fbpx
ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

فيكتور أوربان أمير الظلام الأوروبي

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

يتقدم رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان لاحتلال موقع المُنظّر والمنفّذ لعملية الطلاق بين الديموقراطية وبين الليبرالية بعد اقتران دام أكثر من سبعة عقود.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

يتقدم رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان لاحتلال موقع المُنظّر والمنفّذ لعملية الطلاق بين الديموقراطية وبين الليبرالية بعد اقتران دام أكثر من سبعة عقود. يتشارك أوربان الذي عزز سلطاته في الانتخابات التشريعية في نيسان (ابريل) الماضي، في مساره السياسي مع شخصيات مثل الفرنسية مارين لوبان ومع الزعيمين الفعليين للحكومة الايطالية الجديدة  (ماتيو سالفيني ولويجي دي مايو)، يساندهم من وراء المحيط الأطلسي أشخاص مثل ستيف بانون ودعاة “مناهضة المؤسسة” الذين يتداخلون في مكان ما مع “اليمين البديل”، اللمامة التي تجمع النازيين الجدد وأنصار التفوق العرقي الأبيض وأشباههم.

انتصار أوربان الأخير مقلق للأوروبيين ولغيرهم لأنه قد يكون المسؤول الابرز في “عقلنة” تفكيك الليبرالية والديموقراطية التي ساد الاعتقاد انهما لم تعودا قابلتين للانفصال. فقد سجلت نهاية الحرب العالمية الثانية، خاتمة الصراع الذي امتد قرناً بين مكونين أساسيين في الفكر والممارسة السياسيين الاوروبيين والغربيين عموما: الديموقراطية والليبرالية. أطياف وتنويعات كل من المكونين عمّت المشهد الأوروبي الذي ظل على اضطرابه منذ ظهور الآثار الهائلة للثورة الصناعية والتراكم الكبير لرأس المال أواسط القرن التاسع عشر. دفعت الآثار هذه مقولات الحرية الى اقصاها فقُدمت كحل لكل معضلة على نحو اطاح بالأسس التي قامت عليها هي ذاتها. قضت حرية رأس المال على الحريات الفردية والعامة ودمرت المسؤولية الاجتماعية بذريعة اولوية المسؤولية الفردية. لقد حملت عن حق “نقيضها في داخلها”: النيوليبرالية، التي لا تعترف إلا بحرية السوق على حساب باقي الحريات.

تطلّب الديموقراطية، في المقابل، انتهى إلى بدعة “الديموقراطية الشعبية” التي عاشتها أوروبا الشرقية بين الأربعينات والتسعينات من القرن الماضي: ما دام “الشعب” يحكم من خلال طليعته الثورية (الحزب الحاكم) فالديموقراطية بخير ومصانة. النقيض الداخلي، الديكتاتورية الحزبية، قضى هنا أيضا على الديموقراطية وقدرتها على تحمل التنوع والتعدد وصيانتهما.

الديموقراطية الليبرالية كانت التسوية التاريخية التي انتهت إليها صراعات على ساحات الصراع الكبيرة بين هذين المكونين، في عالم ما قبل الحرب العالمية الثانية، ألمانيا وبريطانيا وفرنسا. الحريات العامة والخاصة والتعدد وحقوق الأقليات السياسية والاثنية (من هنا ظهر النظام النسبي في الانتخابات) وحرية السوق وتوازن السلطات ورقابتها على بعضها، ينبغي أن تسير كلها جنباً الى جنب من دون طغيان واحدة على أخرى.

لفترة وجيزة في تسعينات القرن الماضي، بدا أن هذه التسوية هي آخر من سيصل الانسان اليه على صعيد تدبر اجتماعه السياسي وإدارته للاختلافات التكوينية الكامنة فيه. أزمات بداية الالفية الجديدة والظواهر المرافقة لها، اعادت طرح هذه المقولة على النقاش. إذ كيف يمكن التفاهم مع الإرهاب، بغض النظر عن مسببات نشوء الظاهرة وخلفياتها؟ كيف يمكن التعامل مع الذعر المرافق لتضاؤل أعداد الأوروبيين الأصليين في بلدانهم وما يوازيه من تصاعد لنسب المهاجرين؟ لماذا يجب على المجتمعات الغربية التسامح مع المهاجرين ومع ثقافاتهم في وقت تمرّ هي بأزمة هوية؟ كيف يمكن الحفاظ على التقديمات الاجتماعية في ظل اقتصاد مهدد في كل لحظة بأزمة اقتصادية خانقة من صنف ما وقع في 2008؟

ما يبدو كبداهات عند رصف الاسئلة هذه لصق بعضها، يكفي لصوغ خط سياسي يتبنى الانعزال والانعتاق من كل ما ترتبه المسؤوليات الدولية والجماعية. من هنا تأتي شعارات من مثل الشعار الترامبي “أميركا أولا” الذي يفضي تطبيقه الى الانسحاب من اتفاق باريس بشأن البيئة. ومن هنا تصعد نزعات طرد الاجانب والهجمات عليهم…

لكن أوربان ورفاقه يعرفون أين يقفون وما هي الحدود التي لا يتجاوزونها. فالانتخابات، بجميع مستوياتها، باقية ومنتظمة في المجر وستبقى كذلك في كل مكان ينتصر فيه مؤيدو “الديموقراطية غير الليبرالية” بحسب المصطلح الذي يستخدمه رئيس الوزراء المجري.

فالانتخابات، كما لا يخفى على اعتى الديكتاتوريين والحكام الاستبداديين التسلطيين، توفر جملة من الفوائد للسلطة، ليس اقلها إضفاء الشرعية الشعبية عليها واستخدامها كأداة للمقايضة حيث تقدم السلطة الخدمات مقابل الأصوات والتأييد الشعبي. بذلك تلغي السلطة الوظيفة الأعمق للانتخابات كرقابة دورية للناخبين على أدائها بين استحقاقين انتخابيين وتتحول المناسبة الى بازار لتبادل “السلع”: التخلي عن الحرية مقابل فتات التقديمات.

ويسير التفريق بين الليبرالية والديموقراطية على طريق تعرية السلطة من كل مهمة يفترض ان تقوم بها وتردها الى سيرتها “الطبيعية” الاولى، جهاز للسيطرة القسرية لا يتردد في اللجوء الى العنف والقمع ويخلو من أي معنى اجتماعي ومتخفف من كل رقابة ومن كل الضوابط التي راكمتها الليبرالية الديموقراطية على اجهزة السلطة. هكذا يمكن فهم الانزعاج اليميني المتطرف الدائم من الاتحاد الأوروبي،  ليس بسبب بيروقراطيته العمياء وغير المنتخبة في بروكسل ولا لتدخله في الاقتصاد الوطني وفرضه سياسيات متسامحة مع المهاجرين فحسب، بل ايضا وخصوصا لتشكيله أداة ضبط من وراء الحدود لا تخضع لحسابات الربح والخسارة الانتخابية المحلية.

والديموقراطية غير الليبرالية بهذا السياق، ليست انتفاضة على تغول الليبرالية وانقلابها نيوليبرالية تعلي من شأن قيم السوق على الحريات، بل هي في واقع الامر، تهرب من الضمانات التي توفرها الدولة للمجتمع نحو انفلات كامل لاجهزة السلطة على نحو تشكل المجر عينة عنه حيث فككت وسائل الاعلام المستقلة وخرجت الزبائنية والفساد الى نور الشمس، فيما يسدل الظلام ستره على قيم لم يقيد لها ان تعمر طويلا في المجر التي قد تمثل مختبرا لمستقبل اوروبا.

في المؤتمر الاخير للجبهة الوطنية الفرنسية اليمينية المتطرفة، اعلن الضيف الاميركي ستيف بانون “إن التاريخ الى جانبنا”. لم يكن ينطق عن هوى، لكن ربما المعركة لم تُحسم بعد.

 

13.06.2018
زمن القراءة: 4 minutes

يتقدم رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان لاحتلال موقع المُنظّر والمنفّذ لعملية الطلاق بين الديموقراطية وبين الليبرالية بعد اقتران دام أكثر من سبعة عقود.

يتقدم رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان لاحتلال موقع المُنظّر والمنفّذ لعملية الطلاق بين الديموقراطية وبين الليبرالية بعد اقتران دام أكثر من سبعة عقود. يتشارك أوربان الذي عزز سلطاته في الانتخابات التشريعية في نيسان (ابريل) الماضي، في مساره السياسي مع شخصيات مثل الفرنسية مارين لوبان ومع الزعيمين الفعليين للحكومة الايطالية الجديدة  (ماتيو سالفيني ولويجي دي مايو)، يساندهم من وراء المحيط الأطلسي أشخاص مثل ستيف بانون ودعاة “مناهضة المؤسسة” الذين يتداخلون في مكان ما مع “اليمين البديل”، اللمامة التي تجمع النازيين الجدد وأنصار التفوق العرقي الأبيض وأشباههم.

انتصار أوربان الأخير مقلق للأوروبيين ولغيرهم لأنه قد يكون المسؤول الابرز في “عقلنة” تفكيك الليبرالية والديموقراطية التي ساد الاعتقاد انهما لم تعودا قابلتين للانفصال. فقد سجلت نهاية الحرب العالمية الثانية، خاتمة الصراع الذي امتد قرناً بين مكونين أساسيين في الفكر والممارسة السياسيين الاوروبيين والغربيين عموما: الديموقراطية والليبرالية. أطياف وتنويعات كل من المكونين عمّت المشهد الأوروبي الذي ظل على اضطرابه منذ ظهور الآثار الهائلة للثورة الصناعية والتراكم الكبير لرأس المال أواسط القرن التاسع عشر. دفعت الآثار هذه مقولات الحرية الى اقصاها فقُدمت كحل لكل معضلة على نحو اطاح بالأسس التي قامت عليها هي ذاتها. قضت حرية رأس المال على الحريات الفردية والعامة ودمرت المسؤولية الاجتماعية بذريعة اولوية المسؤولية الفردية. لقد حملت عن حق “نقيضها في داخلها”: النيوليبرالية، التي لا تعترف إلا بحرية السوق على حساب باقي الحريات.

تطلّب الديموقراطية، في المقابل، انتهى إلى بدعة “الديموقراطية الشعبية” التي عاشتها أوروبا الشرقية بين الأربعينات والتسعينات من القرن الماضي: ما دام “الشعب” يحكم من خلال طليعته الثورية (الحزب الحاكم) فالديموقراطية بخير ومصانة. النقيض الداخلي، الديكتاتورية الحزبية، قضى هنا أيضا على الديموقراطية وقدرتها على تحمل التنوع والتعدد وصيانتهما.

الديموقراطية الليبرالية كانت التسوية التاريخية التي انتهت إليها صراعات على ساحات الصراع الكبيرة بين هذين المكونين، في عالم ما قبل الحرب العالمية الثانية، ألمانيا وبريطانيا وفرنسا. الحريات العامة والخاصة والتعدد وحقوق الأقليات السياسية والاثنية (من هنا ظهر النظام النسبي في الانتخابات) وحرية السوق وتوازن السلطات ورقابتها على بعضها، ينبغي أن تسير كلها جنباً الى جنب من دون طغيان واحدة على أخرى.

لفترة وجيزة في تسعينات القرن الماضي، بدا أن هذه التسوية هي آخر من سيصل الانسان اليه على صعيد تدبر اجتماعه السياسي وإدارته للاختلافات التكوينية الكامنة فيه. أزمات بداية الالفية الجديدة والظواهر المرافقة لها، اعادت طرح هذه المقولة على النقاش. إذ كيف يمكن التفاهم مع الإرهاب، بغض النظر عن مسببات نشوء الظاهرة وخلفياتها؟ كيف يمكن التعامل مع الذعر المرافق لتضاؤل أعداد الأوروبيين الأصليين في بلدانهم وما يوازيه من تصاعد لنسب المهاجرين؟ لماذا يجب على المجتمعات الغربية التسامح مع المهاجرين ومع ثقافاتهم في وقت تمرّ هي بأزمة هوية؟ كيف يمكن الحفاظ على التقديمات الاجتماعية في ظل اقتصاد مهدد في كل لحظة بأزمة اقتصادية خانقة من صنف ما وقع في 2008؟

ما يبدو كبداهات عند رصف الاسئلة هذه لصق بعضها، يكفي لصوغ خط سياسي يتبنى الانعزال والانعتاق من كل ما ترتبه المسؤوليات الدولية والجماعية. من هنا تأتي شعارات من مثل الشعار الترامبي “أميركا أولا” الذي يفضي تطبيقه الى الانسحاب من اتفاق باريس بشأن البيئة. ومن هنا تصعد نزعات طرد الاجانب والهجمات عليهم…

لكن أوربان ورفاقه يعرفون أين يقفون وما هي الحدود التي لا يتجاوزونها. فالانتخابات، بجميع مستوياتها، باقية ومنتظمة في المجر وستبقى كذلك في كل مكان ينتصر فيه مؤيدو “الديموقراطية غير الليبرالية” بحسب المصطلح الذي يستخدمه رئيس الوزراء المجري.

فالانتخابات، كما لا يخفى على اعتى الديكتاتوريين والحكام الاستبداديين التسلطيين، توفر جملة من الفوائد للسلطة، ليس اقلها إضفاء الشرعية الشعبية عليها واستخدامها كأداة للمقايضة حيث تقدم السلطة الخدمات مقابل الأصوات والتأييد الشعبي. بذلك تلغي السلطة الوظيفة الأعمق للانتخابات كرقابة دورية للناخبين على أدائها بين استحقاقين انتخابيين وتتحول المناسبة الى بازار لتبادل “السلع”: التخلي عن الحرية مقابل فتات التقديمات.

ويسير التفريق بين الليبرالية والديموقراطية على طريق تعرية السلطة من كل مهمة يفترض ان تقوم بها وتردها الى سيرتها “الطبيعية” الاولى، جهاز للسيطرة القسرية لا يتردد في اللجوء الى العنف والقمع ويخلو من أي معنى اجتماعي ومتخفف من كل رقابة ومن كل الضوابط التي راكمتها الليبرالية الديموقراطية على اجهزة السلطة. هكذا يمكن فهم الانزعاج اليميني المتطرف الدائم من الاتحاد الأوروبي،  ليس بسبب بيروقراطيته العمياء وغير المنتخبة في بروكسل ولا لتدخله في الاقتصاد الوطني وفرضه سياسيات متسامحة مع المهاجرين فحسب، بل ايضا وخصوصا لتشكيله أداة ضبط من وراء الحدود لا تخضع لحسابات الربح والخسارة الانتخابية المحلية.

والديموقراطية غير الليبرالية بهذا السياق، ليست انتفاضة على تغول الليبرالية وانقلابها نيوليبرالية تعلي من شأن قيم السوق على الحريات، بل هي في واقع الامر، تهرب من الضمانات التي توفرها الدولة للمجتمع نحو انفلات كامل لاجهزة السلطة على نحو تشكل المجر عينة عنه حيث فككت وسائل الاعلام المستقلة وخرجت الزبائنية والفساد الى نور الشمس، فيما يسدل الظلام ستره على قيم لم يقيد لها ان تعمر طويلا في المجر التي قد تمثل مختبرا لمستقبل اوروبا.

في المؤتمر الاخير للجبهة الوطنية الفرنسية اليمينية المتطرفة، اعلن الضيف الاميركي ستيف بانون “إن التاريخ الى جانبنا”. لم يكن ينطق عن هوى، لكن ربما المعركة لم تُحسم بعد.