fbpx

غِواية اللَّعب موسيقياً…

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

هل البشر كلهم وبفئاتهم العمرية المختلفة يستطيعون أن يكونوا عازفين موسيقيين ولاعبين مهرة على آلآلات الموسيقية؟ هل الجميع ينطلقون من مُعطيات أوَّليّة متساوية في اكتساب مهارات العزف؟ وما هي هذه المُعطيات الضرورية؟ وهل هذه جينيّة أم مُكتسبة؟

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

من النادر أن نجد شخصاً لم يرغب ولو مرّة واحدة في حياته بأن يعزف على آلة موسيقية. ففي هذا النوع من النشاط الإنساني الأليف والجذّاب، ثمة فتنة وغموض.

يقف العازف الموسيقيّ وسط الدائرة، دائرة المستمعين، لاعباً على آلته الموسيقية، نافخاً، ناقراً أو مُغَنِّياً. يبدو لنا كأنه “ساحر” لطيف أو “عفريت” جميل محبوب. فيأسر المستمعين في دائرته الخاصة، دائرة الدهشة ويستحوذ على مشاعرهم. في الدائرة الآسرة تفيض المشاعر والخيالات، وعبرها قد يتوهم المستمع نفسه عازفاً ساحراً ولاعباً عفريتاً، فيقع في غواية اللعب.

قد يجوز اعتبار الحالة الجنينية لولادة الرغبة العارمة في أن نصبح عازفين موسيقيين تكمن في هذه الدائرة الاولى، دائرة الغواية… غواية السحر وفتنة اللعب.

ولكن ما أرغب في قوله هنا أبعد من هذه الدائرة التي قد تبدو فرضية فيها القليل من الدِقة والكثير من الخيال. لذا فسؤالي هو:

هل البشر كلهم وبفئاتهم العمرية المختلفة يستطيعون أن يكونوا عازفين موسيقيين ولاعبين مهرة على آلآلات الموسيقية؟ هل الجميع ينطلقون من مُعطيات أوَّليّة متساوية في اكتساب مهارات العزف؟ وما هي هذه المُعطيات الضرورية؟ وهل هذه جينيّة أم مُكتسبة؟

في البدء كانت الأذن:

يُجْمِع الموسيقيون بكل فروع اختصاصاتهم على ضرورة توَفُّر شرطين أساسيّين يشكّلان معاً مُعْطيان لا غنى عنهما للشروع في عملية تعلّم الموسيقى نظريةً وأداءً. وهذان الشرطان هما:

الأذن الموسيقية (ear of music) والإحساس السليم بالإيقاع (sense of rhythm). ويعني هذا أنْ يمتلك المرء إحساساً دقيقاً بدرجة النغمة وأنماط الإيقاع المتغيّرة كما بقدرته على محاكاة الصوت بدقة متناهية.

وبناء على هذا الإجماع، ترسخت على مدى قرون من الزمن قاعدة ثابتة في المعاهد الموسيقية الابتدائية لاختيار الراغبين في اكتساب مهارات العزف على آلة موسيقية محددة، وهي عبارة عن اختبار سريع للتحقق من وجود الأذن الموسيقية والإحساس بالإيقاع.

مارغريت والصَمَمْ النغَميّ:

ولكن في السنوات العشرين الأخيرة، ركّزت مجموعة من الباحثين في علم النفس وعلم الأعصاب والدماغ على دراسة ظاهرة تعَرُّف الأطفال في سنينهم الأولى إلى الأصوات، وطريقة تمييزهم إياها، مترافقة مع أنماط إيقاعية محددة. وقد خلصوا في نتائجهم الى ترجيح فرضية أنّ كل البشر منذ ولادتهم توجد داخلهم معطيات طبيعية وسليمة في مجال الإحساس بأنماط إيقاعية بسيطة، وقدرتهم على تمييز نغمات تُثير مشاعر الفرح أو الحزن.

في المقابل، لم يوافق علماء الهندسة الجينية كلياً على هذه النتائج. بل سعوا في مراكز أبحاثهم إلى ملاحقة الجينيوم المسؤول عن ظاهرة السمع المُطلق The absolute ear في السلالات العائلية التي تضم موسييقين محترفين أو هواة، إلى أن توصلوا إلى نتيجة تفيد بأن المعطيات الأولية للأذن الموسيقية والإحساس السليم بالإيقاع هما نمطان وراثيان ليسا متوفّرين عند جميع البشر. لذا فقد تصح تسمية هذين المُعطيين بالموهبة الخام أو الاستعداد الفطري لاكتساب مهارات العزف الموسيقي.

وبفضل تطور علوم الهندسة الجينية، استطاع الأطباء أن يُحددوا الجينيوم المسؤول عن ظاهرة “العجز في الإدراك الموسيقي”  Congenital amusia والمسبب لمرض الصمم النغَمي Tonal  deafness. عوارض هذا الخلل الوراثي تنحصر في كون الشخص لا يستطيع أن يُفَرق بين الصوت الصحيح من الصوت النشاز كما لا يستطيع أن يحدد علو النغمة الموسيقية tone pitches أو انخفاضه. وتؤكد الإحصاءات أن نسبة انتشار هذا الخلل الجيني هي واحد من عشرين شخص.

لا يشعر الشخص المصاب بأعراض هذا الخلل الجيني إلا حين يقرر أن يتعلم الموسيقى عزفاً أو غناءً. والجدير ذكره أنّ التمارين الموسيقية لا تُزيل أياً من أعراضه لا بل تفاقمه نفسياً، فيصاب الشخص أولاً بالإحباط وبعدها برهاب الوسواس القهري الذي يودي به الى متلازمة الفصام في الشخصية أو إلى حالة الصدمة النفسية.

وهذا ما أصاب بطلة فيلم “مارغريت”  Marguerite. وهو فيلم سينمائي درامي للمخرج الفرنسي Xavier Giannoli  ويروي فيه القصّة الحقيقية لامرأة فرنسية ثرية عاشت في باريس عام 1921 سحرتها الأوبرا وآمنت “بموهبتها” في الغناء وبصوتها الجميل، فقررت أن تصبح مغنية اوبرا ولكن أحداً لا يريد إخبارها بأن صوتها نشاز وغير صالح للغناء.

بعيداً من المروِيّة السنيمائية الرائعة لفيلم مارغريت، يُثير أوليڤر ساكس في كتابه “نزعة الى الموسيقى”  musicophilia  الصادر عام 2007، فرضيات علمية جديدة حول ظاهرة الصوت والموسيقى من جهة، والدماغ والذاكرة من جهة ثانية. والكاتب ساكس، طبيب الأعصاب والباحث في العلوم الطبيعية والتاريخ، يروي في كتابه مقاطع من حكايات مرضاه مزيلاً الغموض السائد في طرائق تعامل الدماغ البشري مع الموسيقى. ويذهب في النهاية إلى اعتبار الموسيقى اسمتاعاً أو أداءً قد تشكّل وسيلة علاج طبيعي لأمراض مثل الپاركنسون والزهايمر. ولكن ما يلفت النظر في كتابه المتنوع المواضيع، هو تشديده على عوامل الوراثة الجينية في موضوع الصمم النغمي والإيقاعي والأذن المُطلقة، مع إضافة تأثيرات عوامل البيئة المحيطة من اجتماعية، ثقافية أو طبيعية في تنمية الأذن الموسيقية وتدعيم الأساس الإدراكي  للإيقاع.

خلاصة لا بد منها:

نتائج الأبحاث العلمية الجديدة في مجال الصوت كظاهرة فيزيائية وكيفية تفاعل دماغنا معها، تَلقى اهتماماً كبيراً في الغرب من قِبل التربويين في مجال التعليم الموسيقي وتدفعهم إلى تطوير فهمهم لموضوع التنشئة الموسيقية وبرامجها، كما لإطلاق اختصاصات مُستجدّة في معاهدهم، كاختصاص الموسيقى العلاجية مثلاً. ولكن على رغم هذا، فهُمْ يُبقون على القاعدة الأساس في اختيار الأشخاص ذوي المعطيات الخام والاستعدادات الطبيعية للتعلّم الموسيقي، وبالتالي استبعاد كل من ليست عنده أُذن موسيقية وإحساس صحيح بالإيقاع.

العيش في الفقاعة اللبنانية:

لبنان مع بدء الألفية الثالثة يشهد انتشاراً واسعاً للمعاهد الموسيقية، تليبة لازدياد الطلب لدى فئات وشرائح واسعة من اللبنانيين على تعلُّم الموسيقى. قد يبدو للوهلة الأولى أن ظاهرة إيجابية قد بدأت تترسخ في هذا البلد الذي يعيش حالة سلمٍ لا تُشبه إلا حال الحرب فيه.

وإذا أمعنّا النظر في هذه الظاهرة الملفتة والمُتمركزة في المدن، لا بد أن نلاحظ الهُوَّة الشاسعة التي تفصل من جهة بين إنتاج هذه المعاهد من خرّيجين أو طلاب يتابعون تعلّمهم على الآلات الموسيقية وبين صناعة تفاصيل الحياة الفنية من فاعليات وحفلات ومهرجانات.

“يعترف الأهل بعد حين أن أحلامهم المُنكسرة في أن يكونوا هم أنفسهم موسيقيين هو ما دفع بهم إلى إرسال أبنائهم وبناتهم إلى غُرف التعذيب الموسيقية”

إن التطرق لهذه الهُوّة لتبيان أسبابها المتعددة الأطراف يفتح النقاش على كثير من القضايا الشائكة والمترابطة التي تتطلب أكثر من مقالة واحدة. لذا سأحْصُر مقاربتي للمشكلة فقط من زاوية طرفين فقط هما؛ الجمهور من ناحية والمعاهد الموسيقية من ناحية اُخرى، منطلقاً من سؤالي الأساس إذا كان باستطاعة كل البشر تعلّم العزف على الآلات الموسيقية.

الحُصْرم الموسيقي:

يعيش الجمهور اللبناني في علاقته مع الموسيقى حالة التباس وتناقض، وبين اعتكاف مُقيم وإقبال شديد عليها. فهو لا يزال على رفضه وتحفظه في موضوع الموسيقى كمهنة سوِيّة تَصلح مصدراً للعيش له أو لأبنائه. يقابل هذا الاعتكاف إقبالاً منقطع النظير لتنشئة الأبناء والبنات على الفنون وخصوصاً الموسيقى، شرط أن تبقى ضمن إطار الهواية المُنزهة عن أي شبهة احترافية وظناً منهم أنها طريقة تربوية مفيدة لتنمية قدراتهم العقلية والإدراكية.

يدفع الأهل بأبنائهم إلى ميدان تعلّم الموسيقى بعد تشويه أُذنهم الموسيقية منذ الولادة بصنوف شتى من الأغاني الرخيصة والمبتذلة. كما يأتي هذا الدفع بتأثير من الميديا الغربية التي تنشر تباعاً دراسات مراكز بحوثها العلمية والتربوية في بلدانها المتطورة علمياً واجتماعياً واقتصادياً لتحاكي إنسانها ومجتمعها تحديداً، ولا تحاكي بالتأكيد المجمتع اللبناني وأبناءه. فيَسْتَميت الأهل بمعظمهم في إجبار أبنائهم على اكتساب مهارات العزف، مؤمنين بموهبتهم “الموسيقية الفذة” كونهم ناجحين في مدارسهم.

وقد يمر وقت طويل قبل أن يكتشفوا أن دفع أبنائهم جبراً، لم يُثمر عن أي شيء يُذكر سوى إضاعة الجهد والمال والوقت. ويعترف معظم الأهالي بعد حين، أي بعد أن يتأكد لهم المؤكد في أنّ ابنهم او ابنتهم لا يملكان الموهبة الموسيقية الخام وأنهما بعد مرحلة الإكراه أصبحا على نفور مقيم في الموسيقى، يعترف هؤلاء، بأن أحلامهم المُنكسرة في أن يكونوا هم أنفسهم موسيقيين هو ما دفع بهم إلى إرسال أبنائهم وبناتهم إلى “غُرف التعذيب الموسيقية!

معاهد الاستعراض الموسيقي:

أما من زاوية المعاهد والمدارس الموسيقية فهي تفتح أبوابها  للطلاب للدخول إليها، من دون إجراء أي امتحان تقييمي لمعرفة إمكان وجود الأذن الموسيقية والإحساس الصحيح بالإيقاع. وحتى إذا حصل مثل هذا التقييم فإنه يكون على الأرجح شكلياً. الأساس المهم في الموضوع عند هذه المدارس والمعاهد هو الحاجة إلى أعداد رقمية كبيرة ووافية من الطلاب المنتسبين لأسباب على الأرجح تكون تجارية  في المدراس الخاصة، أو للحصول على ميزانيات أكبر في المعاهد المُموّلة من جهات راعية لتبرير مصاريف إضافية.

المدارس والمعاهد الموسيقية في لبنان متنوعة الأحجام والأهداف والتسميات، وإذا استثنينا الآن التطرق المفصّل لموضوع استراتجياتها الثقافية وأهدافها التعليمية فلا بد من الإشارة إلى أنّ جميع إدارات هذه المدارس والمعاهد والكليات، الخاصة منها والرسمية، تتسابق لإدخال أكبر عدد من الطلاب إلى “صروحها”.

قد نفهم أن المعاهد الخاصة ولأسباب مالية ربحية ستلجأ إلى إدخال أعداد كبيرة وعشوائية من الراغبين في تعلُّم الموسيقى إلى معاهدهم، من دون الأخذ في الاعتبار الشروط الأكاديمية والعمرية المطلوبة، ولكنه لا نستطيع أن نفهم ونتفهم حال المعهد الوطني العالي للموسيقى/ الكونسرفاتوار في هذا الموضوع، وهو الصرح الرسمي المسؤول عن تطور أحوال الفن الموسيقي والموسيقيين في لبنان. إذْ دأبت الإدارات المتعاقبة منذ زمن على اعتبار أن ارتفاع عدد الطلاب المسجلين فيه هو إنجاز ما بعده إنجاز. طبعاً كان سيُعَد إنجازاً فعلاً لو أن هؤلاء المسجلين الجدد خضعوا لامتحان حقيقي وجدّي لناحية الاُذن الموسيقية والإحساس الإيقاعي.

لا نفهم ما هو الهدف من إدخال هذا الكم الهائل من الراغبين في التعلم الموسيقي إلى الكونسرفاتوار وهم بأكثريتهم لا يمتلكون الموهبة الموسيقية الخام. أمن أجلِ أن يُحشروا في صفوف مُكتظة بحيث لن ينال الطالب أكثر من عشرين دقيقة في أفضل الأحوال من كل أسبوع، بحيث يكفيه فقط أن يلقي التحية على أستاذه ويفتح آلته للتحمية فينتهي الوقت المحدد ليخرج كما دخل.

إنها سياسة تربوية صماء وعمياء تهدف فقط إلى التباهي بإنجازات لا تؤسس لحالة احترافية مستقبلية وبالتأكيد لا تُنتج ثقافة موسيقية عامة في الحد الأدنى.

إقرأ أيضاً:
أُم كلثوم في ذاكرتي…
التأسيس الثالث للمعهد العالي للموسيقى في لبنان بعد رحيل “الـديكتاتور العادل”

حازم الأمين - صحافي وكاتب لبناني | 28.03.2024

العرقوب اللبناني بين “فتح لاند” و”حماس لاند”

الوقائع التي تشهدها المناطق الحدودية اللبنانية عززت التشابه بين "فتح لاند" و"حماس لاند"، فبينما كانت الهبارية تتعرض لغارات الطائرات الإسرائيلية التي قتلت على نحو متعمد تسعة مسعفين، كان أهالي بلدة رميش المسيحية يقرعون أجراس كنائسهم احتجاجاً على تمركز حزب الله على إحدى التلال في بلدتهم!