تعدّدت الآراء لتفسير مواقف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حيال الوضع الفلسطيني، فبعد أسابيع من الانحياز المطلق إلى تل أبيب، خرج ماكرون على قناة BBC ليحثّ الجانب الإسرائيلي على “وقف القصف غير المبرر الذي يطاول المدنيين في غزة”.
أستاذ العلوم السياسية كريستيان لوكين وعبر صحيفة La Croix، لم يجد أي تناقض أو تحوّل في تصريحات ماكرون بل اعتبرها منسجمة مع الموقف الدبلوماسي الفرنسي المعهود الذي يعترف بـ “حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها”، بالتوازي مع “حق الفلسطينيين في إقامة دولة”. بحسب لوكين، مثلما كان صعباً على فرنسا التقاعس عن دعم إسرائيل بعد 7 تشرين الأول/ أكتوبر، لم يكن ممكناً التغاضي عن الصور التي تصلنا من غزة. موقف “وسطي” يصعب تسويقه على أرض الواقع نظراً الى طبيعة الصراع وحدته وفقاً للوكين.
الباحث في معهد العلاقات الدولية والاستراتيجية دافيد ريغوليه، اتفق مع لوكين بخصوص “الوسطية الفرنسية” لكنه ألمح، خلال مقابلة مع الصحيفة نفسه، الى أن ماكرون أجبر على تعديل موقفه بعدما بالغ في انحيازه إلى تل أبيب، لا سيما اقتراحه توسيع التحالف الدولي ضد “داعش” ليشمل “حماس”. في رأي ريغوليه، تكمن المشكلة في سوء إدارة الماكينة الإعلامية وإطلاق المواقف بصورة غير مدروسة: ذهاب باريس بعيداً في دعم إسرائيل، سيؤدي إلى سوء فهم عند عودتها إلى ثوابتها الدبلوماسية.
صحيفة Le Parisien أحالت إعادة التموضع الفرنسي إلى تقرير مشترك أرسله عدد من السفراء الفرنسيين في الشرق الأوسط، وكان أشبه بالإنذار الذي تلقفه الرئيس الفرنسي. السفراء أبدوا قلقهم من “أزمة ثقة” ناشئة بين فرنسا ودول الشرق الأوسط بسبب “الموقف الفرنسي غير المفهوم لافتقاده إلى الاعتدال المعهود”. المؤشر الأبرز إلى أزمة الثقة هذه والتي قد تصبح دائمة بحسب السفراء، عجزهم عن التواصل مع مراكز القرار في البلدان التي يعملون فيها.
مذكرة غير مسبوقة في الأوساط الدبلوماسية الفرنسية لكنها لم تكن مفاجئة لعدد من المتابعين. فيليب ريكار تطرق إلى هذه المسألة الأسبوع الماضي عبر صحيفة Le Monde، مضيفا أن جانباً من استياء الجهاز الدبلوماسي الفرنسي وإحباطه، لا سيما مديرية الشرق الأوسط وشمالي إفريقيا، يعود الى تهميشهم من الإليزيه وانفراد رئيس الجمهورية بالقرار على نحو يسيء إلى صورة فرنسا ويهدد أمنها. كما تناول ريكار الصراعات في أروقة الخارجية الفرنسية بين الممسكين بالملف الشرق أوسطي والتيار المنحاز الى التعاون الأطلسي.
ما ذُكر آنفاً بخصوص تهميش الخارجية الفرنسية وأجهزتها عن القرار، ينسجم مع ما يتردد حول “خصخصة السياسة الخارجية الفرنسية”، بمعنى تقليل الاعتماد على الدبلوماسيين لصالح مراكز الدراسات ومجامع التفكير (Think Thank).
هذا ما أكده الدبلوماسي الفرنسي المتقاعد والمتخصص في شؤون العالم العربي إيف أوبان، ففي مقابلة مع موقع Mediapart رأى أوبان أن ماكرون ينتهج “دبلوماسية من دون دبلوماسيين”، معبّراً عن “هلعه وحزنه وغضبه” مما يصدر عن المسؤولين الفرنسيين. برأيه، فقد الملف الفلسطيني – الإسرائيلي، تدريجياً، محوريته في السياسة الخارجية الفرنسية منذ عهد نيكولا ساركوزي، وذلك لحسابات انتخابية داخلية.
الخلاصة بحسب أوبان، هي غياب فرنسا عن الشرق الأوسط الى درجة أن ماكرون لم يأت على ذكر الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي في مؤتمر السفراء الفرنسيين في آب/ أغسطس الماضي. وعليه، لم يمتلك الرئيس الفرنسي الأدوات اللازمة لاتخاذ الموقف المناسب بعد 7 تشريم الأول/ أكتوبر لابتعاده عن هذا الملف ولعلاقته غير السلسة مع الخارجية، فكانت تصريحاته غير مدروسة ومرتجلة بدليل كلامه عن توسيع التحالف الدولي ضد “داعش”، اقتراح فارغ المضمون لم يطالب به الإسرائيليون أنفسهم.
إقرأوا أيضاً:
لا يخفي أوبان أسفه، إذ تمتلك الخارجية الفرنسية “خبرة استثنائية” في ما يخص الملف الفلسطيني – الإسرائيلي، لكن ماكرون لا يرغب في استشارة من يمكن أن يخالفه الرأي، لنشهد بذلك “دبلوماسية من دون دبلوماسيين”، وهي أقرب ما تكون إلى حملة دعائية غايتها لفت الأنظار ليس أكثر، أمر ليس بالغريب على ماكرون.
على خط مواز، أجمع كريستيان لوكين ودافيد ريغوليه على أن جانباً من هذا الموقف الفرنسي المستجد يعود الى اعتبارات داخلية متمثلة بالخشية من صراع داخلي في بلد يضم الجاليتين الإسلامية واليهودية الأكبر في أوروبا. ما يؤكد وجهة النظر هذه، لقاء في الإليزيه جمع، يوم الاثنين، ممثلين عن مؤسسات دينية مسيحية وإسلامية ويهودية بغرض تجنب “استيراد الصراع إلى الداخل الفرنسي”. أتى هذا اللقاء بعد مسيرة يوم الأحد الماضي، دعا إليها رئيس مجلس الشيوخ ورئيسة الجمعية الوطنية رفضاً لمعاداة السامية. وفقاً لأصحاب الدعوة، بلغت الاعتداءات على اليهود، من أفراد ومؤسسات، ضعف ما سُجل العام الماضي، والسبب هو انفجار الوضع في غزة.
بعيداً عن فرضيات المبالغة بالأرقام أو تسييسها، لم يخرج الوضع الأمني الفرنسي عن السيطرة، ما يشير إلى أن هذه الاعتداءات لا تزال في إطار الحوادث الفردية المتفرقة. لكن ما يمكن ملاحظته بشكل ملموس، هو المؤشرات إلى فرز سياسي داخلي جديد على خلفية مواقف الأحزاب من عملية طوفان الأقصى. نيكولا بايتوت اعتبر من خلال صحيفة L’opinion، أن ارتدادات “مجازر حماس” ستتعدى منطقة الشرق الأوسط لتبلغ فرنسا، متسائلاً عما إذا باتت حركة فرنسا الأبية (أبرز أحزاب اليسار الفرنسي) بعيدة عن “القوس الجمهوري” على عكس حزب التجمع الوطني (أبرز أحزاب اليمين المتطرف) الذي أصبح أكثر قبولاً في الداخل الفرنسي بعد دعمه المطلق للجانب الإسرائيلي.
حركة فرنسا الأبية أدانت عملية طوفان الأقصى لكن رفض قادتها، بمن فيهم مؤسسها ومرشحها السابق للانتخابات الرئاسية جان لوك ميلانشون، وصف “حماس” بالمنظمة الإرهابية واتخاذهم منذ اليوم الأول مواقف وسطية نوعاً ما، أشعل حرباً إعلامية وسياسية غير مسبوقة شاركت فيها غالبية الأحزاب السياسية بما فيها اليسارية: صحيفة Libération وعلى لسان أحد مؤسسيها، سيرج جولي، وصفت ميلانشون بالشيطان. حملة بلغت أوجها بعد رفض ميلانشون المشاركة في مسيرة يوم الأحد لعدم دعوتها إلى وقف إطلاق النار، مضيفاً أنه تحت ستار محاربة معاداة السامية ستوفر هذه المسيرة دعماً غير مشروط للمجازر الإسرائيلية. موقف دفع بالكثير من الصحف الى العودة إلى الأرشيف ونبش تصريحات سابقة لميلانشون اعتبرت معادية للسامية.
من على صفحات Marianne، اعتبر أدريان ماتو أن رفض حركة فرنسا الأبية وصف “حماس” بالمنظمة الإرهابية، يشكل امتداداً لمعاداة السامية هذه. ماتو أعاد التذكير “بمحورية معاداة السامية” وكونها معياراً أساسيا لتهميش القوى والشخصيات: كل من يدان بهذه التهمة يصبح “منبوذاً”، وأبرز دليل تصريحات جان ماري لوبان في العام 1987 حين وصف غرف الغاز في المعسكرات النازية “بالأمر التفصيلي في مسار الحرب العالمية الثانية”.
فإذا أخذنا بالاعتبار حجج أنصار ميلانشون، يجوز التساؤل عما إذا كانت الحملة لأغراض سياسية تسعى من خلالها الحكومة إلى إضعاف أبزر معارضيها اليساريين، فيما غاية الأحزاب اليسارية الأخرى (الحزب الاشتراكي، الحزب الشيوعي، حزب البيئة) زعزعة حركة فرنسا الأبية عن زعامة اليسار الفرنسي. بالتالي، لم تجد الأحزاب السياسية أفضل من تهمة “معاداة السامية” لتوجيه تلك “الضربة القاضية” لميلانشون.
يتردد في الأوساط الصحافية والسياسية الفرنسية، أن البلاد بحاجة دائمة إلى “شيطان”. طوال عقود، ارتدى جان ماري لوبان هذا الثوب، لا سيما بعد إدانته قضائياً بمعاداة السامية، لكن ابنته نجحت في أخذ مسافة من تاريخ حزبها ووالدها.
عند استلامها رئاسة الحزب في العام 2011، انتهجت لوبان ما عرف بسياسة “نزع الشيطنة” بعد إدراكها استحالة الوصول إلى الحكم من دون تبييض سجلها من تهم العنصرية. وعليه، يندرج إعلان حزب التجمع الوطني أنه “الحامي للفرنسيين ذوي الديانة اليهودية” بعد 7 تشرين الأول، ثم مشاركته في مسيرة مناهضة معاداة السامية، في سياق تلك الاستراتيجية الإعلامية كي يصبح أكثر قبولاً في الداخل الفرنسي كما على الساحة الدولية.
استراتيجية أتت بثمارها: فبنتيجة استطلاع للرأي أجراه معهد Elabe ونشر يوم الأربعاء، اتضح أن 57 في المئة من الفرنسيين يعتبرون مارين لوبان صادقة في معاداتها للسامية. لكن لوبان لم تنجح في محو هذه الصورة العنصرية المعادية للسامية على نحو كامل: الإعلام الفرنسي لم ينس بعد تصريحات لوبان، وفي أكثر من مناسبة طولب قادة الحزب ونوابه باتخاذ موقف من تلك التصريحات.
الكثير من الصحافيين استعادوا رفض لوبان إدانة تصريحات والدها، كما أشاروا إلى امتناع الحزب عن إجراء عملية نقد ذاتية وتكرار لوبان الابنة تمسّكها بتاريخ حزبها، ليخلصوا إلى أن حزب التجمع الوطني لا يزال عنصرياً ومعادياً للسامية، وكل مبادراته غرضها دعائي.
بالنظر إلى المكاسب السياسية التي تحققها لوبان من استراتيجية نزع الشيطنة وإبعاد تهمة معاداة السامية عن نفسها، يطرح سؤال عما إذا كان التصويب على ميلانشون بدافع الحاجة إلى شيطان جديد، ما يشير إلى استغلال قوى وشخصيات فرنسية الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي وتجييره لحسابات داخلية محضة.