في حوالي السابعة مساء، توقّفتْ أمام “قصر الشعب” السوريّ سيّارتا ليموزين سوداوان، زجاجهما مُفيّم. رجل في الثمانين أو نحوها نزل من السيّارة الأولى بعد أن فتح له المرافقون باب السيّارة وصحبوه إلى داخل القصر.
الرئيس بشّار الأسد وزوجته أسماء كانا في استقباله. صافحاه بحرارة وانتقل الثلاثة إلى مكتب الرئيس حيث كان في انتظارهم مصطفى طلاس، وزير الدفاع السابق الذي كان قد تقاعد قبل عام واحد، لكنّه احتفظ بعلاقة أبويّة مع الرئيس السوريّ.
الخبر الذي بقي سرّاً كان كفيلاً، فيما لو عُرف، بأن يهزّ سوريّا، وأن ينافس الحدث الذي كان يعيشه السوريّون يومذاك، وهو اضطرار جيشهم إلى الانسحاب من لبنان.
الزائر ليس سوى عبد الحميد السرّاج بلحمه وشحمه. إنّه يزور بلده للمرّة الأولى منذ 1962 حين أقام لاجئاً في مصر.
“على مدى الـ 43 عاماً الماضية بقيتْ سوريّا في عقلي وقلبي، رغم أنّ قوميّتي العربيّة تجعل كلّ بقعة ما بين المحيط والخليج وطناً لي. والحقيقة أنّني لا أعرف كيف أشكر الأخ أبا فراس [مصطفى طلاس] لأنّه لفت نظركم، يا سيادة الرئيس، إلى دعوتي للعودة إلى الوطن، وطبعاً أشكركم وأشكر حَرَمكم على إتاحة هذه الفرصة لي”.
“نحن الذين نشكرك يا عمّ عبد الحميد… المرحلة العصيبة والهجمة التي نتعرّض لها اليوم، وتتمثّل بالمؤامرة على سوريّا وما فُرض علينا من تراجع تكتيكيّ هو سحب قّواتنا من لبنان… هذا كلّه يستدعي الاستماع إلى أمثالكم ممّن يجمعون بين الوطنيّة والحكمة وتجربة غنيّة في التعرّض لتحدّيات مشابهة…”.
لكنْ وعلى نحو مفاجىء تتدخّل أسماء الأسد: “عمّو عبد الحميد، قبل أن تبدأوا الكلام الجدّيّ، أحبّ أن أقول شئياً. لقد سمعت الكثير عنك وعن أهمّيتك من عمّو حافظ، الله يرحمو، ومن عمّو مصطفى. هل لك أن تُخبرني عن أبرز ما فعلتَه هنا في سوريّا أيّام زمان؟”.
“آه يا عمّو… هل أستطيع أن أخاطبكِ هكذا؟”.
“طبعاً، طبعاً”.
ومع أن السرّاج لم يكن معروفاً بكثرة الكلام، إلاّ أنّه راح يتحدّث بإسهاب وطلاقة كما لو أنّه يروي كلّ ما صمت عنه في سنواته المديدة في الماضي:
“من أين أبدأ؟ من التصدّي للمؤامرة، أم من إقامة الوحدة، أم من علاقتي بعبد الناصر وعبد الحكيم عامر، أم…”.
“عمّو، خبّرنا عن الذين قتلتَهم من المتآمرين على سوريّا. أنا سمعت فقط بقصّة الرجل الذي ذوّبتَه بالأسيد… الحلو… فرج… لم أعد أذكر الاسم تماماً. ياي. how exciting القصّة مهضومة كتير (قهقهة)”.
“اسمه فرج الله الحلو. هذه القصّة، بسبب الضجّة التي أثارتْها وبسبب استخدام خصومنا لها، حجبت أعمال تطهير لا تقلّ أهميّة. هل سمعتِ مثلاً بهزّاع المجالي؟”.
“هزّاع شو… عمّو؟”.
“المجالي. رئيس حكومة الأردن في 1960. فجّرتُ فيه مقرّ رئاسة الحكومة، فقُتل وقُتل معه 12 مسؤولاً أردنيّاً رفيعاً. كان من المتوقّع أن يكون الملك حسين هناك لكنّه لم يحضر. في لبنان، من أجل التحريض على الثورة ضدّ كميل شمعون، قتلنا الصحافيّ نسيب المتني. نسيب كان معارضاً لشمعون، ولهذا قدّرتُ أنّ الجميع سيظنّون أنّ شمعون هو الذي قتله وينفجر الوضع. قبل قتله بأشهر قتلنا الضابط غسّان جديد في بيروت. أعداد من القوميّين السوريّين والشيوعيّين والإخوان المسلمين فرمتُهم فرماً. مَن لم يمت خرج من السجن من دون أظافر. اثنان من دون أعين. ثلاثة من دون ألسنة. أذكر من عندكم، من حمص، المدرّس والنقابيّ الشيوعيّ سعيد الدروبي. قضى تحت التعذيب. صحافيّ أرمنيّ شيوعيّ من حلب اسمه بيار شدرفيان مات فيما شبّاننا يطفئون السجائر في جسده. لقد تعاون معي عدد من الضبّاط والمناضلين القوميّين الشرفاء ممّن لا أنساهم ما حييت: سامي جمعة وعبد الوهاب الخطيب وأكرم الصفدي. كنت أمازح عبد الوهاب وأقول له: يستحيل أن تلبس ثياباً نظيفةً لأنّك لا تستطيع أن تغسل جميع بقع الدم العالقة عليها. كانوا أصيلين بالفعل”.
في هذه اللحظة كان الرئيس الأسد يفرك يديه ويهتزّ جسده كما لو أنّ رعشة تسري فيه، بينما يتبادل وزوجته ضحكتين عريضتين وسعادة غامرة…
ومضى السرّاج: “لا أستطيع حصر كلّ الذين صفّيناهم دفاعاً عن سوريّا وعروبتها ضدّ المتآمرين. هذا صار تراثاً مضيئاً يغرف منه كلّ من جاؤوا بعدي وأرادوا التصدّي للمؤامرة”…
بشّار الأسد: “ذاك الماضي كان قاسياً أيضاً وكان لا بدّ من القسوة في التعامل معه ممّا أحدث ارتباكات وخلافات داخل أهل الخندق الواحد (أضاف ضاحكاً) وأنت لم ترحم حتّى حزب البعث الذي كان الوالد ينتمي إليه، والحزب السوريّ القوميّ الذي استقطب أخوالي من آل مخلوف…”.
“يا سيادة الرئيس، أنت مثل إبني، واسمح لي أن أخاطبك باسمك الأوّل. القوميّون السوريّون كانوا آنذاك ضالعين في المؤامرة، وأنا مع احترامي لآل مخلوف الذين غيّرتْهم مصاهرة المرحوم والدك لهم، لا أثق بأنّ حزبهم قد تغيّر. هذه مسألة سيجلوها التاريخ لاحقاً. أمّا البعث فأنا قسوت على بعث ميشال عفلق وبعث أكرم الحوراني. لكنّ بعث والدك لم يكن قد ظهر بعد. وأذكّرك بما جاء في كتاب حنّا بطاطو عن سوريّا…”.
تقاطعه أسماء وهي تضحك: “اسمه حنّا بطاطا، يعني potatoes؟!”.
“لا يا عزيزتي، حنّا بطاطو، وهو باحث فلسطينيّ الأصل، أصدر قبل ستّ سنوات كتاباً عن سوريّا قال فيه إنّ الرئيس الراحل، رحمه الله، أعاد تأسيس البعث ثانية. بعث الأسد غير بعث عفلق والحوراني. التوجّهات التي صاغها ودافع عنها الرئيس الأسد هي نفسها التي ناضلتُ أنا في سبيلها: التصدّي للمؤامرة على سوريّا. خنق الأحزاب والنقابات والصحافة. جعل السفر إلى الخارج والاحتكاك بالعالم الخارجيّ مسألة في غاية الصعوبة. السيطرة على لبنان وضبط الحرّيّات السياسيّة والإعلاميّة فيه… التفاصيل تتغيّر لكنّ الأساسيّات لا تتغيّر”.
وتدخّل طلاس: “صحيح تماماً. في التفاصيل مثلاً، صاهرتُ أنا آل الجابري، فهل هذا يعني أنّنا صرنا من مؤيّدي الرجعيّين. كذلك فنحن اليوم، أي بيت طلاس وبيت الأسد وبيت مخلوف، من كبار الأغنياء، فهل هذا يعني أنّنا لم نعد اشتراكيّين!؟ طبعاً لا”.
وكما لو أنّ السرّاج، الذي كان شارداً، أحسّ بأنّ طلاس هبط بمستوى الكلام، وانتابه شيء من الضجر، فقاطعه:
“بعد هذه التجربة الطويلة، بتُّ على يقين بأنّ أسماء الأحزاب والعقائد ليست مهمّة (راسماً بسمة على شفتيه) ألم يقل شاعرنا نزار قبّاني:
أسخفُ ما نحمله يا سيّدي الأسماء”.
(ضاحكةً) “طبعاً، لستُ أنا المقصودة”.
“طبعاً طبعاً يا عزيزتي، معقول!”.
“إذاً، عمّو عبد الحميد، أنت تقرأ الشعر؟”.
“أكثر شيء قرأته في حياتي، بعد تقارير المخابرات، هو الشعر. هناك بيت لا أزال أعشقه ولو أنّني أكره صاحبه القوميّ السوريّ أدونيس:
ما في دمي غير نداء الكفاحْ
ما في شرايينيَ غير اليقين”.
“وماذا يعني اليقين، عمّو؟”.
“إنّه عكس الشكّ يا عزيزتي. مَن ينوي التصدّي للمؤامرة عليه ألاّ يشكّ بصحّة ما يفعل، حتّى لو كلّف الأمر مليون قتيل. والآن، اسمحوا لي أن أعود إلى الفكرة التي بدأتها: هناك في النهاية حزبان على رغم الاختلافات في الأسماء والعقائد. الاختلافات هذه هي الملح الذي نرشّه على الطبق، أمّا المهمّ فهو الطبق نفسه. هذان الحزبان هما حزب المؤامرة الذي يتحدّث عن الحرّيّة والديمقراطيّة وحقوق الإنسان وباقي هذا الهراء الذي جاء به الأجنبيّ لتفتيتنا، وحزب التصدّي للمؤامرة بامتلاك يقين كامل ودائماً بالضرب بيد من حديد. لهذا كنت دائماً قريباً جدّاً ممّن قالوا إنّهم سيبنون دولة قويّة في سوريّا: لقد خدمت حسني الزعيم وأديب الشيشكلي قبل أن أقع في عبادة جمال عبد الناصر… هل أذكّركم بما حصل معي في أوائل الستينات؟ لقد تكاثرتْ الشكاوى التي قُدّمت ضدّي للرئيس عبد الناصر، حتّى اقتنع بأنّني أكثر تشدّداً وقسوة ممّا يجب. هكذا منحني لقباً شرفيّاً هو نيابة رئاسة الجمهوريّة وطلب منّي أن أبتعد عن دمشق وأبقى قريباً منه في القاهرة. أمّا الذي تسلّم أمور سوريّا فلم يكن إلاّ ذاك الأبله صاحب الشخصيّة المائعة عبد الحكيم عامر. تأمّلوا أنّ ذاك العبيط لم يكتشف أنّ مدير مكتبه عبد الكريم النحلاوي هو الذي يُعدّ مؤامرة الانفصال! هكذا نُفّذت المؤامرة، بسبب التساهل، وكان ما كان…”.
“يا عمّ عبد الحميد، المشكلة الأبرز التي نواجهها اليوم هي لبنان، فكيف نتعامل معه؟”.
“قل لي يا عزيزي بشّار، هل أنت من قتل رفيق الحريري؟”.
(يحاول الأسد أن يتملّص من الإجابة بضحكات لا تخلو من خفّة) “تستطيع أن تقول ذلك، لكنْ بمساعدة أطراف لبنانيّين”.
“برافو يا ابني، برافو”.
“هذا الحريري من البداية لم أستنظفْه. لقد أحسست أنّ وراءه ووراء أمواله مؤامرة على سوريّا يحيكها السعوديّون والأمريكيّون والفرنسيّون. هل تعرفون قصصي مع الملك سعود بن عبد العزيز حين حاول شرائي بالأموال لمناهضة عبد الناصر والوحدة؟ إنّهم لم يتغيّروا”.
“لكنّ اغتياله كلّفنا الكثير حتّى الآن…”.
“هذا قابل لأن يتغيّر. المهمّ أن لا تتغيّروا أنتم. أن تصمدوا في مواجهة الهجمة. كيف تصمدون؟ سأقول لك من تجربتي: تأديب لبنان وتدجينه شرط لا مهرب منه في الدفاع عن سوريّا وإحباط المؤامرة عليها. لبنان بلد جواسيس ومصارف وسفارات وصحف، وهذه أشياء مُغرية. إسكات هؤلاء أمر أساسيّ. في عهد الوحدة، ومن موقعي في وزارة الداخليّة، أقمت مكتباً خاصّاً للشؤون اللبنانيّة مركزه في منطقة الحواكير في دمشق. تولّى المكتب برهان أدهم وكان قاطعاً كالسيف: من لا يمشي بالقوّة يمشي بالمال والعكس بالعكس. وطبعاً، وباسم القوميّة أو الإسلام، وُجد دائماً متطوّعون لبنانيّون يعملون معنا. لولا هذا المكتب لما عاشت الوحدة يوماً واحداً. الاستعمار كان دائماً ينقضّ علينا من لبنان، ولهذا ينبغي أن لا يرتفع هناك أيّ صوت يناهضنا. لقد كنت أنسّق، في تلك الأيّام، مع فؤاد شهاب ومكتبه الثاني، وأنتم تستطيعون اليوم أن تنسّقوا مع إميل لحّود. إنّه رئيس الجمهوريّة وأنتم الذين وضعتموه حيث هو. لحّود أيضاً عسكريّ مثل شهاب، ومثلنا. أليس كذلك يا أبا فراس؟. أخلص من هذه التجربة إلى التالي: اغتالوا ما استطعتم. هكذا تُرهبونهم. هكذا يحسّون أنّكم جدّيّون. اغتالوا بلا رحمة. استعملوا الأحزاب الصغرى في لبنان لهذه الأغراض: قوميّين، يساريّين، ما تيسّر…”.
“والغرب؟ كيف نواجه الحملة التي يشنّها علينا؟”.
“ينبغي أن يتعب الغرب قبل أن تتعبوا. والدك، رحمه الله، شارك في خطف الرعايا الأجانب في بيروت لكي يُخيفهم. هذا كان نهجاً صائباً ومفيداً. لقد كنت أراقبه بدقّة من القاهرة كما أرسلت له سرّاً كتاباً أؤيّد فيه ما يفعله وأنقل إليه أيضاً بعض تحفّظاتي التي لم يتوقّف عندها. ما الذي حصل بعد ذلك؟ انسحب المستعمرون وفشلت المؤامرة (لحظة صمت) قبيل حرب 67 كانت إذاعة دمشق تذيع أغنية أحببتها كثيراً ولا أزال أظنّ أنّها أهمّ تحفة شعريّة وفنّيّة أنتجتها الأمّة العربيّة في العصر الحديث. إنّها تختصر فلسفتي في الحياة (متوجّهاً إلى أسماء) لو سمعتِها لأحببتِها كثيراً يا سيّدتي. الأغنية تبدأ بهذا البيت الرائع: “أحرق دمّر اقتل اضرب/ لا ترحم أبداً أعداءك”… ألا تذكرها يا أبا فراس؟”.
“طبعاً، كثيراً ما كنت أغنّيها. لكنّ حسابات الأغنية لم تطابق للأسف حسابات الحرب”.
وإذ سادت لحظة صمت، نظر بشّار إلى السرّاج وقال: “طبعاً ستكون لنا جلسات كثيرة أخرى نتناول الأمور فيها بتفصيل أكبر. لكنْ أين ستقيم الآن: في دمشق أم في مدينتك حماة؟”. وهنا، ومن دون مقدّمات، بدا كأنّ تيّاراً كهربائيّاً سرى في شرايين السرّاج: “كلّما ذُكرت حماة شعرت بجرح داخليّ عميق. إنّني لا أستطيع أن أغفر أبداً تدمير مدينتي وقتل أهلي في 1982”.
“تقصد الإخوان المسلمين؟”.
“لا، أنا أقصد النظام. أقصد ما فعله عمّك رفعت وسواه”.
“لكنّها كانت مؤامرة إخوانيّة على سوريّا؟”.
“لا. تدمير حماة كان هو المؤامرة” (أسماء، في هذه الغضون، تسأل: “وماذا حدث في حماة؟”، ووسط الغضب المتصاعد لا يكلّف أحد نفسه بأن يجيبها).
“لقد سبق أن قلتَ إنّك أيّدت سياسة الوالد في لبنان والتي لم تنفصل عن سياسته في حماة. المؤامرة كانت تطلّ برؤوس كثيرة!”.
“أيّدتُها، لكنْ مع التحفّظات التي أوردتها ولم يكترث بها. قلت له: اخطف الأجانب وحدك، فهذا انتصار للأمّة العربيّة، أمّا أن تخطفهم مع الفرس فهذا يوزّع الانتصار بيننا وبينهم. إنّهم في النهاية أعداء للعروبة”.
“يبدو أنّك تتمسّك بالمفهوم السنّيّ القديم للعروبة؟” (طلاس يتشاغل ويروح يدقّق في تفاصيل السجّادة الإيرانيّة التي تزيّن أرض المكتب).
“هناك مفهوم واحد للعروبة ولمواجهة أعداء الأمّة. دعني أقل لك إنّ السنّة هم أصحاب هذا المفهوم لأنّهم ليسوا طائفة. إنّهم هم الأمّة”.
(بصوت لا يخفي السخرية) “وهذا بالطبع يشمل الإخوان المسلمين! أليس كذلك؟”.
(بغضب) “المؤكّد أنّه لا يشمل أبناء وأحفاد سليمان المرشد”.
هبط على غرفة المكتب جوّ ثقيل جدّاً قطعه السرّاج بالوقوف: “شكراً مرّة ثانية على الضيافة والاستقبال. لكنّني أظنّ أنّني سأعود في أوّل طائرة إلى القاهرة”.
“ربّما كان ذلك أفضل للجميع. بالتوفيق”.
لاحقاً أسرّ السرّاج لأصدقاء في القاهرة بأنّه، خلال ربع الساعة الأخير من الجلسة، كثيراً ما تذكّر صلاح الدين البيطار الذي استضافه حافظ، والد بشّار، في دمشق.