زوبعة أثارها وزير الخارجية الفرنسي، جان نويل بارو، بعد طرحه مسألة “الحصانة التي يحظى بها قادة الدول غير الموقِّعة على نظام روما”، في تلميح الى أن بلاده معفاة من اعتقال بنيامين نتانياهو.
الموقف الفرنسي من مذكرة اعتقال نتانياهو الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية كان منتظراً، ليس فقط لأن فرنسا تقدم دائماً نفسها كمهد حقوق الإنسان، بل أيضاً لأن رئيس الوزراء الإسرائيلي لجأ إلى نبش التاريخ عملاً بسياسة “خير وسيلة للدفاع هي الهجوم”، ليصف قرار المحكمة الجنائية الدولية بـ”محاكمة معاصرة لألفريد دريفوس”.
لماذا دريفوس ؟
قضية دريفوس التي دارت أحداثها نهاية القرن التاسع عشر، لا تزال حاضرة في الذاكرة الجماعية الفرنسية والعالمية بعد تحولها إلى علامة فارقة في تاريخ معاداة السامية. باختصار، اتُّهم النقيب الفرنسي ألفريد دريفوس بخيانة بلاده والتعامل مع ألمانيا. وعلى رغم الأدلة الهشة والمفبركة، تمسكت جهات قضائية وعسكرية بإدانته ظناً منها أن ديانته اليهودية كافية لإلصاق التهمة به، في تجسيد للصورة النمطية لليهودي “المشرد – الخائن والمفتقد أي ولاء وطني”. براءة دريفوس ظهرت بعد 12 عاماً عرفت خلالها فرنسا انقساماً سياسياً وشعبياً حاداً حيال هذه القضية التي هزّت البلاد.
تصدير نتانياهو قضية دريفوس في معرض هجومه المضاد، دفع الى التساؤل منذ لحظة صدور مذكرة الاعتقال: هل باريس مستعدة لتنفيذها في حال وجود نتانياهو على أراضيها، كونها من الدول الموقعة على نظام روما المؤسِّس للمحكمة الجنائية الدولية؟
الفيدرالية الدولية لحقوق الإنسان سارعت إلى الرد على بيان الخارجية الفرنسية، معتبرة أن “فرنسا تكذب”، كما وصفت حصانة نتانياهو بـ “الحصانة المزعومة”. رد هذه المنظمة غير الحكومية والفاعلة في مجال حقوق الإنسان استند إلى نقاط عدة: أولاً، المادة 27 من نظام روما الأساسي والخاصة بعدم الاعتداد بالصفة الرسمية، إذ نصت المادة المذكورة على ما يلي: “لا تحول الحصانات أو القواعد الإجرائية الخاصة التي قد ترتبط بالصفة الرسمية للشخص، سواء كانت في إطار القانون الوطني أو الدولي، دون ممارسة المحكمة اختصاصها على هذا الشخص”.
كما استندت الفيدرالية الدولية إلى اجتهاد قانوني صدر عن المحكمة الجنائية الدولية بعد زيارة الرئيس الروسي إلى منغوليا، أي إلى دولة عضو في المحكمة الجنائية الدولية. المحكمة رأت في عدم توقيف بوتين، الصادر أيضاً بحقه مذكرة اعتقال، عرقلة لعملها، مضيفة أن الحصانة لا تتعارض مع نظام المحكمة.
معايير فرنسا المزدوجة
وما يزيد من علامات الاستفهام حول موقف باريس هو بيان الخارجية الفرنسية، في 17 آذار/مارس 2023، المرحّب بمذكرة الاعتقال الصادرة عن المحكمة ذاتها بحق الرئيس الروسي: لماذا لم تشر الخارجية الفرنسية إلى حصانة بوتين، بخاصة وأن روسيا كما إسرائيل من الدول غير الموقّعة على نظام روما؟
تناقض يشير بوضوح الى أن الموقف الرسمي الفرنسي من مذكرة اعتقال نتانياهو تحكمه الاعتبارات السياسية على رغم محاولة إضفاء صبغة قانونية عليه. تقارير إعلامية إسرائيلية تناولت صفقة بين تل أبيب وباريس عنوانها: مشاركة فرنسا في اتفاق وقف إطلاق النار وفي لبنان مقابل عدم تنفيذ مذكرة الاعتقال الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية.
بعيداً من صحة هذه المعلومات، كان التخبط الفرنسي واضحاً منذ صدور مذكرة الاعتقال، ما يعني أن مركز القرار الفرنسي لم يكن في الأساس متحمساً للتجاوب مع قرار المحكمة الجنائية الدولية.
في بادئ الأمر، كان الموقف الرسمي الفرنسي رمادياً: صحيح أنه لم يلجأ إلى تحدي القرار كما فعل الرئيس المجري فيكتور أوربان الذي وجّه دعوة لنتانياهو لزيارة بلاده، لكنه وفي المقابل لم يتعهد صراحة بتطبيق مذكرة الاعتقال كما فعلت إسبانيا وبلجيكا وهولندا.
الخارجية الفرنسية أصدرت بياناً ضبابياً، في 22 تشرين الثاني/نوفمبر، أوضحت من خلاله أنها “أخذت علماً بقرار المحكمة” مجدّدة التزامها “بدعم العدالة الدولية واستقلالية عمل المحكمة بما ينسجم مع نظام روما”، مذكّرة بالفارق بين توجيه الاتهام وصدور الأحكام في تلميح إلى قرينة البراءة لأي متّهم.
وازدادت الأمور ضبابية مع تصريح رئيس الوزراء ميشال بارنييه، إذ أعلن في 26 تشرين الثاني/نوفمبر أن فرنسا “ستطبق التزاماتها بصرامة” من دون أي إعلان مباشر عما إذا كانت بلاده تنوي اعتقال رئيس الوزراء الإسرائيلي. مراوحة انتهت فصولها بتصريح جان نويل بارو، في 27 تشرين الثاني/نوفمبر، والذي استُكمل ببيان عن وزارة الخارجية.
للتذكير، منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر، انحازت فرنسا بوضوح إلى إسرائيل ووصل الأمر إلى حد المزايدة، بخاصة مع اقتراح إيمانويل ماكرون تشكيل تحالف دولي لمواجهة حركة “حماس”. وعليه، يمكن القول إن باريس لم تحسن الفصل بين التموضع السياسي من جهة واتخاذ موقف من ملف قانوني تحكمه ضوابط نصية من جهة أخرى.
الضبابية الفرنسيّة
في رأي أستاذة الحقوق في جامعة ليون 3 ماتيلد فيليب – غاي، كانت “الضبابية الفرنسية” لتجنّب التورط على نحو مجاني: “ليس هناك من زيارة مقررة لرئيس الوزراء الإسرائيلي بما يفرض على باريس اتخاذ موقف آني”. بعبارة أخرى، الدولة الفرنسية راوغت طالما لم يفرض البت بالمسألة.
غاي هي حقوقية متخصصة في القانون الجنائي الدولي وعلى وجه التحديد “المسؤولية الجنائية لقادة الدول”. في هذا الإطار، صدر لها كتاب في العام 2023 حمل عنوان “هل بالإمكان محاكمة بوتين؟”.
الحقوقية الفرنسية اعتبرت أن موقف الخارجية لن يغير من مسار الأمور: فرنسا أقرت نظام روما والقضاة الفرنسيون يُشهد لهم بالالتزام بالنصوص القانونية والمعاهدات الدولية. من جانب آخر، فرنسا عضو مؤسس في الاتحاد الأوروبي وما صدر عن جوزيب بوريل في هذا الخصوص لا يحتمل أي تأويل. وتوقفت غاي ملياً عند عبارة أخرى صدرت عن وزير الخارجية الفرنسي في معرض تناوله حصانة نتانياهو المفترضة، إذ ختم بارو كلامه بالقول: “الكلمة الفصل تعود للسلطة القضائية”.
بناء على هذه المعطيات، اعتبرت ماتيلد فيليب – غاي، في حديثها إلى موقع “درج”، أن بنيامين نتانياهو سيمتنع من تلقاء نفسه عن دخول الأراضي الفرنسية تجنباً للاعتقال والإحراج أو حتى منعاً لأي إهانة مفترضة قد يتعرض لها. بمعنى آخر، يدرك نتانياهو طبيعة النظام الفرنسي وآلية عمل مؤسساته التي لن توفر له أي حصانة مهما بلغ الدعم السياسي الذي يحظى به من جانب باريس.
على رغم ذلك، افترضت الحقوقية الفرنسية أن نتانياهو حط في فرنسا بشكل أو بآخر، كمرور طائرته في الأجواء الفرنسية واضطرارها للهبوط بسبب عطل تقني. في هذه الحال، سيبادر المدعي العام إلى طلب استصدار مذكرة اعتقال، على أن يبت في الأمر “قاضي الحريات والاعتقال”. وعند تصديق القاضي، تحال المذكرة إلى الشرطة الفرنسية لتنفيذها.
قد يخشى البعض من تدخلات سياسية تجهض هذا المسار، بخاصة وأن الشرطة تخضع لسلطة وزارة الداخلية، أي لجهة سياسية. لكن غاي ردت على تلك “الهواجس” موضحة لـ”درج” نقطة جوهرية: “فرنسا من الدول التي دمجت نظام روما في نصوصها الدستورية، ما يعني أن الشرطة الفرنسية أصبحت ملزمة ليس فقط باعتقال قادة الدول المطلوبين للمحكمة الجنائية الدولية، بل حتى باعتقال الرئيس الفرنسي نفسه في حال صدرت بحقه مذكرة اعتقال مشابهة”.
باختصار، لا تعير ماتيلد فيليب – غاي أي أهمية للموقف الفرنسي، إذ لا مفر من التزام باريس بواجباتها، بخاصة وأن إقرار الدول نظام روما لم يكن إلزامياً، بل طوعياً.
أما اللافت في هذه القضية هو “تلكؤ” الأحزاب الفرنسية الداعمة لإسرائيل في التصويب على المحكمة الجنائية الدولية والمزايدة على الحكومة. وعلى رغم صدور مواقف كهذا، لكنها كانت محدودة وافتقدت حملة إعلامية مكثّفة.
تلكؤ يشير إلى محورية سلطة القانون في الثقافة والممارسة السياسية الفرنسية: المكاسب التي كان يمكن تحقيقها في الداخل الفرنسي من خلال ملاقاة نتانياهو في استحضار دريفوس وادعاء التصدي لمعاداة السامية، لا تقارن بالخسائر الناتجة من التشكيك في العدالة الدولية التي لطالما نادت بها فرنسا. وعليه قررت الأحزاب تجنّب خوض هذه المعركة الخاسرة.
إقرأوا أيضاً: