يبدو أن الدول الكبرى المصدرة للأسلحة تساهم بطريقة أو بأخرى في صناعة الحروب والأزمات وتحفيز التوترات، لتستمرّ في بيع الأسلحة، من خلال خلق الحاجة المتواصلة إلى الكميات الضخمة التي تنتجها وتصدرها إلى بعض الأنظمة الملوثة بالفساد والاستبداد.
لهذا تعمد تلك الدول إلى تنشئة فزاعات تساهم في تغذية عمليات سباق التسلح ومزاداته، مستثمرة إشكالية المشروعية لدى الكثير من الأنظمة التي تلجأ للاستعاضة عنها برشاوى تقدمها إلى دول الهيمنة، مُهدرة موارد مجتمعاتها من خلال صفقات فاسدة هي مجرد قناع للثمن المدفوع والجبايات المفروضة لغضّ الطرف عن الاستحواذ على السلطة والاستبداد والإفساد.
بعد انقضاء ثلاث سنوات من الحرب في اليمن وهي حرب قامت على ادعاءات أبرزها مواجهة الدور الإيراني في اليمن، والتي تبدو الآن مجرد فزاعة، تُضخم، لإثارة هلع حكام السعودية والخليج، لضمان زيادة إدرارها كبقرة حلوب. هذا يساهم في التورط بالمزيد من الفواتير الخاصة بصفقات التسلح والحماية وأشكال الدعم الديبلوماسي والسياسي واللوجستي، في عملية استنزاف، لا يمكن أي دولة، مهما بلغت ثرواتها الطبيعية وغير الطبيعية، النجاة بمستقبلها من آثارها السلبية الكارثية.
وفي السياق يظهر للمتبع أن التصعيد الغربي المباشر مع إيران فقاعي وشكلي، منحصر في السجالات الإعلامية والديبلوماسية والسياسية كأدوات ناعمة، في حين اصطنعت للأدوات الخشنة لمواجهة إيران مساحات الحرب بالوكالة، مثل اليمن وسوريا، حيث تدفع هذه البلدان كلفاً باهظة للصراعات العبثية، المرتبطة بحسابات مصالح الدول المصدرة للسلاح، المستثمرة في المآسي والحروب، لكأن تقنيات وتكنلوجيا هذه الدول الحديثة لا تعرف موقع إيران على الخريطة، لتطاول ويلات حروبها العبثية مجتمعات أخرى.
وفي الصراع مع إيران في اليمن من خلال السعودية ومن خلفها الغرب، يمكن القول ببساطة: مثل الدور الإيراني في اليمن مثل فأر دخل بناية مكتظة بالسكان، نغص حياتهم، وأثار قلقهم وفزعهم على أشيائهم وأثاثهم، ومثل الدور السعودي ومن خلفه أميركا وحلفاؤها الغربيون بالمقابل مثل جار هاجم البناية السكنية ذاتها ودمرها على رؤوس ساكنيها بزعم مساعدة السكان بتخليصهم من الفأر، وفي نهاية المطاف لا التخلص من الفأر المزعج تم، ولا نجا سكان البناية من الدمار والقتل.
من قاعدة عسكرية على مشارف واشنطن، في 14 ديسمبر/ أيلول 2017،أطلت نيكي هيلي، ممثلة الولايات المتحدة الأميركية في مجلس الأمن الدولي، بطريقة هوليودية، لعرض بقايا أحد الصواريخ التي أطلقها الحوثيون على العاصمة السعودية الرياض في 4 نوفمبر/ تشرين الثاني 2017، كدليل خطير على الدور الإيراني في دعم المتمردين الحوثيين، وتزويدهم بالسلاح الذي يستهدفون به المدن السعودية. كان مشهداً يُذكر بإطلالات توني بلير، رئيس الوزراء البريطاني الأسبق، وجورج بوش، الإبن، الرئيس الأمريكي الأسبق، قبيل اجتياح العراق، التي كانت الفزاعة الأكبر وقتذاك، وهم يقنعون العالم بما لديهم من أدلة على أسلحة الدمار الشامل التي يمتلكها العراق، لتندلع الحرب، ويتم اجتياح العراق ويمر الشهر تلو الآخر والعام بعد العام والادعاءات التي قامت على أساسها الحرب بلا دليل أو قرينة، بل تظهر معلومات وتسريبات غربية تكشف زيف تلك الادعاءات وعدم وجود أساس لها!
في 26 مارس/ آذار 2018، ظهر إدوين سموئيل، المتحدث باسم وزارة الخارجية البريطانية، متأبطاً القانون الدولي الإنساني، وملوحاً بحق المدنيين في الحماية والسلامة والأمان، محذراً من خطورة الهجمات على المدن المأهولة بمئات آلاف السكان، وحقهم في النوم بأمان، ومنذراً بأخطار الدور الإيراني، في سياق تنديده بالصواريخ التي أطلقتها جماعة الحوثيين على المدن السعودية في ذكرى مرور ثلاث سنوات على اندلاع الحرب، وهو موقف جيد وصحيح، غير أن المسؤول البريطاني الرفيع، وحكومته، التزموا الصمت، في تواطؤ واضح مع الحلفاء المدللين، طيلة ثلاث سنوات، بينما كانت مقاتلات التحالف الذي تقوده السعودية والإمارات تمطر المدن اليمنية بكميات ضخمة من الأسلحة التي صُنعت الكثير منها في المملكة المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية، قتلت وجرحت تلك الهجمات آلاف المدنيين اليمنيين، ودمرت عشرات من الأعيان المدنية والبنية التحتية، في خروقات جسيمة للقانون الدولي الإنساني.
إن سلوك الإدارات الأمريكية والبريطانية والفرنسية وغيرها من الدول المصنعة للسلاح، في التعامل مع الأزمات والصراعات، مثل، اليمن، سوريا، ليبيا، في نسختها الأحدث، أو في نسختها الأقدم مثل، العراق وأفغانستان، يكشف الصورة الحالية لعدد من دول العالم الأول، التي تتغذى اقتصادياتها على الحرب والصراعات، التي تطحن وتستنزف مجتمعات أخرى. إنها حقيقة تناقض ادعاءات تلك الدول بشأن ريادتها لمسيرة العالم نحو العدالة والسلام وحقوق الإنسان والديموقراطية.
كشفت حرب اليمن الصورة الحقيقية لعالم اليوم ونظامه الجديد، ومن يهيمنون عليه ويحركون دفته، حيث تسود نقائض التراكم الإنساني الخلاق، المتمثلة بعالمية قيم حقوق الإنسان والعدالة والتعايش والسلام، وتطغى ازدواجية المعايير واستثمار مآسي المجتمعات والعمل على ضمان ديمومتها كمصدر ثراء، لكأنه لا يمكن لهذه المجتمعات أن تعيش مزدهرة وآمنة إلا على حساب حياة وأمن مجتمعات أخرى.
خلال السنوات الأخيرة أبرمت السعودية صفقات أسلحة هي الأعلى في التاريخ، ومن التكاليف المعلنة لتلك الصفقات، يمكن التصور أن مجتمع السعودية يستهلك هذه الأسلحة في حياته اليومية أكثر مما يستهلك من المأكولات والمشروبات والإحتياجات الطبيعية اليومية، وأنه لا حاجات حياتية له من المجتمع الغربي ومنتجاته الحديثة غير الأسلحة.
عبّر دونالد ترامب بصفاقة، غير مرة، وبلغة تفتقر للديبلوماسية، سواء خلال حملته الانتخابية، أو بعد تسلمه الرئاسة، عن شهيته المفتوحة لثروات الخليج، وكشف عن غزواته وفتوحاته المالية في خزائن المملكة السعودية، وإبان كل لقاء مع قيادة السلطة السعودية في واشنطن والرياض، لا شيء أبرز، في أحاديث ترامب، من بشاراته عن ما يجنيه من هذه الدولة الثرية لمصلحة خزينة الولايات المتحدة الأميركية واقتصادها، من خلال صفقات الأسلحة وغيرها من الجبايات والرشوات المقنعة بالعقود والصفقات واتفاقيات التعاون المشترك.
هل يمكن أن يقودنا الإحباط في نهاية المطاف، من هذا كله، إلى خلاصة مفادها: أن دولاً كبيرة مثل الولايات المتحدة الأميركية والمملكة المتحدة وفرنسا، المستفيد الأكبر من صراعات المنطقة وأزماتها، مجرد حمولة ضخمة للسوق العالمية السوداء للأسلحة وصناعتها وتجارتها، تعمل من دون رقيب أو حسيب مجتمعي داخلي أو خارجي يستطيع التأثير في عملياتها وترشيدها؟ بلا قانون؟ بلا مواثيق دولية؟ من دون أي محددات أخلاقية أو إنسانية؟
يبدو أن علاقات هذه الدول بالعالم، تحالفاتها، صداقاتها، خصوماتها، مواقفها، تحتكم إلى محددات تجارة السلاح، كمحددات أساسية، ومرد صراعاتها مع دول بعينها، التنافسية للاستحواذ على هذا السوق وعائداته، وليس قيم الديموقراطية والحقوق والعدالة والتدافع الحضاري، وحماية أمن وسلام العالم، كادعاءات معلنة.
بحسب أنبوب الاختبار اليمني- السعودي، وفحص تعامل حكومات هذه الدول معه، من المستحيل على تلك الدول النجاة من عبثها بالبارود في المستقبل، مهما بدت ميادين اللعب المُنتخبة بعيدة من حدودها جغرافياً في الوقت الراهن.