تباينت المشاعر وردود الأفعال على الفاجعة التي ألمّت بآية الله الخميني ورفاقه العائدين معه من باريس إلى طهران كي يتسلّموا السلطة فيها. فاحتراق طائرتهم، فوق الأجواء التركيّة، أثار غضباً واسعاً بين مؤيّديه ومعتنقي عقائده الدينيّة والسياسيّة، كما أثار ارتياحاً لم يجروء أصحابه على التعبير عنه في البيئة المؤيّدة لشاه إيران، والتي أحبطتها مغادرة الأخير للبلاد تحت وطأة التظاهرات الشعبيّة الغاضبة. على أنّ فئة أعرض من الإيرانيّين، على ما يبدو، شعرت بأنّ رحيل الخميني قد يُضعف قبضة الأطراف الأكثر تشدّداً بين الدينيّين، وقد يتيح فرصة أكبر للذين ينوون إقامة نظام ديمقراطيّ حديث في البلاد.
على أيّ حال يبدو أنّ مصرع الخميني في الجوّ أطلق في الحوزات الدينيّة حركة نقاش محتدم تعدّى العاصمة طهران ومدينة قم الدينيّة. وقد سجّل البروفيسور روي متّحدة، الأميركيّ ذو الاصل الإيرانيّ والمتابع الوثيق لأخبار إيران ودلالاتها، وجود تيّارات دينيّة ثلاثة، وبالتالي مواقف ثلاثة، حيال المسألة:
أمّا التيّار الأوّل فيقوده آية الله محمّد بهشتي الذي وصل لتوّه من برلين عبر طرابلس، إذ تربطه علاقة وطيدة بالعقيد الليبيّ معمّر القذّافي الذي يقال إنّه يمدّه بالمال وبتسهيلات أخرى. ويساجل هذا التيّار، وهو يُعدّ الأقوى في القواعد الشعبيّة المؤمنة والجذريّة، بالاستناد إلى ما يسمّيه “نظريّة العفاريت”. ذاك أنّ الخميني حين توجّه بالطائرة قبل سنوات من العراق إلى فرنسا، كره الطيران وخافه وسمّى الطائرة “جَمَلاً هائماً على وجهه في الفراغ”. وبحسب بهشتي نفسه، فإنّ الخميني أخبره أنّه خنق بيده عفريتاً كان على متن تلك الطائرة، وأنّه يتوقّع من العفاريت أن تحاول الانتقام عاجلاً أو آجلاً. أمّا تفاصيل هذا الدور فهو ما ينكبّ على دراسته الآن أحد أبرز المقرّبين من بهشتي، محمّد تقي مصباح اليزدي الذي يُعدّ ذا خبرة في العفاريت استثمر فيها عشرات السنين ومئات الكتب. وينتظر عناصر هذا التيّار إجابات اليزدي عن أسئلة محدّدة: كيف صعد العفاريت إلى الطائرة بباريس؟ كيف خدعوا قائد الطائرة ومعاونيه؟ كيف نجوا بأنفسهم بعد احتراق الطائرة؟ وكيف يمكن توجيه ضربة انتقاميّة لهم، وأين؟ ويُفترض، وفقاً للمعلومات المتوافرة، أن يُصدر اليزدي تقريراً مفصّلاً بالأمر بعد انكشاف هذه الحقائق كلّها.
وأمّا التيّار الثاني فيرمز إليه آية الله محمود الطالقاني الذي يُعرف في إيران بتيّار “اليسار الإسلاميّ”. وهؤلاء لا يبرّئون العفاريت كلّيّاً، إلا أنّهم يفضّلون عدم المبالغة وعدم تحميلها وحدها المسؤوليّة. ولدعم وجهة نظره يتساءل الطالقاني: “لماذا توفّي المفكّر الإسلاميّ الكبير علي شريعتي قبل أقلّ من عامين على احتراق طائرة الخمينيّ؟”، ثمّ يستخلص وجود مؤامرة محبوكة بإتقان على يد الرجعيّين في المنطقة ومعهم دول الاستكبار العالميّ: فانفجار الطائرة فوق تركيّا يعني أنّ الحلف الأطلسيّ معنيّ بالأمر. أمّا رحيل شريعتي في بريطانيا فبرهان آخر يذكّر بالتاريخ الاستعماريّ الخبيث لذاك البلد الذي حاول تقسيم إيران في 1907. إذاً، الأمر ليس بريئاً، وينبغي، وفق هذا السيناريو، وضع العفاريت ودورها ضمن إطار اللعبة الاستكباريّة للقوى العظمى ومصالحها وأتباعها. وإذا صحّ وجود شيء من التعاون والتنسيق بين عفاريت الجوّ والدول الطاغوتيّة على الأرض فهذا ما ينبغي أن يزيد إصرارنا على كشف “ديالكتيك العلاقة بين العفاريت والأشرار المستكبرين”.
لكنّ التيّار الدينيّ الثالث هو الذي يعبّر عنه آية الله محمّد كاظم شريعتمداري الذي يبدو أنّه يحظى بتأييد الأكثريّة بين كبار علماء الدين. وشريعتمداري، كما هو معروف، كان على الدوام من نقّاد الخميني ومن المعترضين على نظريّته في “ولاية الفقيه”. وفي أغلب الظنّ لعب هذا الماضي دوره في إحراج شريعتمداري الذي عوّضه بالمبالغة في تعبيره عن الأسى جرّاء مقتل منافسه وإعلانه حداداً يدوم أربعين يوماً. إلاّ أن ثمّة من يزعم أنّ شريعتمداري اتّصل، بُعيد سماعه الخبر، برجل دين نصف إيرانيّ نصف لبنانيّ يقيم في بيروت، وقال له إنّ موت الخميني أسعده، على رغم كلّ شيء، لأنّه طمأنه إلى مستقبل إيران. وعلى ذمّة ناقل الخبر، أضاف شريعتمداري: “في 1963، ومن أجل أن أجنّبه حكم الإعدام، أعلنت أنّه بلغ رتبة المرجعيّة، علماً بأنّه لا يفقه الكثير في علوم الدين، فانظرْ كيف ردّ الجميل: بتأليف نظريّة تخوّله أن يصبح، هو وحده، نائباً للإمام الغائب. إنّ حبّ هذا الرجل للسلطة لا يُصدَّق!”.
على أيّة حال، فخارج الدوائر الدينيّة، تتسارع حركة تأليف الحكومة الجديدة التي يُرجّح أن يرأسها شهبور بختيار، الإصلاحيّ الذي استعاد شيئاً من القوّة والثقة بالنفس بعد احتراق طائرة الخميني وانشغال البيئة الدينيّة بتفسير تلك الفاجعة. ويبدو أنّ نظريّة بختيار مفادها أنّ الحركة الدينيّة الراديكاليّة، من دون الخميني، ستنشغل طويلاً عن مسألة السلطة السياسيّة لتستغرقها النقاشات في العفاريت والجنّ.
على أنّ العمل الأوّل الذي قام به بختيار، بعد تعزيته بـ “فقيدنا الكبير والجليل”، كان إلقاءه خطاباً مطوّلاً في مهرجان شعبيّ في شمال طهران ذكّر فيه بدوره كوطنيّ وإصلاحيّ إلى جانب محمّد مصدّق في الخمسينات، وبأنّ الشاه اضطُرّ اضطراراً إلى تسميته آخر رئيس حكومة في عهده كمحاولة منه لمصالحة دعاة الإصلاح.
ويبدو من معلومات رشحت أنّ تشكيله الحكومة قطع شوطاً بعيداً، وأنّ بختيار سيقوم بزيارة لشريعتمداري كي يحصل على مباركته شبه المضمونة. وجدير بالذكر، على ما تناقلت أوساط قريبة من شريعتمداري، أنّ مطالباته اقتصرت على “التمنّي” بتوزير “رجل دين شابّ ومنفتح” يُرجّح أنّ اسمه محمّد خاتمي.
ويُعتقد أنّ وزارة الخارجيّة سيتسلّمها واحد من اثنين هما، مثل بختيار، من قادة “الجبهة الوطنيّة” التي أنشأها مصدّق ومن أعمدة النظام الجديد: المهدي بازركان وكريم سنجابي. وهذا علماً بأنّ المهمّات الأساسيّة الثلاث لمن سيتولّى هذا المنصب ستكون التالية:
أوّلاً- طمأنة الغربيّين، وخصوصاً الأميركيّين، إلى أنّ النظام الجديد ليس معادياً لهم، وأنّه سوف ينكبّ على بناء نظام ديمقراطيّ يمكنهم أن يعزّزوه كثيراً إذا دعموه بالاستثمارات والمساعدات الماليّة.
ثانياً- إجراء الترتيبات اللازمة مع دول الخليج لتأمين الانسحاب من الجزر الثلاث، أبو موسى وطنب الصغرى وطنب الكبرى، التي سبق أن احتلّها الشاه. ذاك أنّ النظام الجديد، ووفق تعبير بختيار، “لا يملك نوازع إمبرياليّة أو توسّعيّة”.
ثالثاً- المساهمة في إطلاق حوار إسرائيليّ – فلسطينيّ لتذليل هذه المشكلة المزمنة في الشرق الأوسط، على أن يجري ذلك بالتفاهم مع الرئيس المصريّ أنور السادات الذي وقّع للتوّ معاهدة كمب ديفيد مع الإسرائيليّين.
ويقال في المقابل أنّ بختيار، ولكي يحدّ قليلاً من انخراط إيران في الحرب الباردة ولا يثير غضب السوفيات، عرض على نور الدين كيانوري، الأمين العامّ لحزب تودة الشيوعيّ، تسلّم منصب يُرجّح أنّه وزارة الزراعة، حيث ينوي النظام الجديد “تعميق الثورة البيضاء” التي نفّذها الشاه و”العمل على سدّ ثغراتها بما يستفيد منه الفلاّحون والعمّال الزراعيّون الذين لا يملكون أرضاً”. أمّا شؤون المرأة فقد تتولاّها مريم رجوي، المناضلة في تنظيم “مجاهدي خلق”، مع أنّ “بعض الليبراليّين” يتحفظّون على ميولها “الذكريّة” و”قلّة نسويّتها”، فيما سيُعهد للقياديّ الكرديّ عبد الرحمن قاسملو بوزارة الأقلّيّات التي ستضع على الطاولة علاقة تلك الأقلّيّات بالسلطة المركزيّة في طهران. وقد طُرحت أسماء كلّ من مصطفى شمران وابراهيم يزدي وصادق قطب زادة لتولّي وزارات الداخليّة والدفاع والتعليم، إلاّ أنّ معلومات تردّدت تفيد أنّ لبازركان وسنجابي تحفظاتهما: “فهؤلاء – كما نُسب إلى الأوّل – متورّطون في علاقات مع أنظمة ديكتاتوريّة وتنظيمات إرهابيّة”، فيما قطب زادة تحديداً “عميل لحافظ الأسد الذي أعطاه جواز سفر سوريّاً”، بحسب سنجابي الذي لا يكتم قرفه كلّما تحدّث عن أنظمة عسكريّة.
على أنّ الإشكال الأكبر يتعلّق بأستاذ الاقتصاد في فرنسا أبو الحسن بني صدر الذي تردّد أنّ بختيار اقترحه وزيراً للاقتصاد. وهنا تتجمّع عناصر قصّة لا تخلو من طرافة: فبني صدر الذي تأخّر عن اللحاق بطائرة الخميني في باريس، وصل إلى طهران على متن طائرة أخرى. هكذا أشاع محمّد تقي مصباح اليزدي، بموافقة بهشتي، قصّة تقول إنّ بني صدر أحد العفاريت المتورّطين في انفجار طائرة الخميني. وبالفعل عُلّقت على الجدران في أحياء كثيرة جنوب طهران صور لبني صدر كُتب تحتها: “العفريت”، كما عُرف من أسماء الذين علّقوا الصور اثنان: رجل دين اسمه صادق خلخالي، وشابّ يصفه البعض بالشعوذة وتحضير الأرواح اسمه محمود أحمدي نجاد. والحال أنّ بعض ما نُسب إلى هذا الأخير انشغاله بسؤال يعتبره عميقاً وأساسيّاً جدّاً: هل في وسع بني صدر، كعفريت، أن يتبخّر ويختفي عن الأنظار فلا يظهر إلاّ في فرنسا، أو في أيّ مكان بعيد آخر لا تطاله فيه أيدي الثوريّين الإسلاميّين؟
وعلى العموم، بات ضمّ بني صدر إلى الحكومة أمراً معقّداً، بل مقلقاً، بعد هذه الحملة عليه. فهو يستفزّ هذه الجماعة المهتمّة بمطاردة العفاريت، أو بحسب عبارة نُسبت إلى بازركان: “دعوهم لشأنهم، ولا تستفزّوهم ببني صدر أو بسواه. نستطيع في أيّ وقت أن نتدبّر وزير اقتصاد أحسن منه. المهمّ الآن أن نمضي في تشكيل الحكومة وبناء إيران الجديدة”.
[video_player link=””][/video_player]

فيكشن: تأثيرات احتراق الطائرة التي كانت تقلّ الخميني من باريس إلى طهران
تباينت المشاعر وردود الأفعال على الفاجعة التي ألمّت بآية الله الخميني ورفاقه العائدين معه من باريس إلى طهران كي يتسلّموا السلطة فيها. فاحتراق طائرتهم، فوق الأجواء التركيّة، أثار غضباً واسعاً بين مؤيّديه ومعتنقي عقائده الدينيّة والسياسيّة،

تخبّط عالمي بعد تعليق التمويل الأميركي… ماذا عن الإعلام المستقلّ والجيش اللبناني؟

مجتمع الميم في سوريا: انتهاك الكرامة الإنسانيّة وترسيخ الإفلات من العقاب !

لبنان: تحالف مرئي بين “حزب المصارف” وحزب السلاح
تباينت المشاعر وردود الأفعال على الفاجعة التي ألمّت بآية الله الخميني ورفاقه العائدين معه من باريس إلى طهران كي يتسلّموا السلطة فيها. فاحتراق طائرتهم، فوق الأجواء التركيّة، أثار غضباً واسعاً بين مؤيّديه ومعتنقي عقائده الدينيّة والسياسيّة،
تباينت المشاعر وردود الأفعال على الفاجعة التي ألمّت بآية الله الخميني ورفاقه العائدين معه من باريس إلى طهران كي يتسلّموا السلطة فيها. فاحتراق طائرتهم، فوق الأجواء التركيّة، أثار غضباً واسعاً بين مؤيّديه ومعتنقي عقائده الدينيّة والسياسيّة، كما أثار ارتياحاً لم يجروء أصحابه على التعبير عنه في البيئة المؤيّدة لشاه إيران، والتي أحبطتها مغادرة الأخير للبلاد تحت وطأة التظاهرات الشعبيّة الغاضبة. على أنّ فئة أعرض من الإيرانيّين، على ما يبدو، شعرت بأنّ رحيل الخميني قد يُضعف قبضة الأطراف الأكثر تشدّداً بين الدينيّين، وقد يتيح فرصة أكبر للذين ينوون إقامة نظام ديمقراطيّ حديث في البلاد.
على أيّ حال يبدو أنّ مصرع الخميني في الجوّ أطلق في الحوزات الدينيّة حركة نقاش محتدم تعدّى العاصمة طهران ومدينة قم الدينيّة. وقد سجّل البروفيسور روي متّحدة، الأميركيّ ذو الاصل الإيرانيّ والمتابع الوثيق لأخبار إيران ودلالاتها، وجود تيّارات دينيّة ثلاثة، وبالتالي مواقف ثلاثة، حيال المسألة:
أمّا التيّار الأوّل فيقوده آية الله محمّد بهشتي الذي وصل لتوّه من برلين عبر طرابلس، إذ تربطه علاقة وطيدة بالعقيد الليبيّ معمّر القذّافي الذي يقال إنّه يمدّه بالمال وبتسهيلات أخرى. ويساجل هذا التيّار، وهو يُعدّ الأقوى في القواعد الشعبيّة المؤمنة والجذريّة، بالاستناد إلى ما يسمّيه “نظريّة العفاريت”. ذاك أنّ الخميني حين توجّه بالطائرة قبل سنوات من العراق إلى فرنسا، كره الطيران وخافه وسمّى الطائرة “جَمَلاً هائماً على وجهه في الفراغ”. وبحسب بهشتي نفسه، فإنّ الخميني أخبره أنّه خنق بيده عفريتاً كان على متن تلك الطائرة، وأنّه يتوقّع من العفاريت أن تحاول الانتقام عاجلاً أو آجلاً. أمّا تفاصيل هذا الدور فهو ما ينكبّ على دراسته الآن أحد أبرز المقرّبين من بهشتي، محمّد تقي مصباح اليزدي الذي يُعدّ ذا خبرة في العفاريت استثمر فيها عشرات السنين ومئات الكتب. وينتظر عناصر هذا التيّار إجابات اليزدي عن أسئلة محدّدة: كيف صعد العفاريت إلى الطائرة بباريس؟ كيف خدعوا قائد الطائرة ومعاونيه؟ كيف نجوا بأنفسهم بعد احتراق الطائرة؟ وكيف يمكن توجيه ضربة انتقاميّة لهم، وأين؟ ويُفترض، وفقاً للمعلومات المتوافرة، أن يُصدر اليزدي تقريراً مفصّلاً بالأمر بعد انكشاف هذه الحقائق كلّها.
وأمّا التيّار الثاني فيرمز إليه آية الله محمود الطالقاني الذي يُعرف في إيران بتيّار “اليسار الإسلاميّ”. وهؤلاء لا يبرّئون العفاريت كلّيّاً، إلا أنّهم يفضّلون عدم المبالغة وعدم تحميلها وحدها المسؤوليّة. ولدعم وجهة نظره يتساءل الطالقاني: “لماذا توفّي المفكّر الإسلاميّ الكبير علي شريعتي قبل أقلّ من عامين على احتراق طائرة الخمينيّ؟”، ثمّ يستخلص وجود مؤامرة محبوكة بإتقان على يد الرجعيّين في المنطقة ومعهم دول الاستكبار العالميّ: فانفجار الطائرة فوق تركيّا يعني أنّ الحلف الأطلسيّ معنيّ بالأمر. أمّا رحيل شريعتي في بريطانيا فبرهان آخر يذكّر بالتاريخ الاستعماريّ الخبيث لذاك البلد الذي حاول تقسيم إيران في 1907. إذاً، الأمر ليس بريئاً، وينبغي، وفق هذا السيناريو، وضع العفاريت ودورها ضمن إطار اللعبة الاستكباريّة للقوى العظمى ومصالحها وأتباعها. وإذا صحّ وجود شيء من التعاون والتنسيق بين عفاريت الجوّ والدول الطاغوتيّة على الأرض فهذا ما ينبغي أن يزيد إصرارنا على كشف “ديالكتيك العلاقة بين العفاريت والأشرار المستكبرين”.
لكنّ التيّار الدينيّ الثالث هو الذي يعبّر عنه آية الله محمّد كاظم شريعتمداري الذي يبدو أنّه يحظى بتأييد الأكثريّة بين كبار علماء الدين. وشريعتمداري، كما هو معروف، كان على الدوام من نقّاد الخميني ومن المعترضين على نظريّته في “ولاية الفقيه”. وفي أغلب الظنّ لعب هذا الماضي دوره في إحراج شريعتمداري الذي عوّضه بالمبالغة في تعبيره عن الأسى جرّاء مقتل منافسه وإعلانه حداداً يدوم أربعين يوماً. إلاّ أن ثمّة من يزعم أنّ شريعتمداري اتّصل، بُعيد سماعه الخبر، برجل دين نصف إيرانيّ نصف لبنانيّ يقيم في بيروت، وقال له إنّ موت الخميني أسعده، على رغم كلّ شيء، لأنّه طمأنه إلى مستقبل إيران. وعلى ذمّة ناقل الخبر، أضاف شريعتمداري: “في 1963، ومن أجل أن أجنّبه حكم الإعدام، أعلنت أنّه بلغ رتبة المرجعيّة، علماً بأنّه لا يفقه الكثير في علوم الدين، فانظرْ كيف ردّ الجميل: بتأليف نظريّة تخوّله أن يصبح، هو وحده، نائباً للإمام الغائب. إنّ حبّ هذا الرجل للسلطة لا يُصدَّق!”.
على أيّة حال، فخارج الدوائر الدينيّة، تتسارع حركة تأليف الحكومة الجديدة التي يُرجّح أن يرأسها شهبور بختيار، الإصلاحيّ الذي استعاد شيئاً من القوّة والثقة بالنفس بعد احتراق طائرة الخميني وانشغال البيئة الدينيّة بتفسير تلك الفاجعة. ويبدو أنّ نظريّة بختيار مفادها أنّ الحركة الدينيّة الراديكاليّة، من دون الخميني، ستنشغل طويلاً عن مسألة السلطة السياسيّة لتستغرقها النقاشات في العفاريت والجنّ.
على أنّ العمل الأوّل الذي قام به بختيار، بعد تعزيته بـ “فقيدنا الكبير والجليل”، كان إلقاءه خطاباً مطوّلاً في مهرجان شعبيّ في شمال طهران ذكّر فيه بدوره كوطنيّ وإصلاحيّ إلى جانب محمّد مصدّق في الخمسينات، وبأنّ الشاه اضطُرّ اضطراراً إلى تسميته آخر رئيس حكومة في عهده كمحاولة منه لمصالحة دعاة الإصلاح.
ويبدو من معلومات رشحت أنّ تشكيله الحكومة قطع شوطاً بعيداً، وأنّ بختيار سيقوم بزيارة لشريعتمداري كي يحصل على مباركته شبه المضمونة. وجدير بالذكر، على ما تناقلت أوساط قريبة من شريعتمداري، أنّ مطالباته اقتصرت على “التمنّي” بتوزير “رجل دين شابّ ومنفتح” يُرجّح أنّ اسمه محمّد خاتمي.
ويُعتقد أنّ وزارة الخارجيّة سيتسلّمها واحد من اثنين هما، مثل بختيار، من قادة “الجبهة الوطنيّة” التي أنشأها مصدّق ومن أعمدة النظام الجديد: المهدي بازركان وكريم سنجابي. وهذا علماً بأنّ المهمّات الأساسيّة الثلاث لمن سيتولّى هذا المنصب ستكون التالية:
أوّلاً- طمأنة الغربيّين، وخصوصاً الأميركيّين، إلى أنّ النظام الجديد ليس معادياً لهم، وأنّه سوف ينكبّ على بناء نظام ديمقراطيّ يمكنهم أن يعزّزوه كثيراً إذا دعموه بالاستثمارات والمساعدات الماليّة.
ثانياً- إجراء الترتيبات اللازمة مع دول الخليج لتأمين الانسحاب من الجزر الثلاث، أبو موسى وطنب الصغرى وطنب الكبرى، التي سبق أن احتلّها الشاه. ذاك أنّ النظام الجديد، ووفق تعبير بختيار، “لا يملك نوازع إمبرياليّة أو توسّعيّة”.
ثالثاً- المساهمة في إطلاق حوار إسرائيليّ – فلسطينيّ لتذليل هذه المشكلة المزمنة في الشرق الأوسط، على أن يجري ذلك بالتفاهم مع الرئيس المصريّ أنور السادات الذي وقّع للتوّ معاهدة كمب ديفيد مع الإسرائيليّين.
ويقال في المقابل أنّ بختيار، ولكي يحدّ قليلاً من انخراط إيران في الحرب الباردة ولا يثير غضب السوفيات، عرض على نور الدين كيانوري، الأمين العامّ لحزب تودة الشيوعيّ، تسلّم منصب يُرجّح أنّه وزارة الزراعة، حيث ينوي النظام الجديد “تعميق الثورة البيضاء” التي نفّذها الشاه و”العمل على سدّ ثغراتها بما يستفيد منه الفلاّحون والعمّال الزراعيّون الذين لا يملكون أرضاً”. أمّا شؤون المرأة فقد تتولاّها مريم رجوي، المناضلة في تنظيم “مجاهدي خلق”، مع أنّ “بعض الليبراليّين” يتحفظّون على ميولها “الذكريّة” و”قلّة نسويّتها”، فيما سيُعهد للقياديّ الكرديّ عبد الرحمن قاسملو بوزارة الأقلّيّات التي ستضع على الطاولة علاقة تلك الأقلّيّات بالسلطة المركزيّة في طهران. وقد طُرحت أسماء كلّ من مصطفى شمران وابراهيم يزدي وصادق قطب زادة لتولّي وزارات الداخليّة والدفاع والتعليم، إلاّ أنّ معلومات تردّدت تفيد أنّ لبازركان وسنجابي تحفظاتهما: “فهؤلاء – كما نُسب إلى الأوّل – متورّطون في علاقات مع أنظمة ديكتاتوريّة وتنظيمات إرهابيّة”، فيما قطب زادة تحديداً “عميل لحافظ الأسد الذي أعطاه جواز سفر سوريّاً”، بحسب سنجابي الذي لا يكتم قرفه كلّما تحدّث عن أنظمة عسكريّة.
على أنّ الإشكال الأكبر يتعلّق بأستاذ الاقتصاد في فرنسا أبو الحسن بني صدر الذي تردّد أنّ بختيار اقترحه وزيراً للاقتصاد. وهنا تتجمّع عناصر قصّة لا تخلو من طرافة: فبني صدر الذي تأخّر عن اللحاق بطائرة الخميني في باريس، وصل إلى طهران على متن طائرة أخرى. هكذا أشاع محمّد تقي مصباح اليزدي، بموافقة بهشتي، قصّة تقول إنّ بني صدر أحد العفاريت المتورّطين في انفجار طائرة الخميني. وبالفعل عُلّقت على الجدران في أحياء كثيرة جنوب طهران صور لبني صدر كُتب تحتها: “العفريت”، كما عُرف من أسماء الذين علّقوا الصور اثنان: رجل دين اسمه صادق خلخالي، وشابّ يصفه البعض بالشعوذة وتحضير الأرواح اسمه محمود أحمدي نجاد. والحال أنّ بعض ما نُسب إلى هذا الأخير انشغاله بسؤال يعتبره عميقاً وأساسيّاً جدّاً: هل في وسع بني صدر، كعفريت، أن يتبخّر ويختفي عن الأنظار فلا يظهر إلاّ في فرنسا، أو في أيّ مكان بعيد آخر لا تطاله فيه أيدي الثوريّين الإسلاميّين؟
وعلى العموم، بات ضمّ بني صدر إلى الحكومة أمراً معقّداً، بل مقلقاً، بعد هذه الحملة عليه. فهو يستفزّ هذه الجماعة المهتمّة بمطاردة العفاريت، أو بحسب عبارة نُسبت إلى بازركان: “دعوهم لشأنهم، ولا تستفزّوهم ببني صدر أو بسواه. نستطيع في أيّ وقت أن نتدبّر وزير اقتصاد أحسن منه. المهمّ الآن أن نمضي في تشكيل الحكومة وبناء إيران الجديدة”.
[video_player link=””][/video_player]
آخر القصص

السعادة للنساء القويات والمتمردات فقط!

50 مليون طن من الركام الملوّث خلّفتها الحرب الإسرائيليّة على غزة

تخبّط عالمي بعد تعليق التمويل الأميركي… ماذا عن الإعلام المستقلّ والجيش اللبناني؟

مجتمع الميم في سوريا: انتهاك الكرامة الإنسانيّة وترسيخ الإفلات من العقاب !
