الساحل.
الـ”واشنطن بوست” نشرت تقريراً عن حالات انتقام شهدها الساحل السوري، وبحسب الصحيفة فقد تمكنت من التأكد من فيديوهات عدة بهذا الخصوص، أحد كان في قرية ربيعة غرب حماة، ويُظهر الفيديو مسلحاً يركل وجه رجل يبدو ميتاً، ويظهر خلفه رجل آخر مُقيّد اليدين والقدمين يُركل في وجهه.
يستخدم الشخص الذي يصور الفيديو، مراراً، تعبيرات مهينة للعلويين، ثم يتم إطلاق النار على الرجلين. ولم تتمكن الصحيفة من تأكيد هوية الجناة أو الضحايا، ما يعني أننا لا نعلم شيئاً عن توجههم أو خلفياتهم، وقد يكون بينهم ثأر قديم أو خلاف سواء مالي أو سياسي.
في فيديو آخر، يظهر مقاتل بملابس عسكرية وهو يعدم شخصين بجانب الطريق، يقول المقاتل: “هؤلاء خنازير؛ ضباط من قوات الأسد كانوا يحاولون الهرب” ثم يركع الرجلان، بملابسهما مدنية، على الرصيف وأيديهما مربوطة خلف ظهريهما. يقول أحدهما: “يا شيخ، أعطنا فرصة، نحن معك”، قبل أن يصرخ مقاتل آخر: “الله أكبر!”، ثم يطلق النار عليهما ليسقطا قتيلين.
انتشر الفيديوهان على نطاق واسع وتناقلهما الخائفون من مذبحة الأقليات وحتى من يودون إذكاء نار الفتنة على حد سواء، وباتت مثل هذه الفيديوهات، على قلتها، إثباتاً على مستقبل الأقليات الغامض، خصوصاً مع غياب تفاصيل موثوقة عن الأشخاص.
أحد شيوخ الطائفة العلوية في اللاذقية، يقول لـ”واشنطن بوست” من دون أن يكشف عن هويته: “من هو القاضي؟ من يقرر من هو الشبيح ومن ليس كذلك؟… من يمكنه السيطرة على هذا؟ إنها مسألة وقت فقط قبل أن تنفجر الأمور”.
لكن السؤال، هل يجب على أبناء الساحل دفع ثمن جرائم الأسد سواء عبر الضغط المعنوي وتحميلهم مسؤولية 13 عاماً من الدماء أو عبر الانتقامات على أرض الواقع؟
حوادث باسم مجهولين !
مقارنة بما ترافق مع سقوط أنظمة أخرى في المنطقة، كان سقوط الأسد أقلها دموية، بل إن السلمية التي رافقت هذا التغيير التاريخي فاجأت كثيرين، واستطاع عناصر “إدارة العمليات العسكرية” ضبط الوضع إلى حد كبير. لكن مع استمرار وقوع أعمال شغب وعمليات انتقامية تتمثل في تصفية عناصر شاع أنهم تابعون للنظام، يغدو الحديث عن الحفاظ على الاستقرار والسلم الأهلي ضرورة.
والأهم الحديث عن المحاسبة، إذ ليس المطلوب في سوريا عفواً عاماً ولكن محاكمات عادلة تحدد المسؤوليات وتحاسب عليها وليس ترك الباب أما حوادث انتقام وثأر.
كان من المتوقع أن تكون قضية الطائفة العلوية في مقدمة المعضلات في سوريا، بسبب انحدار الرئيس السابق بشار الأسد منها وانتماء مجموعة من الضباط المتهمين بارتكاب جرائم حرب إليها.
يتجاوز المتمسكون بهذا الأمر حقيقة أن مناطق العلويين تعيش في فقر مدقع وأن النخبة الحاكمة “باسمهم” لم تمنحهم سوى الفتات وفرضت عليهم الولاء بالقوة، ومن كان يخرج عن النظام كان يدفع ثمناً مضاعفاً.
عانى السوريون كثيراً على مدار 13 عاماً، وجربوا كل أنواع الموت، ما ترك شروخاً عميقة داخلهم من دون تحقيق أي شكل للعدالة. واليوم الكثير منهم بحاجة الى هذه العدالة، والتي قد يختلف مفهومها بالنسبة إليهم، ما سيدفع البعض ربما الى القيام بأعمال انتقامية، ما يذكرنا بالحاجة الملحة إلى تفعيل دور المحاسبة العادلة. لكن وفي ظل وجود حكومة انتقالية تحتاج الى شهرين ونصف الشهر بعد لترسيخ أسس الدولة، تبدو هذه الفترة مقلقة، ما يستوجب إيجاد طريقة فعالة للتعامل معها.
من جهة أخرى، يشكل وجود المقاتلين الأجانب في صفوف المعارضة عقدة شائكة، في ظل تصاعد الأخبار عن تجاوزاتهم. كما أن وجود هذا المكون الغريب بين السوريين لن يشعرهم بالطمأنينة بأي حال، خصوصاً أنهم اختبروا دور المقاتلين الأجانب في سوريا منذ عام 2011، والدوافع الأيديولوجية التي تحرّك “نشاطهم”.
يجدر بالذكر أن هوية مرتكبي هذه الانتهاكات لم تُحسم بشكل قاطع، وفي بعض الحالات تُنفَّذ عمليات النهب والسلب من عصابات محلية. ففي بلدة الحكيم بمحافظة اللاذقية، اعتدى أشخاص عدة على سيارة تابعة للهيئة، أشخاص معروفون لأهل المنطقة بـ”نشاطهم الإجرامي”.
على الجانب الآخر، تعرض معارضون إلى هجمات من شبيحة النظام السابق، ووثقت الـ”واشنطن بوست” مقتل شابين على يد بلطجية موالين للنظام السابق.
أحد المخاوف الجدية التي أشارت إليها الصحيفة، هو وجود مقاتلين يضعون علامات تشابه علامات التي يضعها تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، بعد ظهور مسلحين يرتدون الشارات نفسها عند بوابات السفارة التركية في دمشق هذا الأسبوع.
على الرغم من أن أحمد الشرع (بالجولاني)، قائد إدارة العمليات العسكرية، أعلن مراراً انفصاله عن تنظيم القاعدة، ونفى وجود أي ارتباط للهيئة بتنظيم الدولة (داعش)، إلا أنه لم يتم التأكد بشكل قاطع من خلو الهيئة من مقاتلين سابقين في صفوف داعش.
البلد الممزق منذ 13 عاماً يلقي بمهام معقدة على إدارة العمليات العسكرية، لكن أبرزها وأكثرها إلحاحاً هي ضبط الوضع الأمني وحماية الناس، ولا يمكن اليوم تفضيل إصلاحات أخرى على السلم الأهلي، بخاصة مع استغلال بعض المسلحين الفوضى لتصفية حسابات شخصية وطائفية.
لكن السؤال، إلى أي مدى الهيئة قادرة فعلاً على ضبط الأوضاع، وبخاصة في مساحة كبيرة وذات طبيعة اجتماعية وسياسية معقدة كسوريا. وكانت الهيئة قالت في بيان لها: “سنعمل على معالجة آثار الماضي من خلال آليات شفافة تهدف إلى تحقيق سلام دائم واستعادة النسيج الاجتماعي”.
إدارة العمليات العسكرية تحاول ضبط الأمن
أصدرت إدارة العمليات العسكرية عفواً عاماً وافتتحت مراكز للتسوية في مختلف المحافظات. وبالفعل، توجه الكثير من ضباط الشرطة والعسكريين السابقين لتسوية أوضاعهم وتبرئة أنفسهم. ومع ذلك، وقعت بعض الحوادث التي أثارت قلق الناس وزادت من مخاوفهم.
في حمص، نشرت سيدة تدعى صفاء مخلوف على “فيسبوك”، أن زوجها وأخاه ذهبا إلى مركز تسوية، هناك وبحسب صفاء سألتهما إحدى سيارات إدارة العمليات: “من الضابط ومن العسكري؟”، وعندما أجابا أنهما ضابطان اقتادتهما إلى مكان مجهول. ومنذ يومين فقط، أعلنت صفاء مقتل زوجها محمد سمير الصوفي وأخيه سمير الصوفي، لكن أحداً لم يتأكد إن كانت السيارة تابعة فعلاً لإدارة العمليات.
من جهة أخرى، يبدو أن المسيحيين والشيعة أيضاً متخوفون، وأول مظاهر هذا الخوف كان نزوح الكثير من شيعة سوريا إلى لبنان، رغم عدم حصول حوادث ضدهم، إلا أنهم فضلوا المغادرة إلى حين جلاء الأمور.
في بلدة مصياف في مدينة حماة والتي تضم سكاناً من الشيعة والمسيحيين والعلويين، عُثر على أربع جثث ملقاة بجانب الطريق. وبحسب مراسل “واشنطن بوست”، ظهرت على الجثث آثار التعذيب من دون تحديد هويّة الضحايا أو الجناة.
كما تكررت حالات طرق أشخاص ملثمين على الأبواب ليتضح أنهم سارقون، ما استدعى الهيئة لإصدار بيان بعدم فتح الأبواب لأي شخص إذا لم يكن يملك تصريحاً رسمياً، وبرفقة مختار المنطقة.
وكانت أعلنت هيئة تحرير الشام عن إنشاء لجنة خاصة للتحقيق في مزاعم الانتهاكات، في محاولة للتخفيف من حدة هذه التوترات، لكن للآن لا يوجد أي شيء واضح ويبدو التأخير جزءاً من مشهد الفوضى العام.