الملك عبدالله الثاني كان ثالث زعيم عربي يهنئ جو بايدن بفوزه في انتخابات الرئاسة الأميركية، عبر تغريدة تضمّنت صورة تجمعه مع ساكن البيت الأبيض الجديد، بعد أن يتخطّى حملات الطعون القانونية، ومحاولات التشويش والتجييش الترامبية ضده.
سبقه في ذلك زعيما مصر وقطر، اللتين تراجع دوريهما الإقليمي في السنوات الأربع الماضية، حال دور الأردن وتجسيره الجيوسياسي، لمصلحة محور إسرائيل- أميركا- السعودية- الإمارات.
من حق الملك والأردنيين أن يتنفسوا الصعداء عقب هزيمة دونالد ترامب، بعد ثلاث سنوات من ديبلوماسية “الرقص على حافة الهاوية”، في التعامل مع المتغيّرات العميقة بفعل سياسات ترامب العدمية. إذ كان الأردن يستعد للانحناء أمام عاصفة “صفقة القرن” أو يجازف بدفع فاتورة رفضه تسوية القضية الفلسطينية باعوجاج وإجحاف على حساب الأردن.
فوز بايدن جنّب الأردن سيناريو مرعباً، كان يرتبط باستكمال تنفيذ الصفقة مع ما تحمله من تهديد لأمنه واستقراره، بعد وأد حلم الفلسطينيين بإقامة دولتهم ضمن حدود الرابع من حزيران/ يونيو 1967. ذلك أن الأردن يواجه تداعيات خطيرة نتيجة إهمال أميركا قضايا فلسطينية تمس صلب أمنه القومي، وتؤثر في هويته السياسية كما تخلّ بتوازنات الجغرافيا والديموغرافيا الحساسة. من هنا يأتي رفض الملك المعلن صفقة القرن، التي تجهز على خيار الدولتين؛ مع القدس الشرقية عاصمة فلسطين المنشودة وضمان حق عودة اللاجئين بموجب القرار الأممي 191 إلى جانب ترسيم نهائي للحدود مع ترتيبات أمنية.
قد يحمل بايدن موقفاً أكثر تشدّداً حيال الأردن لجهة تباطؤ الإصلاحات السياسية وتكميم أفواه الإعلاميين وقمع حرية الرأي والتعبير وغياب مقاربة جادة لمحاسبة الفساد والمفسدين.
الملك أرفق تغريدته بصورة بالأسود والأبيض جمعته مع بايدن في واشنطن. أعقب تلك التغريدة انتشار سريع لصور ملونة عن لقاء سابق بين عبدالله الثاني، برفقة ولي العهد الأمير حسين، مع بايدن خلال إحدى الزيارات المتكررة إلى واشنطن. يشار إلى أن العاهل الأردني كان يصرّ دوماً على لقاء بايدن، الخبير في شؤون المنطقة وملف القضية الفلسطينية، مقارنةً بمغامرات الجمهوريين الذين تركوا الحبل على الغارب للجهلة الجدد في قضايا الشرق الأوسط؛ دونالد ترامب وصهره جاريد كوشنر ووزير الخارجية مايك بومبيو المتحالف مع اليمين الإسرائيلي.
وتيرة الزيارات الملكية إلى واشنطن توقفت بسبب جائحة “كورونا” وبرودة العلاقات السياسية بين القصر والبيت الأبيض، الذي استبدل ملف القضية الفلسطينية باستهداف إيران. وأدت سياسات ترامب إلى زعزعة استقرار المنطقة حين ضربت مرتكزات الدولة الأردنية ومصالحها الوطنية وقوّضت السلطة الوطنية الفلسطينية والدور الحصري الأردني- المصري مع إسرائيل.
صحيح أن الفتور السياسي الصامت في العلاقات على مستوى القمّة، منذ منتصف 2018، لم يؤثر في استمرار الدعم المالي الأميركي للحكومة، بواقع 1.5 مليار دولار سنوياً، خلا المساعدات العسكرية. هذا الدعم جعل واشنطن الجهة المانحة الأولى للأردن، تليها دول الاتحاد الأوروبي مقابل تراجع الدعم التقليدي السعودي الإماراتي، والخليجي عموماً.
برودة العلاقات بين البيت الأبيض والأردن أثّرت في دور الأخير المحوري والضمني في التحالف الاستراتيجي الأميركي- الإسرائيلي حتى قبل أن يصبح الأردن ثاني بلد عربي بعد مصر يوقع اتفاق سلام مع إسرائيل عام 1994. فموقع الأردن الجيوسياسي وبراغماتية قيادته وفّرا له غطاء من الدعم الدولي مذ قسّمت اتفاقية سايكس- بيكو بلاد الشام إلى دويلات قبل ولادة إسرائيل.
الملك – حال والده الراحل حسين بن طلال- يتمتع بعلاقات وثيقة مع المنظومة الأمنية والاستخبارية ومع بيوت التشريع في البلدين. وللأردن دور محوري في الحرب على الإرهاب عبر قاعدة المفرق الجوية الاستراتيجية، على مقربة من الحدود السورية والعراقية. وتستخدم قوات التحالف الدولي، بما فيها الأميركية والألمانية والبريطانية، هذه القاعدة ضد تنظيم الدولة الإسلامية وغيره من الأهداف المعادية في دولتي الجوار. هذا طوق نجاة رئيس يعزّز استراتيجية الأردن، من منظور ديبلوماسيين غربيين في عمّان، حال سلسلة اتفاقيات استراتيجية مع إسرائيل، مثل خط الغاز وافتتاح منطقة صناعة وتجارة حرة في الجانب الأردني من غور الأردن، وعدم رفض إنشاء خط سكة حديدية إقليمية لتبقى عمان داخل شق التعاون الاقتصادي للصفقة.
إضافة إلى ذلك، يلعب مركز الملك عبدالله الثاني لتدريب العمليات الخاصة دوراً رئيساً في الإقليم منذ 2009، خصوصاً في تأهيل قوات خاصّة لدول الجوار على مكافحة الإرهاب. وهو يشكّل حجر رحى في قطاع الخدمات الأمنية واللوجيستية المتنامي في المنطقة. واستفاد الأردن من تدريب قوات خاصّة من العراق، ولبنان، وفلسطين وأفغانستان عبر المساهمة في تمويل القوات المسلحة.
في عهد ترامب، استمر الملك في حبس أنفاسه خوفاً من الآتي على الجبهة الغربية نتيجة صفقة القرن، التي لم يقرّها الكنيست بعد.
يلاحظ ساسة وديبلوماسيون كيف أن المؤسسة الأمنية الإسرائيلية وتلك الأميركية شكّلتا قوى ضغط ضد نتانياهو وترامب لتأجيل استحقاق صفقة القرن، لإدراكهما تداعيات ذلك على إرث العائلة الهاشمية ودور الأردن المشترك مع الضفة الغربية وإسرائيل على أطول حدود مشتركة.
المؤسستان وقفتا إلى جانب الأردن حين شعرتا الصيف الماضي بتأثير تطبيق الصفقة على تعميق عدم الاستقرار السياسي في المنطقة. ذلك أن غياب تسوية شاملة سينعكس على التوازن الديموغرافي الهش في الأردن، موطن مليونين و100 ألف أردني من أصول فلسطينية، لم يتخلّوا عن حق العودة والتعويض. كما ينعكس على دور المملكة التاريخي كوصي على المقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس الشرقية.
فوز بايدن يعني أن العناية الإلهية نجّت عمان من شر استكمال تطبيق “صفعة القرن” على أطلال خيار “حل الدولتين” الاستراتيجي، الذي تتمسك به عمّان والعواصم الأوروبية. ومن المتوقع أن تعطَّل أيضاً تداعيات دخول ولي العهد السعودي محمد بن سلمان وحكام الإمارات على خط واشنطن- تل ابيب عبر بوابة جاريد كوشنير، صهر الرئيس المهزوم.
فهذا التحالف الرباعي فرض واقعاً جديداً على الشرق الأوسط تحت شعار: “المعركة الأساسية هي مع إيران لأنها أساس الخطر على أمن المنطقة واستقرارها، مع إغفال التوترات الناجمة عن غياب حل عادل وشامل للقضية الفلسطينية”.
خلال الشهور الماضية هرولت الإمارات والبحرين والسودان لتطبيع علاقاتها مع إسرائيل مقابل مكاسب سياسية واقتصادية. تحركّت إسرائيل نحو هذه الدول من وراء ظهر الأردن، ما عمّق شعور الأخير بالعزلة السياسية. تزامن ذلك مع تفاقم الوضع الداخلي، خصوصاً مع تداعيات جائحة “كورونا” على اقتصاد المملكة المترنح وتصاعد دَينها الخارجي والداخلي إلى مستويات مقلقة مع تعمّق ثنائية الفقر والبطالة.
هذا التحالف الجديد قوّض دور الأردن الإقليمي في الصميم عشية الإعلان عن هذه الصفقة وسط تنامي الضغوط على المملكة مقابل حزمة خلاص اقتصادي ومالي مجزية.
بالطبع، لا يتوقع الأردن الرسمي انقلاباً سياسياً في موقف الإدارة الأميركية الجديدة على مواقف ترامب.
لكن حال القلق والخوف من المجهول، التي كانت تسيطر على الأردن الرسمي قبل 4 تشرين الثاني/ نوفمبر بدأت تتحول إلى مشاعر ارتياح فور الإعلان عن فوز بايدن المتمرس في إدارة مفاصل السياسة الخارجية لعقود. الأردن يأمل الآن طي صفحة مغامرات ترامب وكوشنر وبومبيو، مع وصول ديموقراطيين يملكون خبرة لا يستهان بها في المنطقة، خصوصاً ملف القضية الفلسطينية.
بايدن، حال ترامب، لن يتخلّى عن التزام أميركا بأمن إسرائيل ولن يحقّق مصالح العرب على حساب مواطنيه ورفاهية إسرائيل.
لكن رحيل ترامب المأمول بداية العام المقبل، سيفسح المجال أمام إحياء خيار الحزب الديموقراطي المتمثل ببوابة حل الدولتين والانفتاح التدريجي على إيران لتغيير مواقفها المتشددة. كما يشمل التغيير انقلاباً على دعم ترامب المطلق للدكتاتوريات العربية بما في ذلك صفقات الفساد وقمع الحريات السياسية والإعلامية.
إذاً أجواء التشنج ستتلحلح، وصفقة القرن إلى سلة المهملات. قد يكون للإدارة الجديدة موقف أكثر صرامة حيال سرطان المستوطنات ودخول مستوطنين يهود باحة المسجد الأقصى بدعوى الصلاة في موقع هيكل سليمان المزعوم. كانت عمّان تنظر إلى هذه الاعتداءات المتكررة على الحرم القدسي على أنها رسالة مبطنّة بأن السيادة على القدس ومقدساتها قد حسمت سواء قبل الأردنيون والفلسطينيون ذلك أم رفضوه.
بالطبع لن يمس بايدن القرارات المتخذة سابقاً. فهو لن يلغي قرار نقل السفارة الأميركية إلى القدس أو الاعتراف بسيادة إسرائيل على الجولان وكذلك يهودية الدولة. لكنّه قد يلغي ما لم ينفذ بعد من صفقة القرن وسياسات القفز على الدور التاريخي الأردني في سياق حلحلة الصراع العربي- الإسرائيلي.
سيستمع الديموقراطيون أكثر للملك عبدالله الثاني وستخف سطوة ولي العهد السعودي والحليف الإماراتي على الإدارة الأميركية وقضايا المنطقة.
سيتغير وضع الائتلاف الحكومي في إسرائيل ويعود الحوار بين واشنطن والسلطة الوطنية الفلسطينية لإحياء خيار حل الدولتين. وستختفي من القاموس الديبلوماسي عبارات حل الدولة الواحدة أو ضم الضفة الغربية أو مبدأ السلام من أجل السلام. سيخف الضغط الأميركي الخليجي على الإسلام السياسي وستبدأ عملية مصالحة في الخليج لإنهاء الحصار على قطر. وستضغط إدارة بايدن لوقف الحرب في اليمن، كما تعيد فتح مكتب تمثيلي لمنظمة التحرير في واشنطن وربما قنصلية أميركية في القدس الشرقية. وستعيد دفع التزاماتها المالية لدعم السلطة الفلسطينية وتعزيز ميزانية المنظمة الأممية لرعاية شؤون اللاجئين (الأونروا).
كلها توقعات جيدة ستساعد عمّان على خلق توازن جديد في العلاقات مع الإدارة الأميركية وفي صوغ شرق أوسط جديد، بعيداً من المحاور الجديدة. وستعود هوامش الدور الإقليمي الأردني بالتدريج.
لكن قد يحمل بايدن موقفاً أكثر تشدّداً حيال الأردن لجهة تباطؤ الإصلاحات السياسية وتكميم أفواه الإعلاميين وقمع حرية الرأي والتعبير وغياب مقاربة جادة لمحاسبة الفساد والمفسدين.