الجدار المنهار في جسم سد زيزون منذ العام 2002، ولم يتم إصلاحه منذ ذلك الوقت
لم تعد تجد عائلة، عمر الحميد، هناء في العيش في القرية بعد عدة خسارات لحقت بهم خلال السنوات الماضية، بسبب المردود الهزيل لمحصول القمح في منطقة سهل الغاب غربي حماة، بعد إذ كانت الأرض تشكل للعائلة مصدر للعيش الرغيد، لكن جفاف السدود وانقطاع سُبل الري قطع أسباب الرغد.
يعمل عمر الحميد، منذ 50 يوماً، كـ”عامل مياومة” في البناء بمنطقة المخيمات على الحدود السورية التركية بأجر لا يتعدى يومياً دولارين ونصف، بعد أن كان مدخول محصوله السنوي قبل جفاف السدود بمنطقة سهل الغاب يتعدى الـ 11 ألف دولار، إذ كان يزرع محاصيل متتابعة خلال العام، بيد أن سياسة نظام الأسد الفاشلة بالأمن المائي حولت أرض عمر وجيرانه من جنة خضراء إلى بقعة صحراوية تخلو من مياه الري.
عودة التصحر
تُعد منطقة سهل الغاب من المساحات الزراعية الاستراتيجية في سوريا، وكانت تحتل المرتبة الثالثة في تصنيف السلل الزراعية لسوريا بعد سهول الحسكة وحوران. تستفيد منطقة سهل الغاب من مرور نهر العاصي من منتصف سهلها الزراعي المنبسط على أكثر من 90 ألف هكتار زراعي، هي مساحة غنية بالخضار الموسمية والمبكرة والتبغ والقطن والشمندر السكري ومحاصيل أخرى وفرت للسكان حياة مستقرة قبل انفجار سد زيزون في العام 2002، لتبدأ حينها مراحل الهجرة الأولى للمزارعين عن حقولهم.
شهد عام 2002 انفجار سد زيزون (70 مليون متر مكعب) بعد خمسة أعوام من بدء استخدامه، ما شكّل منعطفاً هاماً بتاريخ الزراعة والعائد الاقتصادي للمزارعين، لما رافقه من تقنيات ري واتساع الأراضي المروية من خلاله، بالاعتماد على شبكات وترع أوصلت مياه الري لأكثر من 45000 هكتار.
عمل المزارعون خلال الأعوام الخمس على زراعة أراضيهم بصورة متلاحقة على مدار العام، والاستفادة من مردودها بأعمال مختلفة، لكن ما لبثت الفرحة أن انتهت خلال خمس سنوات، جراء انفجار السد بعد ضخ مياه زائدة على طاقته التخزينية، بإشراف مؤسسة حوض العاصي التابعة لوزارة الزراعة والري في حكومة النظام، بحسب المهندس الزراعي عبدالجبار العبيد.
تسبب انفجار سد زيزون في مطلع حزيران/يونيو 2002 بمقتل 22 مدنياً يعملون بالزراعة ورعي الأغنام، وتدمير عدة قرى كانت متموضعة بالقرب من السد، إضافة لنفوق آلاف رؤوس الحيوانات من الأغنام والأبقار، بالتزامن مع غرق المزروعات جميعها على رقعة زراعية تقدر بحوالي 32 ألف هكتار وتلفها بالكامل، بحسب المزارع صدام الموسى، إذ لم يقتل انفجار سد زيزون 22 مدنياً فقط، بل قتل أحلام ومعيشة أكثر من 80 ألف نسمة كانت تعتمد على الزراعة في معيشتها.
هجرة وسط غياب الحلول
يقول المزارع صدام الموسى أن ملامح الهجرة عن الأراضي الزراعية في منطقة سهل الغاب بدأت بعد انفجار سد زيزون بعامين، خاصة عندما أدرك المزارعون غياب أي جهود من قبل الحكومة حينها لإصلاح السد وإعادة تشغيله، لتعود الأراضي على سابق عهدها لا يمكن زراعتها إلا بموسم واحد خلال العام.
يضيف الموسى “بسبب عدم توفر مياه الري بات القمح هو الحل الأمثل للزراعة حينها، لكنه لا يوفر بمفرده العيش الكريم للسكان الذين سافر الكثيرون منهم إلى لبنان ودمشق للعمل بالمياومة، وتركوا أراضيهم التي لم تعد تعطي ما يكفيهم، وتحولت من حقول غناء إلى أراضي جرداء في الصيف تتخللها التشققات”.
سيطرة الجفاف على أراضي منطقة سهل الغاب
لم تعمل حكومة النظام على إصلاح سد زيزون وإعادته للعمل، واكتفت على مدى 13 عاماً على نقل بعض سيارات البحص والتراب لمكان انفجار السد أو بما يعرف الفتحة في جسم السد بحسب المهندس الزراعي ياسر الطالب، حيث أعطت حكومة الأسد تعهد إعادة السد للخدمة لشركة ريما (الشركة العامة للري ومياه الشرب)، التي كانت مشرفة على إنشاء السد في دوره الأول، كانت تلك الفترة كفيلة بانتشار التصحر وسط أراضي سهل الغاب التي لم تعد تصلها مياه الري، وغلب عليها الافتقار للمعادن والفلزات والعطش المتزايد؛ بسبب تغير المناخ خلال السنوات الأخيرة.
عملت حكومة النظام خلال السنوات التي تلت انفجار سد زيزون على رفع أسعار المحروقات خاصة الديزل، والذي كان يستخدمه المزارعون لتشغيل الآبار الارتوازية وضخ المياه من نهر العاصي، لسقاية ما تبقى من أراضي يمكن العمل على زراعتها والاعتناء بها بحسب المزارع نور الدين الابراهيم.
يضيف الابراهيم “لم تكتفي حكومة النظام بالابتعاد عن إعادة العمل لسد زيزون الذي كان شريان حياة للمزارعين والأراضي، بل عملت على رفع سعر المازوت في العام 2006 من 7 ليرات سوريا حينها إلى 25 ليرة دفعة واحدة بما يعادل نصف دولار؛ مما أثر على ري المزروعات وإنتاجيتها”.
السرقة أنتجت الجفاف
اتسعت الرقعة الصحراوية في منطقة سهل الغاب بعد عام 2013 إذ شهدت تمركز قوات النظام في حربها المفتوحة على السوريين في محطة ضخ حوض العاصي، المستخدمة لضخ مياه الري من نهر العاصي إلى سد قسطون (28 مليون متر مكعب) وما رافقها من أعمال نهب طالت التجهيزات والآلات المشغلة لمحطة الضخ وبيعها لتجار متنفذين في المنطقة.
يقول أحد العاملين في المحطة، والذي رفض ذكر اسمه لأسباب أمنية “مع حلول شهر تموز/ يوليو 2023 طلبت منا قوات النظام المتمركزة في محطة ضخ حوض العاصي بالتوقف عن العمل بالمحطة، وقطع الدوام اليومي فيها، وفي آخر يوم شاهدت أشخاصاً يفكون بعض التجهيزات من المحطة ثم أخرجوها من السور بسيارات بيكاب رباعية الدفع والتوجه بها نحو طريق اللاذقية.”
ومثل سد زيزون كان سد قسطون مسؤولاً عن ري أكثر من 20 ألف هكتار، وتنويع الزراعات ضمنها، وتوفير اقتصاد قوي للسكان ورقعة خضراء للمنطقة، ومراعي شاسعة للحيوانات، غابت كلها بسبب توقف ضخ المياه للسد الذي لم يعد يحوي اليوم على كمية تعادل 300 ألف هكتار، كونه يعتمد على نبعة مياه منحدرة من سفح جبل الزاوية القريب.
سد قسطون في العام 2021 وكمية المياه القليلة بسبب توقف الضخ من نهر العاصي
يقول راعي الأغنام، أنور الياسين، إنه باع قسماً كبيراً من الأغنام التي يمتلكها إثر شح مصادر المياه في منطقة سهل الغاب بعد العام 2015، وافتقار الترع للمياه التي كانت تروي عطش الأغنام، بيد أن الأعوام التي تلت توقف ضخ المياه عن سد قسطون أدت إلى عطش قطيعه وقطعان أخرى بالمنطقة وجفاف العديد من خزانات المياه.
بحسب تاجر الخضار يحيى السلوم، سجلت السنوات العشر الأخيرة تناقصاً كبيراً بشحنات الخضار الخارجة من منطقة سهل الغاب، المعروف بتأمين أنواع من الخضار مثل الخيار والبندورة والفاصولياء والكوسا، والتي كانت تصل لأسواق محافظات حلب وحمص.
أدى أيضاً ارتفاع تكاليف تأمين مياه الري أجبر المزارعين على زراعة القمح والشعير وترك زراعة الخضار، وحتى القمح لم يعد يعطي إنتاجية جيدة بسبب زراعته بكل سنة وبشكل متكرر، ما أدى إلى افتقار التربة لخصوبتها، حيث كان الدونم الواحد ينتج 500 كيلوغرام وخلال السنوات الأخيرة لم يعد يعطي 230 كيلوغراماً وهذا أثر على اقتصاد ومعيشة السكان وارتفاع مستوى الفقر.
يذكر جاسم الحسن (82 عاماً)، أن درجة الحرارة بمنطقة سهل الغاب كانت مختلفة تماما قبل 20 سنة عن اليوم، إذ كانت المساحات الزراعية المحيطة بنا تزرع بالمحاصيل الخضراء مثل القطن والشمندر السكري والخضار، والتي تحتاج دائما لمياه ري، وتعطي هواء عليلاً وروائح منعشة، وتسهم بخفض درجات الحرارة.
يضيف الحسن “كان منزلي محاطاً بمزروعات متعددة في فصل الصيف بعكس الحال اليوم أصبحت الأراضي حول منزلي قاحلة ومصدر للغبار، والهواء يمر بها، ويصل لمنزلنا حاراً، وهذا ينطبق على السكان كلهم بمنطقة سهل الغاب الذين فقدوا مياه الري والزراعة”.
يقول الحسن أن أكثر ما “يدمي القلب” هو مرور نهر العاصي من منتصف سهل الغاب واحتوائه على كميات مياه ضخمة خاصة في الشتاء، دون الاستفادة منها بسبب توقف الضخ باتجاه السدود من جهة، وسيطرة لنظام الأسد على النهر واستهداف كل شخص يقترب منه من جهة ثانية، كما حصل حين قُتل صيادو الأسماك في العام 2021 .
مرور المياه في نهر العاصي من وسط منطقة سهل الغاب دون الاستفادة منها تاريخ الصورة يعود لصيف العام 2020
مستقبل مُفزع
أوضحت دراسات عديدة أُجريت بين عامي 2000 و2010 أن الحكومة السورية فشلت في إدارة الطلب المتزايد على المياه، في ظل ما تعانيه البلاد من تغير المناخ وتكرر الجفاف.
تشكل المياه أحد أهم مقومات استمرارية الحياة والمورد الأكثر تأثيراً في حياة السكان في جميع مناطق سورية، إلا أنه ومنذ بداية عام 2011 بدأت تبرز قضية المياه كإحدى أهم التحديات المرتبطة بالمعاناة الإنسانية للسكان المدنيين.
استخدمت أطراف الصراع المياه كوسيلة لتحقيق مكاسب سياسية وعسكرية واقتصادية، كما أصبح هذا المورد متلازماً إلى حد كبير مع تغيرات السيطرة العسكرية ومناطق النفوذ لهذه الأطراف، مما أثر بشكل حاد على توافر المياه في غالبية المدن والأرياف السورية نتيجة لتدهور البنية التحتية للمياه وفقدان وتضرر أكثر من نصف القدرة على الإنتاج الكلي للمياه، وقد حمل هذا الوضع الجديد العديد من التداعيات السلبية على الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي للسكان داخل المدن والأرياف.
يرى الخبير الاقتصادي عبد الغني المازن إن سوريا كانت من الدول المصدرة للقمح قبل العام 2011، لكن بسبب حرب النظام على السكان وتدمير البنية الزراعية والمائية واستخدامه لسلاح المياه ضد السكان، وقتله للمزارعين وإجبارهم على ترك أراضيهم تحولت سوريا اليوم إلى مستورد كبير للقمح، الأمر الذي أدى إلى ارتفاع أسعار الخبز إلى مستويات قياسية في مشهد لا يبدو له نهاية قريبة مع استمرار سياسات السيطرة المختلفة، وغياب الحكومة الواحدة لجميع الجغرافية السورية.