فجر 15 يوليو/ تموز 1958 بدأ يتوافد إلى قصر الرحاب كبار الساسة العراقيّين: نوري السعيد وجميل المدفعي وتوفيق السويدي وطه الهاشمي وعلي جودت الأيّوبي وفاضل الجمالي وكامل الجادرجي ومحمّد حديد، فضلاً عن رئيس الحكومة أحمد مختار بابان.
في السابعة والنصف صباحاً استقبلهم الملك فيصل الثاني والوصيّ الأمير عبد الإله. الجميع، المستقبِلون والمستقبَلون، بدوا منهكين كأنّهم لم يذوقوا النوم في الليلة الفائتة، فيما كان الحرّ الشديد يضاعف شعورهم بالإنهاك. ومن دون مقدّمات بدأ السعيد، أقوى أولئك السياسيّين، الحديث:
“نبارك لكم يا جلالة الملك ويا سموّ الأمير، بل نبارك للشعب العراقيّ بأسره، النجاة من المحاولة الانقلابيّة الجبانة يوم أمس. لقد تمكّن ضبّاط جيشنا مدعومين بشعبنا الطيّب من إحباط ما أرادته زمرة عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف. إنّه يوم تاريخيّ مشهود للعراق”.
وإذ بقي الملك صامتاً، هو الذي جعله صغر سنّه (23 سنة) أقرب إلى الخجل والاقتصاد في الكلام أمام سياسيّين مجرّبين وأكبر سنّاً، تدخّل الوصيّ: “نشكر لكم عواطفكم يا نوري باشا، كما نشكر تشريفكم جميعاً وتضامنكم معنا ومع شعب العراق في وجه المؤامرة السوداء. لقد سحقنا زمرة قاسم وعارف، وسوف نعلّق لهم المشانق في ساحات بغداد. هذه المؤامرة لحظة تلاقٍ بين الشيوعيّة المخرّبة والملحدة والميل العسكريّ الديكتاتوريّ لعبد الناصر. هذا ما لا مكان له في عراقنا المؤمن الحبيب، وبين مواطنينا المتمسّكين بوطنيّتهم العراقيّة. لقد تلقّينا برقيّات تهنئة عاجلة من قريبنا الملك حسين، ومن الرئيس اللبنانيّ شمعون الذي يحاول عبد الناصر والشيوعيّون إطاحته، ومن الرئيس التونسيّ بورقيبة. كذلك اتّصل بنا الرئيس أيزنهاور من واشنطن ورئيس الحكومة ماكميلان من لندن مهنّئين”.
وما إن توقّف عبد الإله للحظة، كمن يستريح قليلاً ليستأنف لاحقاً، حتّى تدخّل كامل الجادرجي، فيما اتّجه نوري إلى الحمّام:
“يا سموّ الأمير، نحن كلّنا نهنّئكم ونهنّىء أنفسنا، على رغم الدم الذي تسبّبت به تلك المحنة، والذي نأسف له أشدّ الأسف. لقد نجا العراق بالفعل من حكم عسكريّ ديكتاتوريّ لا يتمنّاه المرء لبلده ولا لأيّ بلد. لكنّها ينبغي أن تكون فرصة نتأمّل فيها أخطاءنا التي لا بدّ أنّ الزمرة الانقلابيّة استخدمتها كي تؤلّب حولها من ألّبتهم من عسكريّين…”.
“أخطاء؟ إنّها مؤامرة شيوعيّة – ناصريّة يا كامل بك…”، قالها نوري السعيد وهو عائد من الحمّام. ومع أنّه لم يسمع إلاّ الكلمات الأخيرة للجادرجي، علا صوته محتجّاً.
هنا تدخّل الملك الشابّ ليعلن بشيء من التردّد، فيما كان توفيق السويدي يهزّ رأسه موافقاً: “فلنستمع إلى ما يقصده كامل بك”.
“ما لا شكّ فيه”، أكمل الجادرجي، “أنّ ثمّة مؤامرة تستهدف العراق وتنوي أن تطيح مساعينا لتطوير حياتنا السياسيّة وصولاً إلى نظام ديمقراطيّ. لكنّ ضعف التركيبة العراقيّة سبب هذه الهشاشة التي استثمرها الانقلابيّون. وسأبدأ من نقطتين أثارهما سموّ الوصيّ: تعليق المشانق ودور الناصريّة والشيوعيّة. أنا أقترح إجراء محاكمات للضبّاط الانقلابيّين، وتحويلها إلى مناسبة نعلّم فيها الشعب معنى الديمقراطيّة. لا بدّ من محاكمتهم وإصدار الأحكام التي يستحقّونها، لكنّ المشانق لا تفيد بشيء، وتجعلنا نبدو سفّاحين في مواجهة متآمرين. أمّا لغة الحرب الباردة عن المؤامرة الشيوعيّة فأيضاً لا تفيد. إنّها تخدعنا إذ تقنعنا بأنّنا مجرّد ضحايا ولم نرتكب أيّ خطأ. فوق هذا، لم يعد أحد يصدّق هذه اللغة. كلّ من يعرف عبد السلام عارف، الذي لا يتوقّف عن الصلاة، يدرك أنّ وصفه بالشيوعيّة كلام يثير الضحك…”.
واستعاد عبد الإله الكلام بدرجة أكبر من الحدّة: “كامل بك… أعرف أنّك أنت ومحمّد بك حديد متأثّران بالأفكار الاشتراكية البريطانيّة، ولهذا تميلان إلى نقد العائلة المالكة. لكنْ ما الذي فعلناه نحن؟ لقد أساء لنا الأشخاص الذي أكرمناهم ورقّيناهم في الجيش. هذا ما نعرفه من تجاربنا السابقة: سلّمنا ساطع الحصري التربية والتعليم في هذا البلد وجعلناه، مع أنّه حلبيّ، أستاذاً أعلى للعراقيّين جميعاً. أين هو الحصري الآن؟ في دمشق، يدعم عبد الناصر ويحرّض علينا. وعيّنّا رشيد عالي الكيلاني رئيساً للحكومة، فماذا فعل؟ تآمر مع أربعة ضبّاط لتنفيذ انقلاب يطيح الملكيّة وتعاون مع الألمان واتّهمنا بالعمالة للإنكليز. ولا أزال أذكر، ولا شكّ أنّ نوري باشا أيضاً يذكر، كيف هربنا في تلك الليلة من بغداد لأنّ الانقلابيين كانوا ينوون تصفيتنا…”.
هنا وقف نوري واتّجه مجدّداً إلى الحمّام فيما كان محمّد حديد، وعلى نحو غير مألوف، يقاطع الوصيّ: “يا سموّ الأمير، لا تُحسَب الأمور السياسيّة على هذا النحو. أنا أختلف كلّ الاختلاف مع الكيلاني والحصري، وأظنّ أنّ فاضل بك الجمالي الذي خاض معاركه الشهيرة مع الحصري يشاركني الرأي. إلاّ أنّ المناصب والمسؤوليّات ليست مكرمات وعطايا”. في هذه اللحظة بدت على وجه الوصيّ إمارات غضب مكتوم فجحظت عيناه وبدأ جسمه ينبض بحركات لم يقوَ دائماً على ضبطها. ويظهر أنّ ما أزعجه لم يكن كلام حديد فحسب، بل نظرة الملك إليه وهو يتحدّث، إذ بدا منصتاً بعناية إلى أقواله. هكذا وجد محمّد حديد ما يشجّعه فمضى موجّهاً كلامه إلى الملك:
“هناك مسألتان أساسيّتان يا جلالة الملك يتعلّق بهما مستقبل العراق ومستقبل حكمكم نفسه: فجلالتكم، كشابّ عصريّ، لا بدّ أنّكم تتابعون ما يجري في العالم وتغيّراته. ذاك أنّ المَلكيّة المطلقة تتحوّل إلى ماضٍ. لقد بدأت بريطانيا، التي نتأثّر بتجربتها وثقافتها السياسيّتين، رحلتها الطويلة إلى المَلَكيّة الدستوريّة عام 1688، مع “الثورة المجيدة” التي أنتجت “مرسوم الحقوق” الذي بات شهيراً في التاريخ السياسيّ والدستوريّ للعالم. فإذا أردنا تعزيز الديمقراطيّة وامتصاص تناقضات المجتمع ونقلها إلى البرلمان، كان لا بدّ من الإقدام، ولو تدريجيّاً، على خطوة كهذه. إنّ مُلكيّتكم مصانة، وهي من الاجماعات القليلة بين العراقيّين الذين يلتقي سنّتهم وشيعتهم على تكريم آل البيت. لكنّ ذلك لا يلغي ضرورات التغيير”. هنا قرّر نوري، العائد من الحمّام، أن يتدخّل، فقال بشيء من السخرية: “جلالة الملك يشكرك على عواطفك الكريمة”، الأمر الذي لم يعلّق عليه الملك الذي استمرّ في إنصاته، فيما كان غضب عبد الإله يتعاظم. وأكمل السعيد بالسخرية نفسها: “وما هي المسألة الثانية يا محمّد بك؟”.
لكنّ الملك، رغم تهذيبه الجمّ، لم يستطع إلاّ أن يسأل السعيد بشيء من التوتّر: “ما قصّتك يا نوري باشا مع بيت الخلاء كلّما احتدم النقاش؟”. وبدوره ردّ السعيد معتذراً بأنّ أمعاءه لم تتحمّل المآكل الدسمة التي تعشّاها في الليلة الفائتة. إلاّ أنّه أضاف ضاحكاً: “وبسبب وضعي المعويّ الذي منعني من النوم كنتُ أوّل من اكتشف الانقلاب”.
الملك لم يضحك، بل سأل محمّد حديد أن يعرض المشكلة الثانية التي أشار إليها.
“نعم، هناك مسألة ثانية أتمنّى أن يوليها نوري باشا ما تستحقّه من أهميّة، لأنّ من غير اللائق في من يتولّون السلطة ألاّ يكونوا على دراية بها. إنّها الإصلاحات الزراعيّة. فالعراق، في وسطه وجنوبه، يعاني أحد أكبر الاختلالات في العالم بين الملكيّات الزراعيّة الهائلة المساحة لملاّكين متغيّبين يعيشون في المدن وأعداد من الجائعين الذين يفتقرون إلى كلّ ملكيّة. تمليك هؤلاء ومساعدتهم على استثمار أرضهم هو وحده ما يخلق طبقة متوسّطة ومتعلّمة في الأرياف تدعم الاستقرار وتنشر وعياً وطنيّاً يتعالى على الانتماءات المذهبيّة الضيّقة والولاءات العشائريّة، كما يقطع الطريق على الأحزاب المتطرّفة والشيوعيّة التي تستقطب شبّان تلك المناطق. والتمليك هذا إنّما يؤدّي إلى رفع الإنتاجيّة وزيادة حصّة الزراعة في الاقتصاد الوطنيّ”.
وإذ أغلق نوري عينيه متظاهراً بالنوم، هزّه فاضل الجمالي من يده: “اسمع يا باشا هذا الكلام. اسمعه. أنا من هناك وأعرف كيف يعيش الناس في الوسط والجنوب. إنّهم، فوق هذا، يعرفون أنّكم، أهل الذوات في بغداد، لا تزورون مناطقهم التي لولا ثورتها في 1920 لما كان هناك عراق. ولا أخفيكم، وبالنظر إلى الاختلاف المذهبيّ، أنّ هذه المسألة تتّخذ بُعداً مذهبيّاً خالصاً. وما دمتم ذكرتم الحصري، فأنتم تعلمون أنّ النظام التعليميّ الذي وضعه للعراق يفاقم هذه الحساسيّات. لقد خضتُ ضدّه معركة لم تؤازروني فيها لأنّه يفرض على التلاميذ الشيعة الروايةَ السنّيّة للتاريخ، ويتعامل مع روايتهم هم كأنّها خرافة لا تستحقّ الذكر…”.
وسط هذه المعمعة ضمّ أحمد مختار بابان صوته إلى صوت الجمالي: “وهناك أيضاً مسألة الأكراد. الاستثمارات الحكوميّة هزيلة جدّاً في الشمال. كلّ ما يعني الأعيان في بغداد والموصل هو بناء قصور وفيلاّت في أربيل والسليمانيّة ودهوك للاصطياف فيها. اللغة والثقافة الكرديّتان شبه محرّمتين. ولا أخفي عنكم أنّ هذا التوجّه يخدم دعاة الانفصال الذين يتكاثرون في أوساط العشيرة البارزانيّة الكبيرة. وأودّ أن أذكّركم يا سادتي بأنّ الأكراد ضُمّوا بالقوّة إلى العراق، وحين ثار قائدهم الشيخ محمود الحفيد ضربته الطائرات البريطانيّة وأجبرت الأكراد على الإذعان للدولة العراقيّة. لقد آن الأوان، بعد قرابة أربعة عقود، أن نخلق عاطفة كرديّة حيال العراق، وهذا شرطه أن تنشأ عاطفة عراقيّة حيال الأكراد. فهذا البلد عرف مذبحة الأشوريّين في 1933 وفرهود اليهود في 1941. هذا أكثر من كافٍ”.
وفجأة سُمع نوري يهدر ويزمجر، تُصاحب كلامَه نظرة تأييد من عبد الإله متخمة بالغضب على الآخرين: “غريب ما أسمعه. هناك مؤامرة علينا وعلى العراق، وأنتم تتحدّثون عن اليهود والأشوريّين وعن الإصلاحات الزراعيّة كما لو أنّكم شيوعيّون، وعن الشيعة والأكراد كما لو أنّكم تنوون تجزئة هذا الوطن. أنا، بصراحة، لا أستسيغ كلاماً كهذا. أنا قوميّ عربيّ قاتلت مع المغفور له جلالة فيصل الأوّل في سبيل الدولة العربيّة الواحدة…”. بيد أنّ الجادرجي قهقه بصوت مرتفع: “نوري باشا، لقد قلنا إصلاحات زراعيّة فاتّهمتَنا بالشيوعيّة. ما رأيك لو اتّهمناك بالناصريّة لأنّك، كما تقول، قوميّ عربيّ. ثمّ إنّك، يا باشا، لم تقاتل إلى جانب المغفور له فيصل الأوّل فحسب. لقد قاتلتَ في الجيش العثمانيّ، ثمّ بقيادة الإنكليزيّ لورنس، إلى جانب غلوب باشا… فرجاءً أن نبتعد عن ديماغوجيا عبد الناصر، فنحن الآن لا نلقي خطابات للجماهير”.
هنا دخل عدد من النادلين وهم يحملون صحون الكنافة التي يستوردها القصر الملكيّ العراقي يوميّاً من بيروت على أن يؤتى بها من “حلويات الحلاّب” في طرابلس. الكلّ كانوا يتضوّرون جوعاً، لكنّ سرعة التهام عبد الإله وتوتّره أحدثا غصّة سدّت حلقومه تماماً. اصفرّ وجه الوصيّ وجحظت عيناه وهوى عن كرسيّه أرضاً، فيما الآخرون لا يعرفون ماذا يفعلون. الملك لم يبدر عليه أيّ قلق حيال خاله والوصيّ عليه. وحده نوري طالب بإحضار طبيب وهرع إلى الحمّام، لكنّ عبد الإله كان قد فارق الدنيا وهمد هموداً أبديّاً.
معظم الحاضرين راحوا يتبادلون نظرات تنطوي على شيء من الارتياح، بينما بدا نوري، العائد من الحمّام، وحيداً مكسوراً يتمتم لعنات للكنافة ولأهل مدينة طرابلس. وقد فُهم لاحقاً أنّه، هو نفسه، تناول كميّة هائلة من الكنافة إيّاها في عشائه ذاك، بعد كميّة رهيبة من سمك المسقوف وأنواع من المَرَق.
في اليوم التالي، صدرت صحيفة “العالم” المعارضة، التي كانت السلطة كثيراً ما تعطّلها، بمانشيت جريء يقول: “العراق والديمقراطيّة انتصرا مرّتين: بهزيمة المحاولة الانقلابيّة وبرحيل الوصيّ”.
[video_player link=””][/video_player]