fbpx

“غودباي” 17 تشرين؟!

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

ـ”كورونا” أرخى بظلاله على كل شيء، في لبنان والعالم. والمرض أعاد ترتيب الأولويات، حتى راح بعض الثوار يهللون لقرارات الحكومة الصارمة، ولقمع الناس بالقوة تحت مبررات صحية

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

عام 1990، ولكي يحمي أمه العجوز التي تعاني من مناعة هشّة، من تدهور صحتها الجسدية والنفسية، يقوم أليكس بحجب خبر انهيار جدار برلين عن أمه التي كانت في غيبوبة لفترة طويلة. الأم الاشتراكية التي تعرضت لوعكة صحية أدخلتها في غيبوبة بعدما علمت بأن ابنها يتظاهر ضد الاشتراكية، لم تخرج منها إلا بعد انهيار جدار برلين وتبدّل المشهد بالكامل. فلم يكن أمام ولديها، أليكس وأريانا، إلا أن يقيما نموذجاً مصغراً من ألمانيا الشرقية في شقتهم الصغيرة، حتى لا تصاب الأم بصدمة بسبب التغييرات وتتدهور صحتها مجدداً.

يخفي أليكس وأريانا التطورات والأخبار السياسية عن أمهما ويقومان بإعداد برامج تلفزيونية ونشرات أخبار تتحدث عن ألمانيا الشرقية خلافاً للبرامج التي تعرض في التلفزيون بعد انهيار جدار برلين، وأبعد من ذلك، يضطر اليكس إلى البحث في القمامة عن علب ومنتجات غذائية من منتجات ألمانيا الشرقية ويملؤها طعاماً من ألمانيا الغربية حتى لا تنتبه والدته إلى هول التغيير الذي حصل بعد انهيار الجدار. 

المرض أعاد ترتيب الأولويات، حتى راح بعض الثوار يهللون لقرارات الحكومة الصارمة، ولقمع الناس بالقوة تحت مبررات صحية، وتمرير سياسات نقدية واقتصادية تحت مبررات صحية، وتحرير عميل لإسرائيل من السجن تحت مبررات صحية

هذه الأحداث هي من فيلم “وداعاً لينين” Goodbye Lenin، الذي انتج عام 2003 في ألمانيا. وهي أحداث يمكن تخيّل حدوثها في لبنان اليوم، في سيناريو متخيّل، لكن لا يخلو من قوة وقع الحقيقة. فلنتخيل، على غرار الفيلم، أن سيدة متقدمة في العمر، تعاني من هشاشة في صحتها وجهازها المناعي، كانت قبل شهور تشارك بحماسة كبيرة في ثورة 17 تشرين الأول/ أكتوبر التي شهدها لبنان، والتي حلم من خلالها اللبنانيون بتغيير النظام، وأسقطوا فعلاً حكومة سعد الحريري، ليستبدلها النظام بحكومة ثانية تكنوقراطية تضم ممثلين متنكرين للأحزاب التي ثار عليها الشعب اللبناني، وهي بالتالي لا تلبي طموحات الثوار.

السيدة بعد خيبة الحكومة الحالية، ومع الذل الذي عاشته في المصارف للحصول على فتات من مال تعويضها الذي ادخرته لخريف عمرها، أصيبت بوعكة صحية بسبب الأثر النفسي، وتدهورت صحتها، وطلب الأطباء من عائلتها وأبنائها، على غرار ما حدث مع الأم الألمانية، ألا يعرّضوها لصدمات وأن تبقى بعيدة من تفاصيل ما يحدث من أزمات وكوارث في لبنان، خصوصاً مع بروز خطر فايروس “كورونا”. 

ومع الحجر الصحي العام في المنازل، يقوم أبناؤها بإعداد أرضية زائفة للأحداث، ويوهمون الأم بأنها تحدث فعلاً في الخارج، فيما البلاد كلها في حجر صحي وانهيار اقتصادي. 

المآل الوحيد لإجراءات كهذه، يعطينا الفيلم الألماني فكرة عنه: الأم لا بدّ أن تكتشف الحقيقة عاجلاً أم آجلاً. وفي الحالة الألمانية، يضطر أليكس فعلاً إلى تمرير الحقيقة على دفعات إلى أمه، وحين تبدأ الأم ملاحظة التغييرات تقرر، فيما ولداها غائبان عن المنزل، أن تخرج إلى الشوارع، لتفاجأ بمروحية تحمل تمثالاً لفلاديمير لينين وتزيله من إحدى الساحات العامة. تلك الصورة الأكثر قسوة وتعبيراً عن التغيير الجذري الذي حدث في العالم كله، وكان له تأثيره بشكل مباشر في ألمانيا بشقّيها اللذين اتحدا أخيراً مع سقوط الجدار، تقع كالصاعقة على الأم. 

في لبنان بعد عزلة طويلة بسبب فايروس “كورونا”، قد تخرج الأم اللبنانية الطاعنة في السنّ إلى الشوارع لتجد أن كل شيء تغير. فـ”كورونا” أرخى بظلاله على كل شيء، في لبنان والعالم. والمرض أعاد ترتيب الأولويات، حتى راح بعض الثوار يهللون لقرارات الحكومة الصارمة، ولقمع الناس بالقوة تحت مبررات صحية، وتمرير سياسات نقدية واقتصادية تحت مبررات صحية، وتحرير عميل لإسرائيل من السجن تحت مبررات صحية، ولا نستبعد أن تقوم طائرة مروحية بربط تمثال الشهداء بسلاسل معدنية لتزيله من مكانه تحت مبررات صحية، فيما الأم اللبنانية المسكينة تتابع بعينين ملؤهما الأسى الطائرة وهي تبتعد لتختفي مع التمثال في الغيوم السوداء الملبّدة في سماء بيروت. 

18.03.2020
زمن القراءة: 3 minutes

ـ”كورونا” أرخى بظلاله على كل شيء، في لبنان والعالم. والمرض أعاد ترتيب الأولويات، حتى راح بعض الثوار يهللون لقرارات الحكومة الصارمة، ولقمع الناس بالقوة تحت مبررات صحية

عام 1990، ولكي يحمي أمه العجوز التي تعاني من مناعة هشّة، من تدهور صحتها الجسدية والنفسية، يقوم أليكس بحجب خبر انهيار جدار برلين عن أمه التي كانت في غيبوبة لفترة طويلة. الأم الاشتراكية التي تعرضت لوعكة صحية أدخلتها في غيبوبة بعدما علمت بأن ابنها يتظاهر ضد الاشتراكية، لم تخرج منها إلا بعد انهيار جدار برلين وتبدّل المشهد بالكامل. فلم يكن أمام ولديها، أليكس وأريانا، إلا أن يقيما نموذجاً مصغراً من ألمانيا الشرقية في شقتهم الصغيرة، حتى لا تصاب الأم بصدمة بسبب التغييرات وتتدهور صحتها مجدداً.

يخفي أليكس وأريانا التطورات والأخبار السياسية عن أمهما ويقومان بإعداد برامج تلفزيونية ونشرات أخبار تتحدث عن ألمانيا الشرقية خلافاً للبرامج التي تعرض في التلفزيون بعد انهيار جدار برلين، وأبعد من ذلك، يضطر اليكس إلى البحث في القمامة عن علب ومنتجات غذائية من منتجات ألمانيا الشرقية ويملؤها طعاماً من ألمانيا الغربية حتى لا تنتبه والدته إلى هول التغيير الذي حصل بعد انهيار الجدار. 

المرض أعاد ترتيب الأولويات، حتى راح بعض الثوار يهللون لقرارات الحكومة الصارمة، ولقمع الناس بالقوة تحت مبررات صحية، وتمرير سياسات نقدية واقتصادية تحت مبررات صحية، وتحرير عميل لإسرائيل من السجن تحت مبررات صحية

هذه الأحداث هي من فيلم “وداعاً لينين” Goodbye Lenin، الذي انتج عام 2003 في ألمانيا. وهي أحداث يمكن تخيّل حدوثها في لبنان اليوم، في سيناريو متخيّل، لكن لا يخلو من قوة وقع الحقيقة. فلنتخيل، على غرار الفيلم، أن سيدة متقدمة في العمر، تعاني من هشاشة في صحتها وجهازها المناعي، كانت قبل شهور تشارك بحماسة كبيرة في ثورة 17 تشرين الأول/ أكتوبر التي شهدها لبنان، والتي حلم من خلالها اللبنانيون بتغيير النظام، وأسقطوا فعلاً حكومة سعد الحريري، ليستبدلها النظام بحكومة ثانية تكنوقراطية تضم ممثلين متنكرين للأحزاب التي ثار عليها الشعب اللبناني، وهي بالتالي لا تلبي طموحات الثوار.

السيدة بعد خيبة الحكومة الحالية، ومع الذل الذي عاشته في المصارف للحصول على فتات من مال تعويضها الذي ادخرته لخريف عمرها، أصيبت بوعكة صحية بسبب الأثر النفسي، وتدهورت صحتها، وطلب الأطباء من عائلتها وأبنائها، على غرار ما حدث مع الأم الألمانية، ألا يعرّضوها لصدمات وأن تبقى بعيدة من تفاصيل ما يحدث من أزمات وكوارث في لبنان، خصوصاً مع بروز خطر فايروس “كورونا”. 

ومع الحجر الصحي العام في المنازل، يقوم أبناؤها بإعداد أرضية زائفة للأحداث، ويوهمون الأم بأنها تحدث فعلاً في الخارج، فيما البلاد كلها في حجر صحي وانهيار اقتصادي. 

المآل الوحيد لإجراءات كهذه، يعطينا الفيلم الألماني فكرة عنه: الأم لا بدّ أن تكتشف الحقيقة عاجلاً أم آجلاً. وفي الحالة الألمانية، يضطر أليكس فعلاً إلى تمرير الحقيقة على دفعات إلى أمه، وحين تبدأ الأم ملاحظة التغييرات تقرر، فيما ولداها غائبان عن المنزل، أن تخرج إلى الشوارع، لتفاجأ بمروحية تحمل تمثالاً لفلاديمير لينين وتزيله من إحدى الساحات العامة. تلك الصورة الأكثر قسوة وتعبيراً عن التغيير الجذري الذي حدث في العالم كله، وكان له تأثيره بشكل مباشر في ألمانيا بشقّيها اللذين اتحدا أخيراً مع سقوط الجدار، تقع كالصاعقة على الأم. 

في لبنان بعد عزلة طويلة بسبب فايروس “كورونا”، قد تخرج الأم اللبنانية الطاعنة في السنّ إلى الشوارع لتجد أن كل شيء تغير. فـ”كورونا” أرخى بظلاله على كل شيء، في لبنان والعالم. والمرض أعاد ترتيب الأولويات، حتى راح بعض الثوار يهللون لقرارات الحكومة الصارمة، ولقمع الناس بالقوة تحت مبررات صحية، وتمرير سياسات نقدية واقتصادية تحت مبررات صحية، وتحرير عميل لإسرائيل من السجن تحت مبررات صحية، ولا نستبعد أن تقوم طائرة مروحية بربط تمثال الشهداء بسلاسل معدنية لتزيله من مكانه تحت مبررات صحية، فيما الأم اللبنانية المسكينة تتابع بعينين ملؤهما الأسى الطائرة وهي تبتعد لتختفي مع التمثال في الغيوم السوداء الملبّدة في سماء بيروت.