لو كنت مواطناً سويسرياً لشعرت بالذنب حيال مئات الآلاف من الضحايا في العالم، لا سيما بعد نشر “تسريبات سويسرية”، فبنك “كريدي سويس” تولى إدارة ثروات فاسدين ورؤساء أجهزة مخابرات في دول ديكتاتورية، وأخفى حسابات أبناء النخب الحاكمة في دول جرى نهب ثرواتها وإفقار شعوبها. و”كريدي سويس” فعل ذلك مستفيداً من قانون السرية المصرفية في سويسرا، وهو القانون الذي يواصل حماية أشرار العالم ولصوصه وفاسديه. والمسؤولية عن اشتغال هذا القانون على نحو ما يشتغل الآن يتحملها الناخب السويسري مثلما يتحملها النظام المصرفي والسياسي في تلك الديموقراطية الأوروبية التي ينعم مواطنوها بأحد أعلى مستويات الدخل في العالم!
علماً أن التسريبات هي غيض من فيض ما تختزنه المصارف السويسرية من أسرار، ولنا في لبنان ظلامتنا التي لم تشملها التسريبات، إذ إن تلك السرية تحمي بدورها من نهب مدخرات أكثر من مليون مودع لبناني، والتي تبلغ قيمتها أكثر من مئة مليار دولار، للسوريين منهم حصة وازنة وكذلك للعراقيين.
نعم يجب أن تكون تحقيقات “تسريبات سويسرية” مناسبة للنظر بالسرية المصرفية في كونفدرالية الرخاء الأوروبية، وهو نقاش نحن معنيون به كما المواطن السويسري. ثروات جمال مبارك وعمر سليمان وهشام طلعت مصطفى هي شأن مصري، وثروة سعد خير هي شأن أردني وثروة عبد العزيز بوتفليقة هي شأن جزائري. والثروات التي ما زالت مخفية ولم تشملها التسريبات لا تقل فداحة، فنحن في أمس الحاجة للكشف عن ثروات رياض سلامة ونبيه بري وجبران باسيل، وكل هؤلاء تحميهم السرية المصرفية السويسرية.
والمواطن السويسري يجب أن يباشر القلق ليس لأن مصارف بلده تحمي ثروات الفاسدين في العالم وحسب، إنما أيضاً لأنها تدير التحويلات المالية التي تتولى تمويل عمليات اضطهاد واسعة أقدمت عليها أجهزة المخابرات في العالم. فقد كشفت التسريبات أن التحويلات التي شملت أرصدة رؤساء أجهزة المخابرات في الأردن وفي اليمن وفي باكستان وفي مصر، كانت تهدف لتمويل برنامج “التسليم” الذي أدارته الـ”سي آي أيه”، والذي يعفيها من خرق القانون الأميركي خلال عمليات التحقيق مع مطلوبين، وإحالة هؤلاء المطلوبين إلى سجون في دول لا تخضع التحقيقات فيها لضوابط قانونية. ولنا أن نتخيل هنا عمليات التعذيب وانتزاع الاعترافات التي شهدتها السجون في هذه الدول. نظام السرية المصرفية في سويسرا ليس بريئاً، وهو حلقة من حلقات هذا التعسف، على رغم ما ينعم به المواطن السويسري من حرية ومن قوانين تحميه من التعسف. علماً أن اللجوء إلى برنامج “التسليم” أفضى إلى اعترافات كشفت الأيام زيفها، وأفضت إلى أخطاء هائلة في استراتيجية “الحرب على الإرهاب”.
نعم يجب أن تكون تحقيقات “تسريبات سويسرية” مناسبة للنظر بالسرية المصرفية في كونفدرالية الرخاء الأوروبية.
والحال أن الغضب الذي يمكن أن يصيب مواطناً في دولة شملتها التسريبات جراء ذهوله من الحماية التي تمتع بها حاكم فاسد ومستبد في بلده، بفعل السرية المصرفية، سيعلي من شأن الخطاب الشعبوي الداعي لاعتبار أن العالم محكوم من قبل الأشرار، وأن ثمة رعاية وحماية يتمتع بها الفاسدون في بلادنا. فهل من المنطقي أن تباشر ست دول إجراءات التحقيق مع حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، وأن يبقى الأخير محمياً بالسرية المصرفية؟ وهل من العادل أن تكون ثروات عائلة حسني مبارك مشمولة بحماية ذلك القانون؟ ولماذا سمح “كريديه سويس” لنفسه بأن يفتح حسابات لرؤساء أجهزة مخابرات في دول تمارس فيها هذه الأجهزة شتى أنواع انتهاكات حقوق الإنسان؟ نحن الآن لا نتحدث عن تخمينات ولا عن توقعات، بل عن أرقام وعن وقائع موثقة، وعن أرصدة بأسماء أصحابها.
“وثائق بنما” فرضت على الاتحاد الأوروبي استحداث قوانين الشفافية في تسجيل الشركات وهو ما أتاح رصد وتعقب ثروات وعقارات وشركات لشخصيات فاسدة في الدول غير الديموقراطية. “تسريبات سويسرية” يجب أن تفضي إلى نقاش وضغط لإعادة النظر بالسرية المصرفية السويسرية. هذه السرية هي أحد أمراض العالم، وعلاج هذا المرض سيفضي حتماً إلى عالم أفضل.
إقرأوا أيضاً: